عام كامل من الفوضى اللذيذة انقضى وها هو المستقبل يشع

الشيخ خالد مهنا

عام كامل من الفوضى اللذيذة

انقضى وها هو المستقبل يشع

الشيخ خالد مهنا *

[email protected]

أبشر أيها الإنسان إنك كادح إلى مبدئك وراجع إلى درك المكنون، فقد انقضى ذلك العام ودخل الآن في لب الأبدية وصارت اللحظات حقائق أزلية وكتبت العصافير على الأريكة: لا الحاضر يبقى ولا الماضي يعود وإنما المستقبل يهل.

..............................................................

العالم بأسرة يقف على أبواب سنة جديدة، وكلّ يحتفي بطريقته الخاصة،وكيف يسعد بهذه المناسبة...ولكن هل فكرت الإنسانية في هذه المناسبة  السنوية كما انها تلتقي على الشعور المشترك بالغبطة، ان تشترك في دفع الضراء عن بعضها البعض كما تشترك بالسراء.وقد صدق من قال:

من أراد معرفة اخلاق الأمم فليراقبها في أعيادها!!... اذ تنطلق في هذه المناسبات السجايا على فطرتها وتبرز قناع او حجاب،والمجتمع السعد هو الذي  تسمو أخلاقه الاجتماعية في العيد!! إلى أرفع ذروة ويمتد شعوره الإنساني إلى أبعد مدى،وذلك حين يبدو في هذا اليوم العالمي متماسكاً..متآزرا... متعاضدا.. متراحماً حتى ليخفق فيه كل قلب بالود والحب والتراحم ويذكر فيه كل إنسان مصائب إخوانه في الإنسانية...

فيا ترى ما هو نصيب أهل الأرض التي تستعد وتتحضر للساعة الثانية عشرة من نهاية العام من هذه المعاني؟ وما هو واقع اخلاقنا الاجتماعية فيها؟

فمن من  المحتفين من يستعد للتصدي للسؤال عن المحتاجين وقضاء حاجاتهم؟

**حدث إمام أهل المغازي والسير ، القاضي محمد بن عمر الواقدية فقال : كان لي صديقان ، أحدهما هاشمي ، وكنا كنفس واحدة ، فنالتني ضِيقَةٌ شديدة ، وحضر العيد ، فقالت لي امرأتي :

أمَّا نحن فنصبر على البُؤْس والشدة ، وأمَّا صبياننا فقد قَطَّعُوا قلبي ، لأنَّهم يرون صبيان الجيران قد تَزَيَّنوا في عيدهم ، وأصلحوا ثيابهم ، وهم على هذه الحال من الثياب الرَّثَّة ! فلو احتلت بشيء تصرِفُه في كسوتهم !

قال الواقدي : فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله مواساتي بما حضره ، فوجَّه إليَّ كيساً مختوماً ، ذكر أنَّ فيه ألف درهم ،

فما استقر قراري حتى كتب إليَّ الصديق الآخر : يشكو مثل شكواي ، فوجَّهتُ إليه الكيس بحاله ، قبل أن أفتحه ، وخرجت إلى المسجد ، فأقمت فيه ليلي مستحيياً من امرأتي ، ثمَّ رجعت ، فلما دخلت عليها استحسنتْ ما كان مني، ولم تعنفني عليه ؛ فبينا أنا كذلك إذ وافاني صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته ، فقال لي : اصْدُققْني عَمَّا فعلتَه فيما وجهتُ إليك ، فَعَرَّفتُه الخبر ؛ فقال لي : إنَّك وجَّهتَ إليَّ تسألني العون ، وما كنتُ أملك إلاَّ هذا الكيس ، فبعثته إليك ، ثمَّ أرسلت إلى صديقي الآخر أسأله المواساة ، فَوَجَّه إليَّ بكيس ، فإذا هو كيسي وعليه خاتمي !

قال الواقدي : فتواسينا الألف ، وقسمناها بيننا أثلاثاً ، بعد أن أخرجنا لزوجتي مئة درهم...ونما الخبر الى المامون فدعاني وسالني فشرحت له الخبر فأمر لنا بسبعة الاف دينار لكل واحد منا الفا دينار وللمراة الف دنار

هذا هو التعبير الصادق عن سمو الأخلاق الاجتماعية في الأمم...

فهل نذكر معاناة البؤساء والمحرومين والثكالى والمضطهدين في هذه المناسبة أم أنهم سيظلوا في خانة المنسيين أو المهملين؟

هل سنذرف من أجلهم  دمعة.. أو نذكرهم لدقائق..هل نعينهم ولو بكلمة طيبة أو ابتسامة حانية في إدخال سرور إلى قلوبهم...

أغلب الظن أن مظاهر أفراحنا الشخصية ستكون نفس المظاهر التي اعتادت الأمم أن تقيمها في كل مناسبة،وكأن دنيانا وعالمنا الممزق لا يمتلأ بالنوائب والأرزاء والكوارث،وكأن أمتنا لا تقوم  في بعض أجزائها مأتم الحزن على ضحاياها وشهدائها.... وأنا لا أطالب الإنسانية  أن تلبس ثياب الحداد في هذه المناسبة،ولا الإعتكاف في البيوت كما يعتكف المرزوء بفقد حبيب أو قريب..كل ما أرجوه أن تظهر الشعوب والأمم بمظهر الإنسانية الواعية..التي لا يحول احتفاؤها بمناسباتها دون الشعور بمصائب الآخرين...

أريد أن تشعر الإنسانية ولو لدقائق بمظهر الإخاء فتظهر بعض التعاطف مع مآسي المضطهدين والمنكوبين في شتى اجتماع الدنيا...... أريد أن تقتصد بمظاهر الأفراح لحظة ولوج العام الجديد تبدو على وجوهنا قبل إطلاق الصافرات والمفرقعات مسحة من الحزن الوقور يدل على أن شيئاً مشتركا يجمع الأمم...

**عام يطوي بساطه، ويقوض خيامه، ويشد رحاله

جادت قريحة أحد الأدباء في وصف مناسبة وداع العام، فجرى قلمه بقوله:

( رأيت على الطريق شبحاً يسير منهوكاً، على الطريق الذي لا يمتد في سهل ولا وعر، ولا يسير على سفح جبل ولا شاطيء بحر، ولا يسلك الصحراء، ولا يخترق البساتين، ولكنه يلف السهل والوعر والجبل والبحر، والصحراء والبساتين، وكل ما تحتويه ومن يكون فيها على الطريق الطويل الذي يلوح كخط أبيض ويغيب أوله في ظلام الأزل، ويختفي آخره في ضباب الأبد.

رأيت شبحاً يسير على طريق الزمان، وسمعت صائحاً يصيح بالدنيا النائمة: تيقظي تيقظي، إن العام يرحل الآن، أمن الممكن هذا؟ أيحدث هذا كله في هدوء؟

يموت في هذه الليلة عام، ويولد عام، ويمضي الراحل بذكرياتنا وآلامنا وآمالنا إلى حيث لا يعود أبداً.

ويقبل القادم فاتحاً ذراعيه، ليأخذ قطعة من نفوسنا وجزءاً من حياتنا، ولا يعطينا بدلاً منها شيئاً.

هل الحياة إلا أعوام فوق أعوام؟ وهل النفوس إلا الذكريات والآلام... )

 لقد أزف رحيل هذا العام فها هو يطوي بساطه، ويقوض خيامه، ويشد رحاله، وكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، عام كامل........... تصرمت أيامه، وتفرقت أوصاله، وقد حوى بين جنبيه حِكماًوعبراً، وأحداثاً وعظات، فكم، من  شقي فيه من أناس، وكم سعد فيه من آخرين؟ كم طفل قد تيتّم، وكم من امرأة قد ترمّلت، وكم من متأهل قد تأيّم؟ مريض قوم قد تعافى، وسليم قوم في التراب قد توارى، أهل بيت يشيعون ميتهم، وآخرون يزفون عروسهم، دار تفرح بمولود، وأخرى تعزّى بمفقود، عناق وعبرات من شوق اللقاء، وعبرات تهلّ من لوعة الفراق، وآلام تنقلب أفراحاً، وأفراح تنقلب أتراحاً، أحد يتمنى زوال يومه ليزول معه غمه وهمه وقلقه، وآخر يتمنّى دوام يومه ليتلذذ بفرحه وغبطته وسروره.

أيام تمر على أصحابها كالأعوام *** وأعوام تمر على أصحابها كالأيام

مرّت سنون بالوئام وبالهنا *** فكأننا وكأنها أيام

ثم أعقبت أيام سوء بعدها *** فكأننا وكأنها أعوام

أحدهم يُلقي عصا التيار حيث استقر به المثوى، وآخر يضرب في الأرض طلباً للرزق والمأوى.

حضر فلان وغاب فلان، ومرض فلان، ودفن فلان، وهكذا دواليك، تغيّر أحوال، وتبدل أشخاص، فسبحان الله ما أحكم تدبيره، وما أجلّ صنعه، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويعطي من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله، وربك يخلق ما يشاء ويختار، أمور تترى، تزيد العاقل عظة وعبرة، وتنبه الجاهل من سبات الغفلة، ومن لم يعتبر بما يجري حوله، فقد غبن نفسه.

خليلي كم من ميت قد حضرته *** ولكنني لم أنتفع بحضوري

وكم من ليال قد أرتني عجائباً *** لهنّ وأيام خلت وشهور

وكم من سنين قد طوتني كثيرة *** وكم من أمور قد جرت وأمور

ومن لم يزده السنّ ما عاش عبرة *** فذاك الذي لا يستنير بنور

تختلف رغبات الناس ويتغاير شعورهم عند انسلاخ العام، فمنهم من يفرح ومنهم من يحزن ومنهم من يكون بين ذلك سبيلا.

فالسجين يفرح بانسلاخ عامه؛ لأن ذلك مما يقرّب موعد خروجه وفرجه، فهو يعد الليالي والأيام على أحر من الجمر، وقبلها تمر عليه الشهور والأعوام دون أن يشعر بها، فكأنه يحاكي قول القائل:

أعدّ الليالي ليلة بعد ليلة *** وقد عشت دهراً لا أعدّ اللياليا

وآخر يفرح بانقضاء العام؛ ليقبض أجرة مساكن وممتلكات أجّرها حتى يستثمر ريعها وأرباحها.

وآخر يفرح بانقضاء عامه من أجل ترقية وظيفية: إلى غير ذلك من المقاصد التي تفتقر إلى المقاصد الأسمى وهو المقصد الأخروي، فالفرح بقطع الأيام والأعوام دون اعتبار وحساب لما كان فيها ويكون بعدها هو من المتبع المغبون.

إنا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مضى يدني من الأجل

فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً *** فإنما الربح والخسران في العمل

ان على العاقل أن يتدارك أوقاته، وأن يعد أنفاسه، وأن يكون حافظاً لوقته شحيحاً به، فلا يفرط في شيء من لحظات عمره إلا بما يعود عليه بالنفع في الدنيا والبرزخ والآخرة.

فالعمر قليل والأجل قريب، ومهما طال الأمد فلكل أجل كتاب.

قيل لنوح عليه السلام، وقد لبث مع قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً: ( كيف رأيت هذه الدنيا؟ ) فقال: ( كداخل من باب وخارج من آخر ).

فيا من متعك اللّه بالصحة والعافية، فأنت تتقلب في رغد العيش والملذات، تفطن لسني عمرك، فربما يفاجئك الأجل وأنت في غفلة عن نفسك فتعض أصابع الندم، ولات حين مندم، ولات حين مناص.

ثم تذكر أن ذلك التنعم والترفه الذي كنت فيه صباح ومساء قد يعقبه ما ينسي لذاته كلها، كما أن من عمر أوقاته بطاعة اللّه وهو يعيش في ضيق من الأمر وقد قدر عليه رزقه، قد يعقب ضيق عيشه ما ينسيه ألمه وفقره.

قال  : يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما مرّ بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قطّ } [أخرجه الإمام مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه].

أليس من الخسران أن ليالياً *** تمر بلا نفع وتحسب من عمري

إن تعاقب الشهور والأعوام على العبد، قد يكون نعمةً له أو نقمةً عليه، فطول العمر ليس نعمةً بحد ذاته، فإذا طال عمر العبد ولم يعمره بالخير فإنما هو يستكثر من حجج الله تعالى عليه، أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله  : {خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله }.

طول الحياة حميدة *** إن راقب الرحمن عبدهُ

وبضدها فالموت خير *** والسعيد أتاه رشده

ويقول الآخر في وصف من لم ينتفع بعمره:

شيخ كبير له ذنوب *** تعجز عن حملها المطايا

قد بيضت شعره الليالي *** وسوّدت قلبه الخطايا

إن هذا العام الذي ولى مدبراً قد ذهب ظرفه وبقي مظروفه بما أودع فيه العباد من الأعمال، وسيرى كل عامل عمله   يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً...   [آل عمران:30].

سيرى كل عامل عمله   لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ   [الأنفال:42]،   وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ  [فصلت:46].

سيُسأل العبد عن جميع شؤونه في الدنيا، وربه أعلم، لكن ليكون الإنسان على نفسه بصيرة، أخرج الإمام الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله  : لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند الله حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم؟ }.

وفي رواية للترمذي أيضاً عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله  : لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه ما فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟ }فالحذر الحذر من التفريط والتسويف.

ندمت على ما كان مني ندامةً *** ومن يتبع ما تشتهي النفس يندمُ

ألم تعلموا أن الحساب أمامكم *** وإن وراكم طالباً ليس يسلمُ

فخافوا لكيما تأمنوا بعد موتكم *** ستلقون رباً عادلاً ليس يظلمُ

فليس لمغرور بدنياه راحة *** سيندم إن زلّت به النعل فاعلموا

فيا من ضيّع عمره فيما لاينفع، ألم تعلم أنك تستكثر الأثقال على نفسك وتزيد حجة الله عليك، فكم مرّ عليك من الأعوام وأنت تتمتع بثوب الصحة والعافية ومع ذا وذاك لم تؤد زكاة صحتك وعافيتك، بل أصبحت مغبوناً فيهما لما ضاع عليك من الأعمال دون استثمار وتحصيل للآخرة.

عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله  : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ } [أخرجه الإمام البخاري].

والعجب أن بعض الناس يتفقد صحته صباح مساء ولا يدخر جهداً ولا مالاً ولا وسعاً في الذهاب إلى الاستطباب كلما أحس بعارض، وهذا من فعل الأسباب المشروعة.

لكن التناقض أن تراه غافلاً عن صلاح قلبه وجوارحه، وربما يشب ويشيب ويموت على ذلك.

*عام الخير لنا وعام الشر لهم، بل هو الخصب والجمال والحلم لشبيبة المستقبل

مما لا شك فيه ان عام 2011 المتصرم  سنة استثنائية بكل المقاييس على الصعيد الذاتي والموضوعي. وما حدث فيها لم يخطر ببال أحد ولم يتمناه أكثر الحالمين ولم يدر بمخيلة أكثر الرياضيين. إنه عام البطشة الكبرى وزمن الواقعة التي أذلت من كان عزيزا وحاكما، وأعزت من كان ذليلا ومستضعفا ورفعت المطارد والمظلوم وخفضت بالمستبد والظالم.

عام يمضي دون بطش  يجثم على صدورنا ودون حزب حاكم وجوسسة داخل اللاشعور ودون حكم شمولي.............. عام كامل من الفوضى اللذيذة والحرية العزيزة والكرامة البارزة والإنسانية المتحققة والكينونة المستعادة. عام من الثورة الدائمة ومن الانفجار والتمرد والاعتصام والإضراب والمسيرات والاحتجاجات والرفض والكنس والتحطيم والهدم والقطع والهجوم والحرب والركل والرفس والضرب والصراخ والتصميم والتجاوز والتعفف والتعالي والتسامح والتبري والتصالح والإدماج والتكاتل والتلاحم والتكاتف والتعاضد.

إنه عام اجتمعت فيه جميع المتناقضات وتجادلت فيه عدة أضداد وتعاكست المقابلات وتعاندت الأزواج الميتافيزيقية بين جهة وأخرى، الهروب والرجوع، الخروج والدخول، الموت والحياة، الثورة والتأسيس، الفرح والحزن، القيام والقعود، الشجاعة والخوف، الرجاء والهلع، التفكيك والبناء، السقوط والصعود، التوحش والتمدن، التفويت والتملك، العقاب والجزاء، النضال والخيانة. عام الخير لنا وعام الشر لهم، بل هو الخصب والجمال والحلم لشبيبة المستقبل وعام الشؤم والقبح واليأس للمفسدين.

عام دون دكتاتور ذلك هو بيت القصيد ومن دون دسيسة في مفترق الطرقات ومن دون مكيدة عند المساء قبل العودة إلى البيت ومن دون شرطي يراقب حركة الفكر وعصا تؤدب الجسد وجهاز رقابة يجهر العين.

قليل من القوت والكساء والنقود حصل عليه الناس ولكن الكثير من الغبن والذل والاستغلال والتهميش والإقصاء والتمييز خسروه والكثير من العزة والاعتراف والانصاف والقسط والاصغاء حصدوه.

. لقد عشنا لعقود بلا أمل وليس لنا ثقة في المستقبل ولكن تلك السنة المنصرمة حملت معه كل الأمل وزادتنا ثقة في علم بلادنا ونشيدنا الوطني وإرادة شعبنا وعلمتنا حب الحياة والحق في الثورة والانتصار إلى الكرامة قبل الخبز دائما وأبدا وتضاعف ولاؤنا لفلسطين والعروبة واشتد إيماننا بالإسلام وتوكلنا على الله.

لقد نطق الشعب أخيرا وقال كلمته الحاسمة وانتصر الثوار  وصاحت الجموع في الشوارع وودعت الصمت الاضطراري وصارت تثرثر من الإفراط في الحكي وتبكي من شدة المرح.

لقد شد الشباب الرحال نحو العلم والمعرفة وأقبل الطلاب على المطالعة والكتب والتدوين وتفتحت قريحة الشعراء على أجمل القصائد وسافر خيال الأدباء إلى عوالم العجيب الخلاب وتنفس العمال الصعداء وتصيد الفلاسفة فرص طلب الحكمة وتخطت عزيمة الرياضيين كل الحواجز وتنادى الكل بجود الوجود.

اليوم تتذكر الأمهات الشهداء وترقص الصبايا على مجد الزمن ويحتفل الثوار بيوم الغضب ويخرج الفتية عن بكرة أبيهم إلى الساحات رافعين رايات الحرية منددين شعار الكرامة والاستحقاق وتنحني الأشجار إجلالا ليوم النصر العظيم وانبلاج النور من عتمة الليل وانخلاع الطغاة عن العروش وكنس القصور.

ما أجمل ذلك اليوم وما أروع حديث القيام وما أدهش آية الواقعة وما أضيق الدنيا على الهاربين وما اتسع الزمان على الفاسدين وما أقسى الحياة على الظالمين، وما أحلك الليل على المنافقين وما أقصر الطريق على الطامحين.

أبشر أيها الإنسان إنك كادح إلى مبدئك وراجع إلى درك المكنون، فقد انقضى ذلك العام ودخل الآن في لب الأبدية وصارت اللحظات حقائق أزلية وكتبت العصافير على الأريكة: لا الحاضر يبقى ولا الماضي يعود وإنما المستقبل يهل. لكن حذار لا يجب أن تنسى الشعوب الحرة حكمة جان جاك روسو القائلة: "قد يفوز المرء بالحرية، ولكنه متى فقدها لن يسترجعها إلى الأبد". فهل يظل عشق الثائر لحلمه أشد من رضاه بسلطة مستبد ناعم؟.

                

* رئيس الحركة الإسلامية في ام الفحم وضواحيها..

رئيس الدائرة الإعلامية في الحركة الإسلامية القطرية-الداخل الفلسطيني.