العيد أقبل يا وليد
د. طارق باكير
جامعة الباحة
لو رأيته صبيحة يوم العيد - في تلك الأيام - لرأيت صبيا أكبر من عمره ، يندفع من البيت فرحا بثوبه الزاهي الجديد ، متجها إلى المقبرة ، حاملا مصحفا سميكا ، محفوظا في كيس مطرّز، يتنقل مع الوالد بين قبور الأجداد والجدات ، والأعمام والعمات ، والأقارب - رحمهم الله جميعا والمسلمين – يجلس القرفصاء عند شاهدة القبر ، ويقرأ ما تيسر من سورة ياسين ، على حين كان الوالد يكتفي بقراءة سورة الفاتحة ، ويعهد له بالقراءة من المصحف ، ثقة بحسن قراءته ، فقد قرأ ربع المصحف عند شيخ القرية ، وأتقن القراءة ، ولمّا يزل في الصف الأول الابتدائي ..
وبعد أن تتعالى أصوات التكبير ، ننتقل من المقبرة إلى المسجد لأداء صلاة العيد ، ويعتلي الشيخ (خالد) المنبر ، ليعيد على الأسماع مقاطع مؤلمة ، من خطبة العيد السابق ، التي تقطّع نياط القلوب ؛ فَخُطب العيد متشابهة في الغالب . وبعد المقدمة ، يستهل الخطبة بأبيات الشعر المعهودة :
أتـى رمـضانُ مبتسماً نـصـومُ نـهـارَنا لننالَ أمناً وهـذا الـلـيـلَ نحييهِ جميعاً ونـدعـو ربَّـنا يا ذا الجلالِ وأنـزلْ نـصرَك الغاليْ علينا عـسى نُردِي الظلامَ بنورِ حقٍّ ونـشـكـو ظـلمَ طاغيةٍ لئيمٍ وكـمْ وعـدَ الـظلومُ فلا وفاءٌ يُـصـبّـحُـنـا بقتلٍ أو بأسر وإنّـا لا سـلاحَ لـنـا ولكنْ وإنْ تَعْجَبْ فمِنْ جمعِ اللصوصِ وواحـدُهـم كـأنَّ لـديهِ ثأراً لأجـلِ الـمالِ يرتكبونَ جرماً أولـئـكَ قـد أتوا كفراً بَواحاً زعـيـمُ عـصابةٍ تسعى بشرٍّ وإنَّ الـعـيـدَ يومَ يزولُ عنّا ونـحـنُ أحقُّ بالعزَماتِ منهم فـمَـنْ نخشى ونحنُ عبادُ ربٍّ لـه الـدنيا ومن أضحى عليها وعـلَّـمَـنـا بـأنَّ لـنا منايا فـلا تخشَوا عبادَ المالِ واسعَوا فـبـشـراكمْ بنصرِ اللهِ قومي وأبـشـرْ يا أخي بهلاكِ جمعٍ وأبـشـرْ بالخلاصِ كيومِ بدرٍ وأكـرمَ ربُّـكَ الصحبَ الكراما فـهـذا بـطشُ ربِّكَ بالأعادي فـإنْ تطلبْ منَ الرحمنِ نصراً وسـوفَ تـرى عدوَّ اللهِ جوفاً وتـشـرقُ أرضُنا بالنورِ دوماً نـوحّـدُ ربَّـنا من غيرِ خوفٍ | سعيداًوإنـا نـرتجي في الشهرِ وجـنـاتٍ بـهـا نبقى خلودا فـنـقضي معظمَ الليلِ هجودا تـقـبّـلْ بـرَّنا بك والسجودا وثـبّـتْ قـلـبَـنا ألا نحيدا ونـبـدأُ بـالـسَّنا عهداً جديدا عـلى الأحرارِ قد حشدَ الجنودا فـقـد أمسى وقد خانَ العهودا ٍويـمـسي الحرُّ مطلوباً شريدا صـدورٌ عـزمُها غلبَ الحديدا وقـد حُـشِدوا لنصرتِهِ حشودا عـلـى الأبـرارِ جبّاراً عنيدا فـكـمْ خطفوا وكمْ قتلوا شهيدا ويـتّـبِـعـونَ شيطاناً مَريدا وكـانَ كـيـانُ دولـتِهِ فريدا فـتـرجعُ أرضُنا ملأى ورودا وكـانَ اللهُ جـبّـاراً مـجـيداً يُـصرِّفُ في مشيئتِهِ الوجودا؟! ويـأخـذُ خـصمَهُ أخذاً شديدا بـآجـالٍ فـلا نـألـو جهودا لـنـهضةِ شعبِنا ودعوا القعودا فـإنَّ الـظـالمَ انتهكَ الحدودا يـريـدونَ الـعـبادَ لهم عبيدا إذِ الـطاغوتُ قد أمسى طريدا بـعـزٍّ لا نـرى مـعهُ مزيدا فـثـقْ باللهِ وانـصرْهُ رشيدا فـهـذي الروحَ فاجعلْها وقودا بـلا روحٍ وقـد حـاكى ثمودا ويـصـبحُ عيشُنا عيشاً رغيدا نَشِيدُ الصرحَ لا نرضى الجمودا | عيدا
وينفجر الشيخ بالبكاء ، ومعه أهل القلوب الحاضرة والمكلومة ، ويعلو صوت النشيج في المسجد ، ثم ينتقل إلى أبيات أخرى ، يسائل فيها طفل يتيم أمه يوم العيد ، بهذا السؤال الذي يهز أوتار القلوب أيضا :
أمّاه جاء العيد .. أين الوعد بالثوب الجديد
أمّاه أين أبي .. فيملأ راحتي كلّ النقود
أمّاه .. مالك والبكاء ونحن في اليوم السعيد؟!
ثم ينتقل الشيخ إلى مأساة الأمة وفجيعتها ، مأساة فلسطين ، فقد كانت – يومها - هي المأساة الشاخصة في العقول والأذهان ، فيذكر جانبا من جرائم الصهاينة المحتلين بحق أهل فلسطين ، واستباحتهم للدماء والمقدسات ، وإحراق المسجد الأقصى .. ثم يتوجه إلى جمع المصلين بقوله : كيف يطيب لنا - بعد هذا - أن نتلذذ بالنساء على الفرش ؟!
رعى الله الشيخ خالد ، إن كان ما يزال حيا ، فما أدري اليوم ماذا يقول في خطبة العيد ، وفي كل بيت - من حوله – فجيعة ومأساة ..
أمّا عالم العيد :عالم الأطفال البهيج ، وعالم الشباب الحالم ، وعالم النساء الزاهي ، وعالم الرجال الباهي .. فلذلك حكايات أخرى ، وتقبل الله الطاعات ، وأعاده الله على أمتنا باليُمن والخير والنصر والبركات.