الثورة السورية إلى أين

د. بشير زين العابدين

د. بشير زين العابدين

خمسة أشهر انقضت من عمر الثورة السورية دون أي بادرة انفراج في العلاقة بين الحكم والشعب؛ فالنظام لا يزال مصراً على المعالجة الأمنية، وشباب الثورة لا يزيدون إلا قوة وإصراراً.

وفي ظل استمرار هذه الحملة التي نشرت الخوف، ودمرت الاقتصاد، وهجّرت العوائل، وكبدت الشعب آلاف القتلى والجرحى والمعتقلين؛ بدأت تتردد أصداء تساؤلات عن مصير الثورة ومآلها، ومن الذي سيحسم الصراع؟ هل هو الجيش، أم مؤتمرات المعارضة، أم التدخل الخارجي، أم بدائل الحوار التي تطرحها السلطة للخروج من مأزقها؟

هناك محاولات عديدة للإجابة على هذه التساؤلات من خلال دراسة الأوضاع المحلية، والتطورات الإقليمية والدولية؛ إلا أن التحليل المعاصر قد أغفل عنصراً أساسياً من عناصر البحث، والذي يتمثل في تقصي مكونات الصراع المنبثقة جذوره من تجربة الثورة السورية الكبرى (1920-1927)، وما تضمنته الثورتان من حتميات تاريخية، يمكن إيجازها في النقاط الآتية:

* الأقاليم السورية وفلسفة الثورة:

عندما تقدمت القوات الفرنسية باتجاه دمشق عام 1920؛ كان تعداد الجيش السوري وعتاده محدوداً، فانتهت معركة ميسلون في أقل من ساعة، ودخل الجنرال هنري غورو مدينة دمشق دخول الظافرين (1)، وبلغت النزعة الصليبية لديه أوجها عندما وقف على قبر صلاح الدين الأيوبي ليصرخ بأعلى صوته: "ها نحن صلاح الدين" (2).

ظن الجنرال غورو أنه بسيطرته على العاصمة دمشق؛ قد أحكم قبضته على سورية بأسرها، إلا أنه فوجئ باندلاع الثورة ضده في مختلف الأقاليم:

- ففي مطابقة تاريخية عجيبة مع الأحداث المعاصرة، خرجت عشائر حوران عام 1920 تهتف عن بكرة أبيها: "من حوران هلت البشاير"!

- وسرعان ما استجاب الشمال للجنوب؛ فثارت إدلب، وكفر تخاريم، وجسر الشغور، وحارم، وأنطاكية، بقيادة إبراهيم هنانو الذي انضوى تحت لوائه: الشيخ يوسف السعدون، والشيخ رضا الرفاعي، وخيرو القصاب

- ولبى أبناء جبال الأنصارية النداء بزعامة صالح العلي عام 1921

- كما قامت في الفترة نفسها ثورة الدنادشة في تلكلخ

- وهبت حماة الأبية، العصية على الطغيان، تحت قيادة فوزي القاوقجي، وكان لعوائلها الرئيسة: الكيلاني والعظم والبارودي، وغيرها من الأسر الحموية الدور الأبرز في هذه الثورة

- وثارت عوائل حمص وأبنائها تحت زعامة دلال وراغب النشيواتي

- كما قامت ثورات أخرى في القامشلي والحسكة ودير الزور، وسرعان ما عمت الثورة أنحاء الجزيرة والفرات.

وبحلول عام 1922 اعترفت سلطة الانتداب الفرنسي، على لسان مفوضها الجنرال ساراي، أن سورية قد شهدت في ذلك العام خمسة وثلاثين ثورة دُفن فيها من الجيش الفرنسي خمسة آلاف جندي.

حاول الجنرال غورو (1919-1923) إخماد الثورة من خلال إثارة النعرات الطائفية، وعمد إلى تقسيم سوريا معلناً قيام: دولة حلب في الثامن من سبتمبر سنة 1920، ودولة العلويين في الثالث والعشرين من سبتمبر 1920، ودولة جبل الدروز في 20 إبريل سنة 1921، ودولة دمشق: التي اتخذت من العاصمة اسماً لها، كما مارست السلطة الفرنسية حكماً مستقلاً لإقليم الجزيرة، وسنجق الإسكندرون.

لكن مشروع الكانتونات الطائفية انهار بالتدريج؛ فانضمت حلب إلى دمشق في 1924، وسرعان ما انضوت مناطق الدروز والعلويين للسلطة المركزية.

إن المفارقة العجيبة بين ثورتي: (1920-1927) و(2011) تكمن في تبني السلطتين: الانتدابية والبعثية، النهج الأمني-العسكري، دون أن تدرك أن دماء الشهداء كانت بمثابة الوقود الذي يزيد من لهيب الثورة ويؤججها.

وفي الوقت ذاته؛ ظنت السلطتان (الانتدابية والبعثية) أنهما ستُحكمان سيطرتهما على القطر السوري من خلال الإمساك بأزمة الحكم في دمشق، وتبني أسلوب العقاب الجماعي ضد الأقاليم الأخرى، بعد عزلها وقطع الخدمات عنها، والتنكيل بأهلها، دون أن تدرك أن المحافظات السورية كالجسد الواحد، يزيده الألم تفاعلاً وأنيناً.

* "القوات الخاصة":

عندما فشل الجيش الفرنسي في السيطرة على الثورة السورية، قام بتشكيل فرق محلية أطلق عليها مسمى: القوات الخاصة للشرق (Troupes Spéciales du Levant)، واستخدمها كقوة أمن داخلية تهدف إلى قمع الثورات في المدن.

ولتحقيق ذلك فقد استقطبت سلطة الانتداب أبناء المناطق التي تعاني من ضعف البنية التحتية، ومنحت أبناءها مميزات لتصبح أكثر الفئات انتفاعاً من السلطة الانتدابية، وحتى لا تتأثر في الوقت ذاته بالعواطف القومية المتأججة في سائر القطر السوري (3).

وكان لهذه القوات سمعة سيئة بسبب جهل أفرادها، والوحشية التي كانوا يعاملون بها أبناء المدن، وما سجلته المصادر من تعديهم على المواطنين بالقتل والضرب والإهانة، فقد وصفتهم الوثائق الفرنسية أنهم: "همج وقطاع طرق"، وفي وثيقة أخرى بررت سلطة الانتداب استخدامهم في قمع المظاهرات الوطنية بأنهم: "محاربون قساة"، وكان أفراد القوات الخاصة قد أقسموا على الولاء والطاعة للجنرال ديغول ولم يكن لديهم أي تعاطف مع الحراك الوطني (4).

وتحدث وزير المعارف آنذاك عادل أرسلان، عن حالة هذه القوات عام 1945، بقوله:

"الجيش السوري المختلط الذي ألفته فرنسا لمقاومة الحركة الوطنية أصبح تابعاً لسورية، فإن لم تكن فرنسا قد اشترطت حماية الحكومة السورية لعناصره غير الوطنية، ففائدة سورية منه هي في إنقاذ البلاد من شر أولئك المتطوعة المرتزقة" (5).

كما تحدث أكرم الحوراني في البرلمان السوري عن هذه القوات في 10 سبتمبر 1945، بقوله:

"إن الجيش السوري المحلي قد أنشأه الفرنسيون لا ليكون جيشاً يحمي البلاد ومصالح الأمة، إنما كانت غايتهم أن يقمعوا بواسطته كل حركة وطنية أو قومية تقوم في هذه البلاد، وقد اتبعوا في أمر تشكيله ما اتبعوه في تطبيق المبادئ المكيافيلية سواء في السياسة أو الاجتماع، فألفوه فرقاً على أساس النعرات الطائفية والعنصرية" (6).

والحقيقة هي أن تكرر المشاهد المؤلمة في سورية اليوم من قيام فرق: "القوات الخاصة" وعصابات المرتزقة، بقتل المدنيين وتعذيبهم في الشوراع، وإهانتهم وإذلالهم، تعود إلى السياسة التي اتبعها الحكم في سورية خلال الفترة: (1970-2000)، حيث عمد النظام إلى ترسيخ الإرث الفرنسي المتمثل في: نظام حكم مدني ضعيف، وأحزاب لا تملك نظرية سياسية ناضجة، في مواجهة مؤسسة عسكرية تشكل عنصر التوازن الفعلي في الإدارة المحلية والأمن، وذلك بالاعتماد على العنصر العشائري الذي استند عليه الفرنسيون في مرحلة الانتداب.

لقد أدرك حافظ أسد في الثلث الأخير من القرن العشرين؛ أن الشق الحزبي-المدني هو الحلقة الأضعف بين الفئات المتصارعة على السلطة، فأعطى لمؤسساته نمطاً شكلياً يقتصر على قطاع محدود في أجهزة الإدارة والحكم، وجعل توازن النظام يقوم على فرق عسكرية، ومؤسسات أمنية تهيمن على الحياة العامة، واعتمد في ذلك على العنصر العشائري-العائلي باعتباره العامل الأكثر ضماناً في تحقيق معادلة التوازن الصعبة داخل النظام.

وقد أثبتت هذه الفرق استعدادها لارتكاب أبشع صور القتل والتنكيل ضد أبناء الشعب السوري في كل من: جسر الشغور (مارس 1980)، وتدمر (يونيو 1980)، وحلب (يوليو 1980)، ودمشق (أغسطس 1980)، وحماة (فبراير 1982)، ولا شك أن الأعمال الوحشية التي ترتكبها هذه الفرق اليوم هي امتداد طبيعي للإرث الفرنسي الذي رسخه نظام حافظ أسد.

لكن الوجه المشرق لهذه الأحداث هو أن الثورتان الشعبيتان في سوريا عامي (1920) و(2011)، تستهدفان المكون الأساسي لأنظمة الاستبداد (الانتدابية والبعثية) من خلال المطالبة بإطلاق الحريات العامة، والدعوة إلى الوحدة الوطنية، وكف أيدي هذه القوات عن المواطنين.

جدير بالذكر أنه عندما نال السوريون استقلالهم عام 1945 كانت الفئة الوحيدة التي رفضت ذلك، وقامت بأعمال التخريب هي: "القوات الخاصة" التي عمدت إلى إحداث الفوضى، ومهاجمة المواطنين، ونهب مخازن الأسلحة لمنع وصولها إلى الحكومة الوطنية (7).

ونتيجة لتكرر حالات التمرد، قامت القيادة الفرنسية بتخيير من بقي تحت إمرتها من الجنود السوريين بين البقاء في سورية أو الرحيل مع القوات الأجنبية، ففضل الكثير منهم البقاء تحت القيادة الفرنسية والمغادرة معها لخدمة فرنسا في أماكن أخرى، حيث أشار تقرير المفوضية البريطانية في دمشق بتاريخ 7 أغسطس 1945، إلى أن حوالي ثلاثة آلاف من مجندي القوات الخاصة قد فضلوا البقاء تحت إمرة الفرنسيين (8).

وليس من قبيل الصدفة أن قادة القوات التي ترتكب الجرائم في حق الشعب السوري اليوم، هم من المنتمين إلى نفس البنية العشائرية للقوات الخاصة في عهد الانتداب.

وإذا كان كل من: بشار وماهر أسد، ومحمد نصيف، وحسن خليل، وعلي حبيب، وعبد الفتاح قدسية، وعلي المملوك، وآصف شوكت، وغيرهم من ضباط فرق النخبة المعاصرة، يصرون جمعيهم على دخول التاريخ الوطني من الباب الذي دخله غورو وويغان وساراي؛ فإنه من الضروري دعوة أفراد وعناصر هذه الفرق إلى التفكير في مصيرهم عندما تحقق الثورة السورية الثانية أهدافها.

* التواطؤ الدولي:

واجهت بلاد الشام في مطلع القرن العشرين؛ سلسلة مؤامرات استهدفت وحدتها الإقليمية وثرواتها الطبيعية:

- ففي سنة 1916، تم توقيع اتفاقية: "سايكس-بيكو" والتي نصت على اقتسام سورية والعراق من قبل بريطانيا وفرنسا.

- وفي سنة 1917، صدر وعد: "بلفور" بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

- وفي سنة 1920، تم توقيع معاهدة: "سيفر" التي اتفقت فيها بريطانيا وفرنسا على تقسيم الإقليم إلى ثلاث مناطق فيما بينهم.

- وفي العام نفسه (1920)، أبرم الحلفاء معاهدة: "سان ريمون" التي نصت على وضع سورية والعراق تحت الانتداب، بحيث تخضع سوريا الشمالية (سورية ولبنان) تحت الانتداب الفرنسي، وتخضع سوريا الجنوبية (الأردن وفلسطين) والعراق تحت الانتداب البريطاني.

- وفي سنة 1922، اتفقت بريطانيا مع فرنسا على ترسيم الحدود بين سورية وفلسطين، فتم إلحاق الشريط المحاذي للنصف الجنوبي من ساحل طبرية الشرقي في فلسطين، وتركت عشرة أمتار لتفصل بين الحدود السورية ومياه البحيرة فيما تبقى من الساحل، وكان الهدف من ذلك توفير كامل مياه البحيرة للكيان اليهودي المرتقب.

وفي الوقت ذاته، أسهمت "عصبة الأمم" في زيادة معاناة الشعب السوري من خلال إضفاء الشرعية على الاحتلال الخارجي عبر قرارها بمنح فرنسا حق الانتداب على سورية ولبنان.

ولا يمكن التغاضي عن تشابه الموقف الدولي بين الأمس واليوم؛ حيث يسود الصمت أروقة: الجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ويعجز مجلس الأمن عن تبني أي قرار يدين أعمال القتل الجماعي، ويقتصر موقف الاتحاد الأوروبي على الشجب المتكرر والممل، بينما تتواطؤ إسرائيل مع الولايات المتحدة وروسيا من أجل إبقاء النظام السوري ضعيفاً لحماية أمنها واستقرارها.

وفي مقابل ضعف المواقف الدولية؛ يرمي نظام طهران، وتنظيم حزب الله، وحكومة المالكي في العراق بثقلهم خلف النظام السوري، ولا يخجلون من تبرير جرائمه ضد شعبه، ولا يترددون في تقديم العون الاقتصادي والأمني والتقني لمساعدة النظام السوري في أزمته.

لقد نجح النظام السوري خلال العقود الأربعة الماضية في ربط حياته بصاعق قنبلة يمكن أن تودي بمنظومة إقليمية متكاملة في حال سقوط الحكم في دمشق، ويقع المشهد الإقليمي والدولي في أسر الانقياد لهذه المنظومة التي لا يمكن معالجة أي من أطرافها في معزل عن الآخر، ولذلك فإن موقف القوى الرئيسة لا يزال مقتصراً على التأكد من المحافظة على مصالحها الذاتية، دون أن تعبأ بحجم الأزمة الداخلية وشدة وطأتها على المواطن السوري.

* "بنية النظام" و"بنيوية الثورة":

لا بد من التأكيد على اختلاف طبيعة الثورة السورية المعاصرة عن الثورات التي أودت بحكم رئيسي تونس ومصر، والتي تهدد استمرار رئيسي اليمن وليبيا، ففي الحالتين: التونسية والمصرية؛ انحاز الجيش لصالح المتظاهرين، وفرض تغييراً سلمياً في رأس السلطة، وفي الحالة الليبية؛ قامت القوات الدولية بدعم حركة التمرد واعترفت بها ممثلاً شرعياً للشعب الليبي، في حين تشهد اليمن مبادرة إقليمية تدعمها القوى الدولية بهدف الوصول إلى حل سلمي للأزمة.

لكن جميع المبادرات السياسية والعسكرية تتلاشى أمام الأزمة السورية، حيث يقف الشعب الأعزل في مواجهة الآلة العسكرية للقوات الخاصة بماهر وبشار.

ولفهم أحداث الثورة السورية المعاصرة واستشراف مستقبلها، لا بد من إمعان النظر في مفهوم الثورة وأهدافها، حيث تميز مدارس التحليل الاجتماعي ما بين: "بنية السلطة" التي تدفع الشعوب للتحرك الجماعي ضدها من جهة، و"بنيوية الثورة" التي تعتبر الركيزة الأساسية في نجاح الثورة وتحقيق أهدافها من جهة أخرى.

ويقصد بمصطلح: "بنوية الثورة": تطور البنية التحتية للحراك الثوري، والانتقال التدريجي من حالة السخط الشعبي إلى العمل السياسي المنظم الذي ينجح في تقديم أجندة إصلاحية فاعلة تطرح نفسها بديلاً عن النظام الذي قامت الثورة الشعبية ضده.

وترتبط هذه النظريات بسيناريوهات: التغيير الطبيعي، والتغيير القسري في المشهد العربي الحديث والمعاصر؛ إذ أثبتت الدراسات المعاصرة أن تدخل القوى الأجنبية لحل الأزمات الداخلية لا بد وأن يسفر عن حرب أهلية، تأتي كنتيجة حتمية لغياب البدائل المحلية الناضجة والعجز عن التقدم بمشروع سياسي يخرج البلاد من ربقة الاستبداد.

ونظراً لذلك، فقد كانت النتيجة الحتمية للتدخل الخارجي في كل من: لبنان، والعراق، وليبيا، هي اندلاع الحروب الأهلية والاقتتال الداخلي، وذلك لأن المجتمعات المحلية لم تسنح لها فرصة التفاعل الطبيعي والانتقال إلى مرحلة التداول السلمي للسلطة، فلجأت مختلف القوى السياسية والعشائرية إلى محاولة حسم المشهد فيما يتوافق مع مصالحها الفئوية.

أما فيما يخص تونس ومصر، فهناك حالة إدراك شعبي متأخر بأن الأنظمة قد ضحت بأفراد للمحافظة على بنيتها، وبأن الثورتين لم تحققا على أرض الواقع أهدافهما.

وبالمقارنة مع هذه التجارب؛ يظهر جلياً بأن الشعب السوري يخوض ثورة تستهدف بنية نظام أسسه الفرنسيون ورسخه حكم آل أسد، وتقوم أركانه على: الدولة الأمنية، وهيمنة "القوات الخاصة"، وضعف الحكم المدني، واحتكار المقومات الاقتصادية والثروات الوطنية لصالح فئة صغيرة، وغياب الحريات العامة، واستشراء الفساد.

وعلى الرغم من أن غياب التدخل الخارجي في الحالة السورية، يكلف المزيد من الخسائر البشرية ويطيل أمد الصراع؛ إلا أنه يحمل في طياته بشائر الانتقال السلمي نحو تغيير صحي لا تتدخل فيه القوى الخارجية من أجل المحافظة على مصالحها، حيث يعتبر التفاعل الداخلي أساس نجاح الثورة وقدرتها على تحقيق أهدافها.

ويمكن تتبع أهم ملامح التشكل البنيوي الطبيعي للثورة السورية في عدة تطورات من أبرزها:

1- انبعاث الروح الوطنية التي لم تشهدها البلاد منذ جلاء الفرنسيين عنها عام 1946، وتتمثل هذه الروح في تفاعل المحافظات مع بعضها، وتضامن أبناء الأقاليم مع بعضهم، وما يطلقه المحتجون من هتافات مؤثرة يحيون فيها إخوانهم، ويعلنون تعاطفهم مع معاناتهم على يد الشبيحة وفرق حماية النظام.

2- سلمية الحركة، وإصرار منظميها على عدم الانجرار في دوامة العنف التي تخوضها "القوات الخاصة"، ويظهر ذلك في الشعارات التي ترفعها التظاهرات، واستمرار حركات الاحتجاجات الشعبية دون اللجوء إلى قوة السلاح، وذلك على الرغم من توفره في كثير من الحالات.

3- تفاعل المجتمع المدني بمختلف مكوناته مع المطالب الشعبية المشروعة، حيث تتحرك الأحزاب السياسية، والفعاليات الاجتماعية والثقافية في وتيرة واحدة، ويتناغم أداء القوى المنفية في الخارج مع الأداء المحلي، مما يدفع بالنظام لارتكاب المزيد من الهمجية وجرائم القتل الجماعي.

4- نجاح القوى الشعبية في ترتيب تحركاتها، وتنسيق مبادراتها، وتعيين الممثلين والناطقين باسمها، وتبادل المعلومات وبثها، بهدف اختراق التعتيم الإعلامي الذي يفرضه النظام، وتعتبر هذه العوامل من أهم ملامح تشكل البنيوية الثورية الناجحة.

5- الوعي الشعبي الذي تزداد وتيرته مع تصاعد الأحداث، حيث يظهر الشباب السوري نضجاً في تحركه السلمي، إذ أن أكثر ما يؤثر سلباً في الحركات الثورية ويشوه سمعتها: انحياز أبناء الطوائف والعشائر إلى بعضهم لتحقيق مصالح فئوية، وتعدي بعض الفئات على المجتمع وإتلاف الممتلكات العامة، واندلاع الصراع بين مختلف الفئات المعارضة بسبب الفشل في تحقيق موقف سياسي موحد.

إن الثورة السورية تسير بخطى وئيدة، لدك أركان البنية التحيتة للإرث الأمني-العسكري الفرنسي، وتشييد بنيان يسهم فيه جميع أبناء الوطن لتحقيق الحرية والكرامة والازدهار، وهي مسيرة بطيئة ومؤلمة، وتتطلب الكثير من التضحيات.

ترسم كتب التاريخ والمذكرات السورية في عهد الانتداب مشهد رجل يجري خلف عربة نقل تابعة للقوات الخاصة، يتوسل إلى سائقها أن يتوقف ويأخذه قيد التوقيف ليلحق بركب الأبطال، أما في داخل العربة فقد جلس مجموعة من المتظاهرين؛ كسرت نظاره أحدهم، ومزقت سترة الآخر، وشج رأس الثالث، وهم يهتفون بصوت واحد:

يا ظلام السجن خيم *** إننا نهوى الظلاما

ليس بعد الليل إلا *** فجر مجد يتسامى

                

الهوامش:

(1) انظر: يوسف الحكيم (1966)، سورية والعهد الفيصلي، بيروت. ص 181. وقد تحدث وليد المعلم في كتابه: (1988)، سورية 1916- 1946، عن أحداث الثورة السورية، إلا أنه لا يزال عاجزاً عن الاستفادة منها على أرض الواقع وفهم أبسط مكونات الثورة المعاصرة ومحركاتها.

(2) نقلاً عن المسيو بيو، آخر مندوب سام للجمهورية، في كتابه: سنتان في الشرق، باريس، ص.ص 28-29، ولم يكن الجنرال غورو وحده مسكوناً بهاجس انتصار الصليب على الهلال وانتهاك حرمة الأرض المقدسة؛ بل شاركه عدد من المفوضين والضباط الذين أرسلتهم فرنسا لحكم بلاد الشام، وقد تحدثت عن هذه الظاهرة العديد من الصحف الفرنسية المعاصرة، ومن أبرزها صحيفة اللوموند التي انتقدت انبعاث "الروح الصليبية في القرن العشرين".

(3) نقلاً عن نجيب الأرمنازي (1973)، سورية من الاحتلال حتى الجلاء، بيروت. ص.ص 37-38.

(4) كان تعداد القوات الخاصة لشرق لدى تأسيسها عام 1924: 6.500 مجند، وكان من المخطط لها أن تتكون من عشر كتائب من المشاة، وعشرين فصيل خيالة، وفصيلين أو ثلاثة من المدفعية الثقيلة ووحدات تدعيم، وأصبح تعدادها بحلول عام 1935: 14.000. جوردون توري (1969)، السياسة السورية والعسكريون 1945-1958، ترجمة محمود فلاحة، بيروت. ص 52.

(5) Bourne. K, and Watt, D.C. edits. (1985) British Documents on Foreign Affairs, 'Weekly Political Summary', no. 158, (10 April 1945), vol. 10, part III, p. 146.

(6) عادل أرسلان (1983) مذكرات الأمير عادل أرسلان، تحقيق يوسف أيبش، الدار التقدمية للنشر، بيروت. 1/524.

(7) الحوراني (2000) مذكرات أكرم الحوراني، مكتبة مدبولي، القاهرة. 1/439-440.

(8) Bourne. K, and Watt, D.C. edits. (1985) British Documents on Foreign Affairs, 'Weekly Political Summary', no. 173, (31 July 1945), vol. 10, part III, p. 172.

(9 Ibid, 'Weekly Political Summary' no. 174, (7 August 1945), vol. 10, part III, pp. 174-175.