الجامعة قاصرة, والمراقبون ضلوا طريقهم

محمد خليفة

الجامعة قاصرة, والمراقبون ضلوا طريقهم:

ولا بد من التدخل الأممي بمشاركة عربية وإسلامية لحماية سوريا

محمد خليفة

[email protected]

للأسف تحققت أسوأ توقعاتنا , ومنحت الجامعة العربية الفرصة للسفاح بشار الاسد للوقوف غدا أمام العالم والكلام مرة أخرى كرئيس دولة , ولولا التقرير التزويري السيء الذي قدمه رئيس بعثة المراقبين الفريق محمد الدابي أمام الاحتماع الطارىء للجنة الوزارية العربية المكلفة بالملف السوري يوم امس , الأحد  8 -1 -  2012 لما استطاع السفاح القاء خطابه حتما . لقد تضمن التقرير المزيف [ بكسر الياء لا فتحها ] للواقع أهم ما في الرواية السورية الكاذبة عن طبيعة ما يحري في البلد .  فالنظام  برأي الفريق الدابي يتعاون بشكل مرض مع اللجنة , ويسهل لها القيام بمهامها , ونفذ الكثير من مطالب المبادرة العربية , وسحب الدبابات جزئيا من المدن وأفرج عن الاف المعتقلين , وإن كان ما زال يحتفظ  بكثير منهم , وزعم التقرير السيء أن هناك " أطرافا " تقتتل وتمارس العنف , والنظام واحد منها ليس إلا ...!  ويزعم أيضا  أن المعارضة والنظام على حد سواء تبادلا كل من ناحيته التأثير السلبي على المراقبين .. إلخ 

لن اواصل الخوض في تفاصيل التقرير الذي لم ينشر نصه الرسمي الكامل , ولا في تحليلها , لأن محللين كثيرين قاموا بالمهمة , وسيقومون , ولكني أركز على أن التقرير مضافا إليه التصريحات المتضاربة للامين العام للجامعة ,  والتي امتدح فيها سير عمل البعثة وقال  يوم الاثنين 2 - 1 - 2012 إنه على أكمل وجه , وعدد الكثير من الانجازات التي حققتها , كإيصال المعونات للمنكوبين , ومعالجة الجرحى وتسليم الجثث  والبحث عن بعض المفقودين والمعتقلين  [ وكأن البعثة ذهبت لهذه الاغراض الانسانية ..!!]  فهما معا  قدما صورة افتراضية لا وجود لها في الواقع عن الأوضاع في سوريا , تقترب كثيرا من خطاب النظام المزور , وتبتعد كثيرا جدا عن خطاب الثورة والمعارضة .

لقد حذرنا من مهمة ودور الجامعة في الازمة السورية قبل صدور التقرير وقبل تصريحات نبيل العربي , لأن العملية برمتها انحرفت انحرافا كاملا وخطيرا عما كانت عليه فكرتها في البداية , نتيجة نجاح  ديبلوماسية النظام بفرض شروطها أولا , وتراجع بعض الدول العربية عن مواقفها المعلنة التي كانت تميل لصالح الشعب  ضد النظام ثانيا , وضعف مواقف الدول الغربية وتخاذلها أمام التشبيح الإيراني في الخليج , ثالثا .

ولا بد لنا كثورة ومعارضة , أن نتفق الان على رفض استمرار  المهمة ودور الجامعة بالمنهجية المتبعة حاليا , لأنها كما سبق وقلنا تشكل حماية للنظام  من أي دور دولي , وتمنحه الوقت الكافي الذي يحتاجه , وتعيد تعويم النظام وتجدد شرعيته التي يفترض أنها سقطت نهائيا في مستنقع الدم , ولم يعد مقبولا مجرد الجديث فيها . وربما كان أسوأ ما في تصور الجامعة لهذه المهمة التي قررت تعزيزها وتحسين شروط أدائها  هو استمرارها لسنوات كما يريد الدابي والعربي ونفر  أخرون من المستفيدين  ...!!! 

 إضافة للاسباب التي سبق أن ذكرناها في مقالينا السابقين [ ] نرى اليوم أن الجامعة العربية  لم تعد مؤهلة للقيام بأي دور إيجابي لصالح الثورة , لأن مواقف الدول العربية فيها انتكست وتراجعت لصالح النظام , والقرارات هي محصلة مواقف الدول الاعضاء طبعا , ونحن الان ندفع من دمائنا ثمن الخذلان القومي لشعبنا .  وكم كان لافتا للنظر ومثيرا الغياب الجماعي لوزراء الخارجية عن الاجتماع الطارىء وخاصة الوزير السعودي ,  وهو أمر مقصود تماما ويعكس التراجع المشار إليه , والذي حدث بتأثير التهديد والتشبيح الإيراني , والمساومات السرية , والمقايضات التي حصلت تحت الطاولة في الاسابيع الأخيرة , وسنعود لها في مقال لاحق بالتفصيل ,

وبتأثير الإصرار الروسي على دعم النظام مقابل ازدياد رخاوة الموقف الأمريكي على المسرح الدولي , والانكفاء السلبي للداخل , وعدم الاكتراث بدماء وأرواح الشعب السوري . ويبدو لي أن انقلاب المواقف وانتكاساتها عربيا وغربيا لم يحصلا بمعزل أحدهما عن الثاني , فكلاهما تبادلا  التأثير حتما .

نحن ندفع ثمن حالة انعدام الوزن في السياسة الخارجية لمصر , وحالة الارتهان العراقي والخليجي لإيران , وحالة خوف وقلق الانظمة العربية الأخرى من انتقال عدوى الثورات العربية إلى شعوبها  , خاصة السعودية والاردنية والجزائرية والسودانية , فضلا عن المغربية .

حالنا الان كمن يطلب سيارة اسعاف لنقل مصاب إلى المستشفي , فترسل إليه دبابة , أو تراكتور , أو  شاحنة !!

أما بعثة المراقبين فقد تحولت إلى بعثة شهود زور حقا , برئاسة العسكري المتورط في أعمال قتل وتشبيح في دار فور وغيرها من مناطق السودان  على مدى عقدين , فتجعلنا نتصور الأمر كما لو أن العماد  أصف شوكت , أو علي مملوك , أو حسن جميل , أو محمد الخولي أو حتى علي دوبا قد اختيروا في مهمة للجامعة العربية لمعاينة الأوضاع الان في اليمن مثلا , أو  في دار فور ..!! نعم المقارنة صحيحة وموضوعية , ولو كانت الجامعة جادة في مهمتها لما أرسلت شحصية  لها مواصفات  وسجل الدابي , بل كانت اختارت شخصية حقوقية أو قضائية أو نضالية لا تخاف في الله لومة لائم .. لا شخصية ملطخة بدماء ابرياء دارفور .  

نبيل العربي  الذي تدحرجت إليه  "الأمانة العامة" للجامعة وسقطت في حجره بالصدفة يتضح للأسف أنه أصغر من المهمة الكبيرة  المأمولة من جامعة  تمثل عشرين بلدا عربيا , ويتصرف كموظف كبير حريص على إرضاء مرؤوسيه ومواصلة الارتقاء في سلم الإدارة وتثبيت مرتبه التقاعدي والمكافأت الإدارية بصرف النظر عن أي شيء أخر , بما في ذلك سقوط الضحايا والشهداء في سوريا بمعدلات متزايدة . وهذا ينطبق على عدد غير محدد من موظفي الجامعة الكبار , بل يخطر لي أحيانا وأنا أستمع لأحاديث أحمد بن حلي الأمين العام  المساعد على الفضائيات , أنه لا يعمل في الجامعة , ولا يدري ما يجري فيها , مع أنه من أقدم المسؤولين فيها !!

نحن ندفع ثمن هذا التضاؤل والتخاذل العربيين على كل مستوى , بما في ذلك القائمين على الجامعة  , ومعهم  وزراء خارجية الدول العربية الذين أصبح بعضهم يذكرني بأندريه غروميكو في الاتحاد السوفياتي السابق أو بالرفيق كاسترو في كوبا  !! 

بشار الاسد وعصابته هو اليوم في أفضل حالاته منذ  تسعة شهور , وبدأ يلتقط أنفاسه , ولم يعد يخشى لا التدخل الخارجي , ولا نزع شرعيته , ولا الإحالة للمحكمة الدولية , ولا من المقاطعة العربية وعقوبات الجامعة ,  وهذا هو سبب اطمئنانه النسبي , وعناده , واستمراره في القتل بمعدلات تتزايد , ولا تنقص أبدا , ويوميا

 مصدر الخطر الوحيد حاليا على النظام هو المواطن السوري الشجاع الذي صمد في حمص وادلب وحماة ودمشق ودرعا ودير الزور والقامشلي ..  إلخ , وهو مستمر  في مقاومة عساكره ودباباته , لا يتراجع ولا ينخدع بمبادرات الأطراف العربية والدولية , ويكتشف الغث والثمين منها , ويعرف كيف يرد عليها .  ولذلك فالمواجهة ستسمر على الارض , أمدا أطول مما يجب, والدماء ستستمر ايضا , فالمواطن السوري مصمم على الانتصار في ظل أعقد وأصعب الظروف التي تكتنف قضيته , والنظام السوري متشبث بالسلطة حتى أخر مواطن , وأخر نفس , ومستعد لمضاعفة جرائمه , ولو باللجوء للوسائل المحرمة وطنيا وأخلاقيا  وانسانيا , كتفخيخ السيارات  وتفجيرها في قلب المدن وقتل الأبرياء لمجرد تعزيز الأكاذيب والافتراءات التي اختلقها لتشويه الصورة , والأهم مما سبق , هو  سعيه الحثيث والمحموم لإشعال النزاعات والأحقاد الطائفية انتقاما من الثورة ومن عامة الشعب السوري , وتهديدا  لهم .  ويبدو لي أن استراتيحية النظام الطائفي الان هي دفع البلاد نحو  حرب طائفية - أهلية  كخيار حتمي في مواجهة الثورة المتعاظمة , والاستعانة بحلفائه الطائفيين في المنطقة في قتل شعبه ,  وتعريض وحدة سوريا وشعبها ونسيجها الوطني للتمزق الطائفي والانفجار والتحلل , لأن كل شيء يرخص في نظره من أجل استمرار سيطرته وحكمه .

لذلك وهو بيت القصيد الذي اشرت إليه في المقال السابق , لا بد لنا كثورة ومعارضة سياسية من إعادة النظر بمواقفنا ومفاهيمنا , على ضوء المتغيرات , وتقليب الاحتمالات , والامور على مختلف وجوهها وجوانبها , إذ  كثيرا  ما انقلبت معايير الصح والخطأ , وتبدلت , وما يكون صحيحا اليوم قد يصبح خطأ شنيعا غدا , والعكس بالعكس . وأرى أن طلب التدخل الخارجي من الامم المتحدة  هو الخيار الصحيح الان , لا لحقن الدماء والتخلص من النظام ولكن من أجل حماية سوريا من الاحتمالين الأكثر خطورة , الجرب الطائفية , وتقسيم البلد .

إنني أقدر وأتفهم مبررات الرفض الذي تتمسك به أطراف مهمة ومحترمة من المعارضة الوطنية السورية  للتدخل الخارجي حتى الان , ولكن هذا الموقف لا يجب ان يكون لاهوتيا , بل لا بد  أن يكون براغماتيا  ,  التدخل الخارجي سيصبح حتميا مع استمرار النظام في جرائمه , وستضطر الدول الكبرى بدورها للتعامل مع الأزمة السورية بغبر الطريقة الحالية , وستبدل النظر في الاسباب والمسوغات , لأنها تعلم أن انفلات الاقتتال الطائفي في سوريا سيشكل شرارة حريق كبير قد تنتقل بسرعة لعموم المنطقة , وستلتقي ربما المصلحتان الوطنية السورية , والمصلحة الإقليمية - الدولية في تشكيل قوة  أممية كافية تحت علم الامم المتحدة ,  وبمشاركة عربية واسلامية رئيسية , من دول بعيدة  جدا لا أطماع لها ولا تثير الحساسية كتركيا , وذلك للمساعدة في حماية سوريا وأمن الأقليات والطوائف فيها , وإسقاط النظام الإجرامي  , ومحاسبته  , وحقن دماء السوريين جميعا , وتوفير الاستقرار  أيضا لجميع بلدان المنطقة وطوائفها الدينية وعناصرها الاثنية

لا بد من طرح هذه الفكرة على بساط البحث من قوى المعارضة كافة ,  بلا قوالب فكرية جامدة , فوحدة سوريا والسلام بين طوائفها ومكوناتها وحقن دماء أبنائها  , هي الأهم  , ولا سبيل إليه إلا بتدخل  خارجي  أممي  من جيوش عربية واسلامية ودولية تحت علم الامم المتحدة وبشروط تكفل وتضمن مصالح سوريا الوطنية وعدم انحراف المهمة عن هذه الشروط كما انحرفت المبادرة العربية , وضلت بعثة المراقبين طريقها ضلالا بعيدا  .