يسقط، يسقط "وول ستريت"

أ.د. ناصر أحمد سنه

يسقط، يسقط "وول ستريت"

أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر

[email protected]

بعد إحتجاجات شديدة في اسبانيا وبريطانيا واليونان.. هاهي حركة "احتلوا وول ستريت" قد سارت علي خطي "الربيع العربي الثائر"، الذي اجتاح منطقة العربية، وأطاح، حتى اللحظة، برؤوس نظام تونس، ومصر، وليبيا. فيما لا تزال رياح التغيير تهب علي مناطق أخرى.

ومع دخول حركة "احتلوا وول ستريت" الأسبوع الرابع واكتسابها زخماً داخلياً، وتعاطفاً شعبياً خارجيا..أعلنت الحملة موعداً للتحرك ضد المصارف"، في حين تستمر حركة الاحتجاجات السلمية، في حي المال والأعمال بنيويورك، ووصفها المرشحان الجمهوريان للانتخابات الرئاسية العام المقبل، هيرمان كين ونيوت غينغريش بأنها "صراع طبقات."

بدأت المظاهرات بجماعات مناهضة للاستهلاك، وموالية للبيئة. واستقطب الحدث المتظاهرين الذين يرغبون في التحدث علنا ضد جشع الشركات، وعدم المساواة الاجتماعية ، وتغير المناخ العالمي الخ. كما هدفت إلى تسليط الضوء على هيمنة المؤسسات المالية النافذة على اقتصاد أمريكا والعالم بأسره. وهناك غضبا عاماً لأن أولئك الذين ساعدوا في إحداث الأزمة المالية يقاومون الآن الجهود الرامية لكبح الممارسات الخاطئة. لذا دعت الحركة إلي توجيه الاحتجاجات ضد "الظلم الاجتماعي" نتيجة فساد النظام المالي:"لن تصادر المصارف بيوتنا، ولن تسلب الطلاب المستقبل، ولن تقدر على تدمير البيئة، ولن تمول الحروب البائسة، ولن تتسبب المصارف في كم هائل من البطالة، كما لن تحقق أرباحا من الأزمات الاقتصادية دون مشقة." وسوف يحددون مطالب محددة.

وقد ألقي الرئيس الأميركي باراك أوباما خطاباً برر فيه مطالب المحتجين، معتبرا "أنها تعكس إحباط الشعب الأميركي من الأزمات الاقتصادية التي تضرب الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي". من المثير أن مؤسسة "التقدّم الامريكي" اهتمت بدعم حركة "احتلال وول ستريت" فهذه المؤسسة يترأسها رئيس اركان البيت الابيض في عهد بيل كلينتون، وهي قريبة ايضاً من ادارة الرئيس الديموقراطي الحالي باراك اوباما وقالت في احد منشوراتها وهي تبرّر ما يعترض عليه المتظاهرون أن 1% من الأمريكيين يملك 40% من ثروة البلاد، أما الطبقة العاملة والفقيرة وتصل إلى 80% من الأمريكيين فتملك 7% من الثروة الوطنية بالإضافة إلى ذلك تقول الإحصائية الصادرة عن مؤسسة "التقدّم الأمريكي" إن 1% من الأمريكيين يملك 50 % من الأسهم وسندات الخزينة وصناديق الاستثمار فيما يملك 50% من الأمريكيين 0.5% من هذه الأسهم والسندات والصناديق.

 

يسقط، يسقط "وول ستريت".

لا شك أن حركة الإحتجاجات، التي بدأت في 17 سبتمبر/أيلول الفائت، قد توسعتواكتسبت بعداً جديداً، سواء في أعداد المشاركين فيها أو في رقعة انتشارها (حتي أن العقيد الليبي الفار الهارب ينسبها إلي نفسه، وقصاصا من أمريكا). وامتدت إلى مدن أمريكية أخرى منها لاس فيغاس، وأريزونا وواشنطن."

فى أكتوبر من عام 1929 وقع ما يعرف فى تاريخ العالم الرأسمالى كله بـ«الكساد الكبير». استمر هذا الوضع الاقتصادى والاجتماعى  نحو عشر سنوات. ارتفعت اعداد العاطلين فى امريكا الى واحد بين كل أربعة من العمال. انتحر من انتحر من المستثمرين ومن المضاربين فى البورصة، وتحول من تحول الى متسولين بمئات آلاف فى شوارع المدن الأمريكية والأوروبية. ولا تزال كل موجة ركود تصيب العالم الرأسمالى أو بعض اجزائه تقاس فى شدتها إلى ذلك الكساد الكبير. فإذا اقتربت المؤشرات منه اعتبر أى كساد كارثة اقتصادية. مع ذلك لم يخطر ببال احد من الطبقة العاملة الامريكية او من رجال الاعمال الذين ضربهم الإفلاس فى احتلال حى المال والأعمال فى نيويورك حيث تقع سوق الأوراق المالية (البورصة) الرئيسية فى أمريكا. ولكن هذا حدث يوم 17 سبتمبر الماضى.

لكن يبقي سيل الأسئلة؟!

هل الإنسان مجموعة من الحاجات والغرائز والدوافع، إذا لُبيت ـ استهلاكاً وإشباعاً" من "رأسمالية وول ستريت" ـ تحققت كينونته وسعادته؟. العالم يعاني من "السيولة" القيمية و"الذبذبة" الأخلاقية و"النسبية" النفعية الحاكمة لعصر الحداثة وما بعدها مستندة إلى الفرودية، والحتمية البيولوجية، والنفعية البراجماتية، والعلمانية؟، دونما اعتبار للشوق الروحي، والبعد الأخلاقي الإلهي والفطري.

نريد أن تكسب الإنسانية أنموذجا للقيم السامية والثابتة والشاملة والوسطية والواقعية والمنفتحة.. تتأكد فيه الكرامة الإنسانية بشقيها الروحي والمادي:"ولقد كرمنا بنى لآدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا"(الإسراء: 70)، كما تكسب هدايتها للمعروف كل معروف، ونهيها عن المنكر كل منكر، وتمتعها بالطيبات كل الطيبات، واجتنابها الخبائث كل الخبائث، وستضع عنها أصرها وعنتها والأغلال التي عليها، فيتراجع شقائها، وتزداد سعادتها الحقيقية. فأخلاقيات تهيمن على شتى مناحي الحياة، بلا انفصام أو تعارض، أنموذجا تنويراً حقيقياً، وتبيانا شافياً، وتصحيحا وافياً لأزمة الإنسان المعاصر وشقائه:"قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب، ويعفوا عن كثير، قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين"(المائدة:15).

"رأسمالية وول ستريت" ، ومشكلة الجوع، وتزايد معدلات البطالة والفقر والديون

الاقتصاد العالمي وفي لبه "رأسمالية وول ستريت" "ينتقل من اللامساواة إلى اللاإنسانية"، فليست الموارد: ناضبة والغذاء يقل عن الوفاء باحتياجات الزيادة السكانية، كما زعم "مالتوس"، مكرساً أحقية البقاء للأغنى، فهم الملاك الحقيقيين للثروة، والأحرار في التصرف فيها كيفما يشاءون، وموت الأضعف عبر المجاعات والأوبئة والحروب بينما الأراضي المزروعة عالمياً تمثل فقط10 % من الصالحة للزراعة، ومشكلة الغذاء العالمي تكمن في عدم عدالة توزيعه، حيث أغنياء متخمون وفقراء مدقعون، واستغلاله في كثير الأغراض المادية والسياسية.

إن نحو مليار من البشر هم الأقل فقرا في العالم حيث يقل دخلهم اليومي عن دولار واحد، فهل يحقق"358" مليارديرا (يملكون ما يعادل دخول نصف سكان العالم)، ونحو"500" من الشركات متعددة الجنسية (الأقوى نفوذا من الدول والحكومات والتي تدعو لإنتاجية متعاظمة، واندماجاً بين الشركات، وتقليل فرص العمل، وتروج لأنماط استهلاكية واحدة، متزايدة ومتسارعة، تعظيماً للربح، واعدة بعمل أقل، وثراء سريع، ومتعة عالية)، وخمس البشر (20 % الأغنياء)الذين يحوزون 85% من الدخل العالمي(17) عدالة توزيع الثروات، والقضاء على الفقر والديون؟؟. إن الإشكالية تكمن في الأهواء المتضاربة وعجز الأدمغة من أن تجعل الأرض تستوعب أهلها، فالعولمة الاقتصادية تتغول عبر منظومتها من اتفاقيات الجات، وصندوق النقد والبنك الدوليين، والخصخصة وحرية تملك الأجانب، وإلغاء الدعم عن الفقراء، وتحرير نظم التأمين والمعاشات، لتحكم القبضة على الاقتصاد العالمي وتبعية الأضعف له، فتقرض الأفقر وتتراكم ديونه التي بلغت العام 1990م على (1200مليار) دولار، وفوائدها التي لا يبدو منها فكاكاً إلا بإعلان دول العالم الثالث إفلاسها، كما ينتشر تهريب الأموال (عائدات الأموال القذرة تصل إلى 1500 مليار دولار سنوياً).

بسقوط "رأسمالية وول ستريت" تكسب الإنسانية معالجة اقتصادها "اللاإنساني" بربطة بالأخلاق والقيم..الرحمة والتكافل والتعاون، وقيمة العمل:"إذا قامت القيامة وفى يد أحدكم فسيلة ففن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها"(18)  وينهى عن التبطل والاحتكار والاستغلال والجشع والغش، يأمر بطرق كسب وإنفاق مشروعين، وينمى الوازع الأخلاقي فيهما، والموازنة في الإنفاق وفقاً للضرورات والحاجيات والتحسينيات على مستوى الفرد والمجتمع والدول. وفقه الإسلام يعارض جمع الثروات في أيد معدودة، فتوزيعها الفيء والغنيمة والزكوات والخراج والعشور والتركات والكفارات بين اكبر عدد من أفراد المجتمع:"كي لا تكون دُولة بين الأغنياء منكم"(الحشر:7).

فالأرض لمن يحييها محاربة للإقطاع، وتبقى الملكية الحقيقية لله تعالى، و"بنوك بلا فوائد" فلا ربا، مما يجعل رؤوس الأموال تنهض في الاستثمار وإيجاد فرص العمل. ومن الملاحظ أن المصارف الإسلامية تواصل نجاحها وتعزيزها لموقعها العالمي، حيث تجاوزت أصولها العالمية 202 مليار دولار، وهى مرشحة خلال السنوات القادمة للاستحواذ على 40-50% من المدخرات الإسلامية العالمية. إن مبدأ "إنفاق العفو" من كل شئ كفيل بالقضاء على أسباب ومظاهر الفقر.

"رأسمالية وول ستريت".. وأزمة البيئة وتلوثها

سببت ارتفاع حرارة الأرض،" والصوبات الزجاجية"، وذوبان الجليد القطبي، وتآكل طبقة الأوزون، والأمطار الحمضية، وزيادة التصحر (20الف ميل / سنوياً) وتآكل الغابات والمحميات، وتزايد نسب وعناصر وأنواع التلوث (سكان الدول الصناعية وهم ربع العالم فقط يستنزفون 75% من الطاقة في العالم ومن ثم فهم الأكثر استغلالا و تلويثا للبيئة). مشكلات بيئية تهدد الإنسانية جمعاء، ومن المعلوم أن الطبيعة وكائناتها لا تلوث شيئاً، بل المعاناة كلها من صنع الإنسان، لتدميره التوازن والانسجام بينه وبين نظام الكون والحياة، وفق سنن الله تعالى ومنهجه الشامل والمُنقذ من مشاكل البيئة.. توازناً ومحافظة على مواردها (دون جور أو استنزاف أو تلويث)، ورحمة بالكون وأحيائه، وحيواناته ونباتاته وحتى جماداته.

"رأسمالية وول ستريت".. وتدنى الحقوق الإنسانية والحريات الحقيقية

تستغل القوى المهيمنة التي تدور في فلك "رأسمالية وول ستريت" حقوق الإنسان لخدمة مصالحها، وتقصرها على الإنسان الغربي والأقوى دون الأضعف، والأبيض دون الأسود، والغنى دون الفقير. في حين أن المواثيق الدولية ـ كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان للعام 1948م ـ نصت فقط على ضرورة صيانتها، دون وضع الوسائل الكفيلة بضمانها.

هاهو الإنسان الغربي ، في باريس ولندن ومدريد وواشنطن، يعاني أيضا، ويضج ـ بالشكوي ـ  بتحول مجتمعاته إلى "دول بوليسية" تهدر حقوقه، التي ناضل من أجلها طغيان الدولة والإقطاع والكهنوت. ويرون الجرائم البشعة ضد حقوق الإنسان، وانتهاك الاتفاقيات الدولية،  بخاصة تلك المتعلقة بحقوق الأسرى في جوانتنمو وأبو غريب وغيرها مما يدين توجه الإنسانية بقيادة "المحافظين الجدد"، والذين يخشون من المثول أما محاكم الجزاء الدولية.

ينبغي إحقاق الحقوق للناس كافة، رغم أنف "رأسمالية وول ستريت" وحفظ ضروراتهم التي لا يصلح الأمر إلا بها وبما يلزمها من حقوق وواجبات، وإذا ما أنتقص حق فرد فللعدالة دورها:"وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"(النساء: 58)،  وللتقاضى والمساواة الكاملة للكافة أمام القضاء:"ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى"(المائدة: 8). وهذا التوجه ينبني على أن طبائع البشر وسنة الوجود التي أرادها الله تعالى اقتضت التنوع والتعدد:"ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، ألا من رحم ربك ولذلك خلقهم.."(هود: 118- 119). وستكسب الإنسانية التجربة الحضارية الأعدل من كل ما اهتدى إليه العقل البشرى، حيث التحرر الحقيقي وحقوق الإنسان المنشودة:"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".

"رأسمالية وول ستريت" والعولمة  و"القولبة"، والعنصرية

"رأسمالية وول ستريت" تستند إلى الداروينية الاجتماعية والسياسية وكرست العنصرية، والتراتيبية الاجتماعية العالمية وفقاً للأقوى ومصالحه. فكانت النازية (التي ادعت أنه إذا كان هناك من إله فليكن ألمانياً، أو أن الإنسانية ليست بحاجة إلى آلهة،"فالإنسان يقوم وحده") والفاشية والإمبريالية والاستبداد والقهر، وتجدد الشأن ـ بعد أحداث سبتمبر 2001م، ومشاكل الأقليات فبدا عدم القبول بالاندماج الكامل للأقليات، ومحاولات التحرش بها وتطهير المجتمعات منها، لتحتفظ بنقائها العرقي والثقافي.

أهلاً بحضارة تمحو ما بين الإنسانية من فوراق الأجناس والأنساب والألوان واللغات لتجمع بينهم في أمة اصلها واحد، لا فضل لأحد، يتعالى به وباستحقاقه ما ليس له على حساب الآخرين، إلا بالمعيار الأساس: التقوى والعمل الصالح، وهما أعمال كسبية يتسابق فيهما الناس جميعا لمرضاة لربهم، وخدمة لمجتمعاتهم وإنسانيتهم:"يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم"(الحجرات:13). فهي تعترف بالتنوع المنبثق من التوحد، وتقدم أنموذج الآصرة الإنسانية الواحدة:" كلكم بنو آدم، وآدم خُلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونُن أهون عند الله تعالى من الجعلان"( رواه أبو بكر البزار في مسنده من حديث حذيفة).

أسرة روحية واحدة تؤمن بجميع الكتب والأنبياء دون تفريق بين أحد منهم:"قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا، وما أًنزل إلى إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أُوتى عيسى وموسى، وما أُوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون"(البقرة:136).

المشكلات الاجتماعية وتآكل دور الأسرة، وشيوع المخدرات، والقمار والرقيق الأبيض والعنف.

أين إعادة الاعتبار للأسرة"الرابطة المقدسة" وأهدافها من تحقيق التوازن العاطفي والنفسي والجسدي والتناسلي، ودورها التربوي والاجتماعي؟. لماذا يتآكل مفاهيمها عالمياً من خلال مؤتمرات كوبنهاجن والقاهرة وبكين، واتجاهاتها العاصفة لنشر الإباحية، وظهور"الجندر"، والأنماط غير السوية من المعاشرة الجنسية، وحق المثليين جنسياً في الزواج والتبنى والميراث، وتقنين الإجهاض والحمل خارج الأسرة، وتحديد مفهوم الأسرة: لتحقيق اللذة أيا ما كانت (حتى ولو مع حيوان)، أو في دورها الاقتصادي البحت (استهلاكا أو إنتاجاً).

مع تآكل دور الأسرة هذا تتعرض فئات من البشرية للانقراض بانعدام نسلها، وزيادة أعداد شيوخها، فنجد دولاً تهب جوائز، وتقدم خدمات، لتشجيع الإنجاب، كما نتج اكبر مشكلات الإنسانية.. مشكلة المخدرات، وتحالفها مع القمار وتجارة الجنس والرقيق الأبيض، فتقديرات الأمم المتحدة العام 2003م تقول: أنه يُنفق في تجارة المخدرات 600مليار دولار سنوياً، وعدد مدمنيها يصل إلى 185 مليون نسمة، وتكلفة مكافحتها وعلاجاتها 120 مليار دولا سنوياً، وهى التجارة الثانية بعد النفط في أمريكا (شهدت الأمم المتحدة بنمو رهيب لزراعة المخدرات، الحشيش والأفيون، في أفغانستان بعد الغزو الأطلسي الأمريكي لها)، وأسبابها ومضارها الفردية والعامة لا تخفى على أحد، وتحتاج لمسئولية جماعية في مواجهتها، تحريماً كما في شريعة الإسلام، ووقاية وعلاجاً، ومواجهات أسرية واجتماعية وإعلامية وقانونية ودولية.

كما شاع التفكك الأسرى والطلاق والعنف الاجتماعي العالمي بأنواعه، ففي أمريكا: جريمة قـتل كل43 دقيقة، واختطاف رجال كل 20 دقيقة، واغتصاب كل 19 دقيقة، وسرقة كل دقيقتين، وسطو كل 20 ثانية، كما إن22 ـ 35% من عينة كبيرة من نسائها ذهبن لمستشفيات الطوارئ بسبب العنف المنزلي (والتي تعمل لمكافحته 400 منظمة)، وعالمياً 19 % من أجمالي أمراض النساء يعود إليه، وفى بانكوك 10% ممن اغتصبن قد أصابهن مرض نقص المناعة"الإيدز" وبينما البغاء وممارسة الدعارة عمل اقتصادي طالما دُفعت الضرائب، ولا شبهة لإكراه.

تئن "رأسمالية وول ستريت" وتضج بالشكوى الاجتماعية وعدم الفائدة الاقتصادية، من ذوى الاحتياجات الخاصة والمعاقين وكبار السن والأيتام، وتجارة الأطفال واستغلالهم جنسياً وفى سوق العمل (في العام 1996م- 73 مليون طفل وقد يرتفعون إلى 250 مليون شمل المسح الصين وأمريكا، واللاجئين (70% منهم مسلمون)، والمشردين جراء تنامي الكوارث الطبيعية. إن "رأسمالية وول ستريت" لا تريد للإنسانية عافيتها وسلامتها:"إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون"(النحل: 90).

"رأسمالية وول ستريت"، وانتشار أسلحة الدمار الشامل والحروب، والجريمة المنظمة، وغياب الأمن

هاجس البشرية هو الأمن، ولتحقيقه يتم تملك السلاح، فالإنفاق العالمي عليه يصل على 800 بليون دولار سنوياً (وهو في ازدياد ليلتهم موارد التنمية)، وبجيوش محترفة قوامها 35 مليون فرد في العالم، ولتوازن الرعب تجد أسلحة الفناء الشامل التي حصدت 45 مليون نسمة في الحرب العالمية الثانية فقط، وخمس من السبعة الكبار من بائعي السلاح في العالم يملكون مقاعد دائمة في "مجلس الأمن"، ولترويجه تُستحدث  بؤر التوتر والنزاع (اكثر من 200 صراع دموي في العالم النامي ضحيتها 27 مليون نفسن بخلاف اللاجئين والمشردين(21)، لذا فالعالم الثالث الأكثر استيرادا للسلاح (في الأعوام 1986-1990م انفق 131 مليار دولار) فيما يمثل ربع وارداتها الخارجية، وما يقرب من30% من دخلها القومي، ويبقى السؤال: أين الأمن؟.

إن خمس سكان أمريكا يعانون ويلات الخوف من شئ واحد على الأقل، فهل يتحقق أمنهم وأمن غيرهم بالحروب الأستباقية المخالفة لكافة القوانين الدولية. فقط نهباً للثروات، واستعباداً للشعوب؟، أم بحروب تصنعها دول لا تعيش أبدا دون عدو أو تتبدل عدوا بآخر كي تخفى مشاكلها الداخلية وتمنع تأكل مجتمعاتها، أم بالسعي لاستعادة مناطق النفوذ والهيمنة، وتأجيج التنازع الديني والعرقي، ومناصرة فئة دون أخرى في فلسطين والشيشان وكشمير والبوسنة وكوسوفا وايرلندا وتيمور الشرقية والفليبين وتايلاند وجنوب السودان الخ. أم بإعلام عنصري يمجد لثقافة العنف (التي يبلغ حجمها في أمريكا 16 مليار دولار)، فيصبح المجرم "رجل سلام"، والمدافعون علن الأرض والعرض"إرهابيون"؟!.

هل تسعي "رأسمالية وول ستريت" إلي الأمن الداخلي والسلام العالمي. لا.. بل البشر المسالمون "إيماناً منهم بحياة أخرى وراء هذه الحياة للعدل المطلق فيها ميزان، هو الحافز الباقي لكل أمن يرجى وكل أمان". فالعدل بشتى صوره وحل النزاعات بشكل عادل هو الكفيل بالقضاء على تجارة السلاح وتحويلها لجوانب تنموية تفيد الإنسانية جمعاء. إنه التعاون على إقامة العدل ونشر الأمن وصيانة الدماء وحماية الحرمات، ومدافعة الظلم والطغيان والفساد:"وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"(المائدة:2)،

إن حضارة قوامها الألفة والمحبة والأخوة كافيه- عندما تسطع شمسهاـ بأن تزيل الكراهية والشحناء من إنسان العصر المأزوم، فإلهاً يمتن على عباده بنعمة زرع الألفة في قلوبهم وتحولهم اخوة بعد أن كانوا أعداءً لله لإله ودود رحيم، تفيض بهما تعاليمه وتتعدى إلى الإنسانية:"عسى الله ان يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم"(الممتحنة:7).

"رأسمالية وول ستريت"، والمشاكل الصحية وانتشار الأمراض المعدية وغير المعدية

في تسعينيات القرن الماضي يصاب (8500) شخص كل يوم بالإيدز بينهم ألف طفل، وقضى بسببه  1.3 مليون شخص بينهم 300الف طفل، وهذه الكارثة تبلغ اوجها في 16 دولة أفريقية، وبتسوانا هي الأعلى في نسبة الإصابة حيث من المتوقع العام 2010م أن تصل وفيات الرضع فيها إلى 61%. ولنمط الحياة في المجتمعات الغربية (الإسراف في التغذية وإدمان التدخين وشيوع الكحوليات والمخدرات والقمار والتوتر والقلق والممارسات الجنسية الشاذة) تعود80-90% من حالات الوفاة بالسرطان، منها 35% من الحالات يعود للإسراف في التغذية والسمنة، و12% إلى تناول الكحول، بينما خسائر الاقتصاد العالمي من التدخين يصل إلى 200مليار دولار سنوياً، حيث يوجد مليار رجل و200 مليون سيدة في العالم من المدخنين، وسنويا  يحصد سرطان الرئة في فرنسا وحدها 23 ألف شخص، ونصف مليون امرأة في العالم والذي سيشكل 90% من وفيات النساء ليصبح الأعلى فوق سرطان الثدي، وغازات الأرض المنبعثة والمؤثرة في طبقة الأوزون تسبب 300 ألف حالة سرطان الجلد سنويان هذا فضلا عن أمراض القلب والشرايين والسكري، والأمراض النفسية كالقلق والاكتئاب والفصام و الانتحار غيرها.

  لقد أقرت منظمة الصحة العالمية WHO)) العام 1989م، بأهمية التوجيهات والقيم المتوازنة في مجالي الصحة الجسدية (عفة ونظافة وعدم إسراف:"كلوا واشربوا ولا تسرفوا"(الأنعام:31)، ولا ضرر ولا ضرار". والصحة النفسية (الرضا عن الله تعالى، ثم عن النفس والحياة والقناعة ومنع أسباب التوتر والقلق والاكتئاب).

"رأسمالية وول ستريت"، ومشكلات العلم والفن

في حين أن خمس البشرية من الأميين، ترتفع أصوات العلماء مطالبة بأخلاقيات للعلم، وحسن توظيف التقانة (التي أنتجت القنابل الذرية والهيدروجينية) ووضع ضوابط للهندسة الوراثية، والتقانة الحيوية Biotechnology)) ، والتي انطلقت من عقالها، لتغيير التركيب الوراثي للكائنات والزراعات، ونقل وزراعة الأعضاء (عصابات القتل وتجارة الأعضاء وخطف الأطفال لبيع أعضائهم)، وحضارة:"اقرأ" تحض على العلم والتعليم وإعمال العقل والبحث العلمي وإزالة الأمية، وما شموس حضارته التي أشرقت على الغرب من سمرقند وبخاري والرى وبغداد والأندلس وصقلية وقبرص وغيرها من مناطق التماس الحضاري عنا ببعيد، وهى تقوم على شقين لا انفصام بينهما: التقوى والتقانة، وضوابط الإسلام الأخلاقية والقيمية قادرة على راب الصدع بين العلم وأخلاقياته، وللإنسانية مع الفن "إشكالية" كبيرة (أمريكا تحتكر 70% من أفلام وثقافة الجنس) والحضارة الإسلامية لها رؤيتها الجمالية والفنية والتجريدية ثراء للتذوق الفني في شتى صوره ودفعا عن كل ما يشين السمو النفسي والاستعلاء الروحي.

مجمل القول: يسقط، يسقط "وول ستريت".

تقف الإنسانية على مفترق طرق، يتهددها "رأسمالية وول ستريت". ونهوض المسلمين بمسئوليتهم الحضارية.. يهديها سُبلها، ويعيد توازنها، وينقذها من الهاوية، ويقدم لها الأنموذج السامي والواقعي والمنفتح والثابت والوسطى الذي يضع الإجابات المقنعة، والحلول الشاملة لأزماتها المعقدة، وتبقى خيرية الأمة الإسلامية في اضطلاعها برسالتها:"كنتم خير أمة أُخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله"(آل عمران:110).