رد على معارضي إرادة الشعوب
محمد العلي
أن يبغض غليون أو غير غليون الدين والفكر الديني أو أن يكون علمانياً حتى العظم أو يسارياً إلى النخاع ، ويؤمن بضرورة سلخ الدين عن الدولة ، فهذا خياره الذي لا يكرهه أحدٌ على تغييره : {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] ، لكن أن يفرض فلسفته وفكره على الناس فرضاً ، فهذا مردود عليه وليس له إليه سبيلاً بعد أن غدت الحرية ضرورة تاريخية ومطلباً شعبياً ، وهو من أجل ذلك تجده يقزِّم في أكثر من مقام وعلى منابر إعلامية شتى الأغلبية المسلمة في سوريا حتى يصيرها أقلية ، فهذا يثير لدى السوريين القلق خاصة عندما يصدر الكلام عن أول رئيس للمجلس الوطني السوري ، المنوط به عملية التغيير والبديل المفترض لنظام بشار الأسد المستبد ، ولا غرو أن يقول السوريون : أفنستبدل مستبداً بمثله ، يحمل عقلية التهميش والإقصاء ، ليظل المسلمون في أوطانهم أكثرية مستضامة !؟. فالمسلمون يقصد السنة - حسب الإحصاء الغليوني - لا تتجاوز نسبتهم 60 أو ربما 65% ، ثم يُخْرِجُ منهم العلمانيين واليساريين ، وما فتئ ينفخ فيهم ويضخم حجمهم علماً بأنهم آحادٌ مغمورون أو أوْزَاعٌ من النَّاس لا وزن لهم في الشارع ونكرات لا يعرفهم أحد قبل هذه الثورة المباركة حتى غليون نفسه لم يعرفه الشعب السوري إلا من خلال الثورة ، ثم يُخْرِجُ من تعداده الكرد ، كونهم أصحاب مشروع قومي ، وكأن الكرد اتخذوا دينهم وراءهم ظِهْرِيَّاً ، ويتابع غليون في عملية ضغط الكتلة المسلمة لتقليص حجمها وتحقير شأنها بل ومحوها وتذويبها لو استطاع إلى ذلك سبيلاً ، وفي السياق نفسه يهمش الاتجاه الإسلامي ، ويصغر من حجمه ويقلل من خطره ، وربما يريد من وراء ذلك أن يبعث رسالة يطمئن فيها أمريكا والغرب الذي يساوره القلق من صحوة الأمة المسلمة ، بأنه لا مكان للإسلاميين في حكم سوريا ومستقبلها ولا مكانة !.
رسائل كثيرة يوجهها الشعب السوري - عبر الهتافات واللافتات والرايات والأناشيد والأهازيج والقاشوشيات - إلى بعض رموز المعارضة الذين يحادُّون الله وإذا سمعوا ذكره اشمأزت قلوبهم لكنهم على ما يبدو يُصمُّون آذانهم عنها ، السوريون يقولون لهم : نحن السوريين متدينون بالفطرة وأي محاولة لمخالفة الفطرة أو إنكارها والانتقاص من القيم الدينية والروحية فإن السوريين سينكرونها وينبذونها هي ومن ينعق بها نبذ النواة !.
غليون وأدونيس ومناع ومن لف لفهم يتخوفون من أن تكون الثورة السورية " إسلامية " وبعضهم يستخدم تعبير ( أسلمة الثورة ) وهو مصطلح خطأً مبنىً ومعنىً ولا يستسيغه الذوق العام ، فالإسلام في سوريا ليس غريباً عنها ولا طارئاً عليها بل هو دينها وفطرتها وتاريخها وحضارتها وعقلها وروحها ونسغها ، ولا يمكن سلخ سوريا عن إسلامها ، وكل عملية من هذا القبيل محكوم عليها بالفشل ، نعم قد تؤخر سوريا وتعرقل نهضتها – كما وقع في فترة الستينات وما بعدها من القرن الماضي - لكن سوريا أكبر منهم وهي في نهاية الأمر ترجع رغم أنوفهم إلى دينها وثقافتها وفطرتها ويرجع إليها .
لكني أقول هنا : ثورتنا وطنية بامتياز بمعنى أنها ليست طائفية ، وهي تنادي على الطوائف جميعها بالالتحاق بركب الثورة والمسارعة فيها ، وتنادي بملء صوتها دون مواربة ولا روغان بأن سوريا للجميع ، لكن الثورة وإن كانت وطنية فإنها إسلامية الصبغة والروح ؛ ألا ترى جموعها المتدفقة كالسيل الهادر تخرج من الجوامع !؟. ألا تسمع هتافاتها وشعاراتها وتكبيراتها !؟. ألا تسمع نداء التوحيد وضجيج التكبير الذي تصدح به الحناجر ؟. أما تسمع الشباب وهم في أرض المعركة يحرصون على تلقين إخوانهم الشهادتين وهم يجودون بأرواحهم ؟. ألا ترى أن كتلتها الأكبر هم مسلمون بينما لا تزال الطوائف الأخرى تنظر وتنتظر ولما تحسم أمرها بعد وقد بلغت الثورة شهرها السابع وتوشك أن تضع حملها !؟. وتأمل شهداء الثورة السورية فسترى أن جلهم إن لم يكن كلهم مسلمون ؛ فليتولَّ قارَّها من تولَّى حارَّها وليذق حلاوتها من ذاق مرارتها!. نعم هناك شرفاء أحرار من كل ألوان الطيف السوري ونفتخر بهم ونباركهم ونقدرهم وهم إخوتنا في ثورتنا ونحن وإياهم همٌّ واحد وهدف واحد ودرب واحد وربٌّ واحد !.
ثم لِمَ يحزنك أن تكون إسلامية أو يغلب عليها هذا الطابع ، والإسلام دين جامع ووعاء واسع يحتضن جميع المواطنين ، وهو وإن كان ملة المسلمين لكنه حضارة وثقافة ولسان جميع السكان ؟.
ولِمَ تعجب أن تكون ثورتنا إسلامية أو يغلب عليها هذا الطابع ، وقد نيل من الإسلام من قِبَل هذا النظام الجائر على مدى أربعين سنة ، إقصاءً وتشويهاً وتآمراً وتخريباً !؟.
إن اجتماع المتظاهرين في الجوامع ليس لأنها توفر لهم فرصة الاجتماع فحسب بل لأنها محاضن الثورة ومدرستها وموطنها الذي يمنحها قُوْتَها وقُوَّتَها ، ويرفدها حتى تبلغ غايتها ومنتهاها !.
وأخاطب المثقفين الذين يتعالون على ثورات شعوبهم وثقافاتها ودياناتها ، وأقول لهم : هلموا إلى الميدان ، وشاركوا الشعوب في آلامها وتضحياتها ، وبعد ذلك قولوا ما عندكم فإن رآه الناس حسناً اتبعوكم وأخذوا بأحسن ما عندكم أم تريدون " اغتيال الشعب " بذريعة أنه لم ينضج بعد ولم يبلغ مرحلة الرشد ، وتفرضون عليه الوصاية مرة أخرى ؟!. أم تريدون إعادة «اغتيال العقل» ، - وبالمناسبة «اغتيال العقل» عنوان كتاب لغليون- واجترار المرحلة العقيمة التي تقوقعت فيها الحداثة العربية في دائرة النخبة وظلت حليفاً لصيقاً لها ، وجعلت من المثقفين العرب حراساً لأوهام وشرطة لعقائد وأيديولوجيات، سعوا إلى فرضها على الجماهير العربية عنوة ( غليون ، مجتمع النخبة ، 1985) .
والذي لا ينقضي منه العجب أن أولئكم القوم لا يجدون اليوم في عهد " الربيع العربي " حرجاً في الانقلاب على الديمقراطية التي يتشدقون بها ، وتفصيل ديمقراطية أخرى مختلفة عن تلك التي نعرفها ، ويضعون لها " فلتر " يسمح بمرور العلمانيين دون غيرهم فإذا نفذ الإسلاميون فإنها تشترط عليهم حينذاك أن يتخلوا عن برامجهم ومناهجهم وشعاراتهم وراياتهم قبل أن يعتلوا سدة الحكم ، وبتعبير آخر : نسمح بحزب إسلامي لكن دون إسلام !. إذن ما الفرق بينه وبين الحزب الشيوعي مثلاً أو أي حزب علماني أو يساري آخر!؟. واليوم وبعد أن عرف العلمانيون سعرهم وقدرهم عند شعوبهم وحجمهم في صناديق الاقتراع الشفافة ، ابتدعوا " دكتاتورية الدولة المدنية وحقوق الأقليات " لإجهاض الديمقراطية والالتفاف عليها وبالتالي مصادرة حق الشعب في الحكم !.
لقد جربت الأمة العلمانية التي استولى أصحابها على الحكم ، وفُرِضَت على شعوبنا في أكثر البلدان العربية والإسلامية بالغلبة والقهر والخداع ، وتجرعنا غصصها وذقنا مراراتها وآلامها ، وتخلفت الأمة ولم تتقدم - كما وعدونا وكذبوا علينا أكثر من نصف قرن - ورجعت القهقرى في جميع نواحي حياتها وعلى كافة الأصعدة ، وساموا شعوبهم سوء العذاب ، وألبسوهم ثوب الذل والضَعة والصَغَار ( بفتح الصاد ) ؛ أفبعد أن جربت الأمة العلمانية التي اكتوينا بنارها جميعاً ؛ يبرز لنا غليون وغير غليون ، ليفرضها علينا ثانية !؟. أفبعد أن قدمت الأمة آلاف الشهداء والجرحى والأسرى وبذلت النفس والنفيس والغالي والرخيص في سبيل استرداد حريتها وتحرير وطنها يأتي شرذمة من غلاة العلمانية لمصادرة حرياتهم واحتلال وطنهم من جديد ودفع «الدولة ضد الأمة» وهو للتذكير عنوان كتاب لغليون ؟. هيهات هيهات فالأمة أوتيت رشدها وملكت أمرها ولن تسمح باستنساخ الاستبداد مرة أخرى تحت أي مظلة أو عنوان حتى لو كان باسم حماية الديمقراطية نفسها !. بل الأمر والحُكْم في هذه القضية وغيرها إلى الشعب وصناديق الاقتراع الشفافة والانتخابات النزيهة ؛ يرى فيها رأيه ، ولن نقبل إلا رأيه ، فهو المرجع والحَكَم فيما شجر بيننا ، وإليه مصير الأمور ؛ أليست هذه الديمقراطية التي تبشرون بها أم أنكم ستنقلبون عليها ما لم تحملكم إلى سدة الحكم ( حماس في فلسطين وجبهة الإنقاذ في الجزائر ) !؟. نبئوني ، أتريدون الديمقراطية التي طالما تغنيتم بها إلى درجة ممجوجة أم الاستيلاء على السلطة على الطريقة الأسدية الأبدية وسنة عمكم القذافي ؟.