مبارك: الفرعون والإنسان

حسام مقلد

حسام مقلد *

[email protected]

أعترف بداية أنني لم أكتب هذا الكلام لإبداء الشفقة على الرئيس السابق محمد حسني مبارك أو التعاطف معه، ولا لإظهار الشماتة والتشفي فيه، بل لهدف آخر مختلف تماما وهو الحديث عن شخصية مبارك الكامنة داخل كل منا شخصية الإنسان البسيط الذي يتفرعن ويظلم خلق الله عندما تؤول إليه سلطة أو جاه أو ثروة طائلة!! وقطعا لا شك أن يوم 3أغسطس عام2011م سيحتفظ بنكهة مميزة في تاريخ مصر الحديث؛ لأنه اليوم الذي شهد محاكمة الرئيس السابق، وهي المرة الأولى التي يرى فيها العالم محاكمة زعيم عربي على ما ينسب إليه من جرائم ارتكبها إبان فترة حكمه، فعادة ما يكون الحكام العرب في القصر أو في القبر، كما يقال، وهم يحاسبون فقط على صفحات التاريخ بعد عقود من رحيلهم، ولعل مصر تضرب بذلك لشقيقاتها العربيات القدوة والمثل في سيادة القانون على الحاكم والمحكوم، ورغم مشاعر الغضب الجامحة التي تملأ قلوب المصريين إلا أن المتهم يبقى بريئا حتى تثبت إدانته، ولنترك ذلك للقضاء، وأيا كان الحكم النهائي ستبقى هذه المحاكمة حافلة بالكثير من المعان والعبر ذات الدلالات العميقة.

لكن يلح عليَّ السؤال التالي: لماذا فعل الرئيس السابق حسني مبارك بنفسه هكذا؟! ألم يكن يعي حجم ومكانة الدولة التي يحكمها؟! ألم يكن يدرك أنه يرأس شعبا عمره الحضاري سبعة آلاف سنة؟! وأنا هنا لست في معرض الزهو والتفاخر، ولكن شعبا بهذا العمق التاريخي لم يكن يستحق ما جرى له على أيدي مبارك ونظامه، وعلى مستواه الشخصي لماذا قنع  الرئيس السابق بالدور الذي لعبه في خدمة أمريكا والمشروع الصهيوني على هذا النحو الذي جعل قادة إسرائيل يأسون من أجله ويحزنون عليه ويعتبرونه صديقا وفيا لهم؟! لماذا لم تسمُ نفسه لصناعة المجد له ولوطنه رغم أنه حكم مصر ثلاثين سنة كاملة؟!! عجيب حقا أمر الناس في هذه الدنيا!! فهم لا يستقرون على حال واحدة أبدا، ويتقلَّبون دائما بين النعمة والشقاء والراحة والعناء، فمنهم من تسمو روحه وتعلو همته، فينتدب نفسه لعظائم الأمور وجلائل الأعمال مهما كلفه ذلك من أثمان باهظة، ومنهم من تقصُر همته، وتسْفُل غايته، فيرضى بخمول الذكر والعيش الخفيض، ولا يطلب سوى ذلك، وشتان بين الاثنين، وهيهات أن يُسَامِي رجل رضي بالدون رجلا ندب نفسه للغايات العظيمة!!

لقد ذكر الرئيس السابق مبارك كثيرا ـ مفاخرا عن نفسه ـ أنه كان قبل توليه الحكم شخصا بسيطا بلا طموح كبير، وأن أقصى ما كان يتطلع إليه بعد حرب رمضان (أكتوبر) المجيدة أن يختتم حياته كملحق عسكري لبلاده في إحدى الدول، أو أن يصبح بالكثير سفيرا لها في بريطانيا مثلا، وفي ظروف معينة تم اختياره ليكون نائبا لرئيس الجمهورية السابق محمد أنور السادات، وبعد اغتيال الأخير وجد هذا الرجل البسيط نفسه رئيسا لأكبر دولة عربية، وطبيعي جدا أن رجلا بمثل هذه التطلعات البسيطة والآمال المحدودة يشعر بعد توليه هذا المنصب الكبير بأن شخصيته أقل كثيرا من مهمته التي تولاها، وربما استشعر في أعماقه أنه ليس أهلا لها، فغاية نفسه أبسط من غاية وطنه الكبير، وأظن أن عقله ووجدانه في البداية لم يستوعبا تماماً ما يجري من حوله، وأزعم أن إحساسه بصغر نفسه أمام ضخامة مهمته ظل يطارده طوال الوقت، وأن هذا الإحساس الدفين كان من أهم المؤثرات والعوامل التي حفرت عميقا في نفسيته، ومثلت بشكل أو بآخر هاجسا داخليا ملحا حملَه على العناد والمكابرة والتسلط؛ ليثبت لنفسه ولغيره خطأ هذا الشعور الذي يتملكه، ورغم أنه كان في بداية عهده رجلا بسيطا لا يمتلك طموحا شخصيا، إلا أن طول بقائه في الحكم واستتباب الأمر له جعله يتصرف بهذه القسوة بعد ذلك، فالنفوس البشرية تتغير ولا تبقى على حالها!!

ولم تكد تمر بضع سنوات على مبارك في الحكم حتى قويت شوكته وبرزت أنيابه وظهرت مخالبه ونسي دولة القانون والمؤسسات، ونسي مقولته الشهيرة بأن الكفن بدون جيوب، وبدأ طريقه إلى الاستبداد والديكتاتورية، وفي الحقيقة هذه هي حال معظم الناس ـ لاسيما في عالمنا العربي ـ وحال أهل السياسة وطلاب الزعامة والرياسة على وجه الخصوص، فما يزالون يتحدثون عن إقامة العدل، والقضاء على الجور والظلم، وتحقيق التقدم والرخاء، ويجعلون ذلك أهم شعاراتهم وغاية وجودهم في الحكم، حتى إذا ما تم لهم الأمر، وتحققت لهم السيطرة أسرفوا على أنفسهم، وبطشوا بمعارضيهم، وربما أصبحوا أظلم وأشد تجبُّرا ممن سبقهم؛ لأن شهوة السلطة تمتلك عليهم أنفسهم، فيغترون بقوتهم، ويسرفون في البطش بمن أمكنهم الله منهم، وفي عالمنا العربي تحديدا بسبب غياب الرقابة والمساءلة الشعبية الفاعلة من السهل جدا أن يصبح الإنسان في أي موقع أو منصب أسير نفوذه وسلطانه، فمن أمن العقوبة أساء الأدب كما نعلم، ومن السهل أن يصبح فرعونا حيث تُملِي عليه سطوة الحكم أو نفوذ السلطة ما يفعله حتى ينسى نفسه ويتنكر لكل مبادئه!! هكذا يفعل نفوذ الحكم والسلطة بأصحابه، فالسلطة تفرض أحكامها على الحاكم أو الرئيس، فقد كان مبارك في بداية حكمه يكثر من مشاورة الخبراء ويأخذ برأيهم، ثم بدأ شيئا فشيئا يقرب بطانته ويستمع إلى حاشيته فقط، وبدأ يترفَّع عن العامة، ويفْرِط في البطش بخصومه السياسيين، ولا أعني هنا الاعتقالات وحدها، وإنما كل ألون البطش المادي والمعنوي، وكما هو معلوم فالبطش والعنف لا يلد إلا البطش والعنف، والمغلوب إذا ظفر بخصمه ربما أنزل به من البطش والعنف أضعاف ما لقي منه!!

وأعتقد أن إشكالية كبر منصب حكم مصر على شخصية مبارك رسخت في وجدانه، وتضخمت كثيرا بداخله، وأصبحت أزمة نفسية حقيقية عميقة عنده؛ ومن ثم انقلب على بعض أصدقائه وأصحابه المقربين الذين ساعدوه في بداية حكمه، وبدلا من أن يستفيد منهم صرفهم عنه، وبمرور الوقت أحس بقوته وسطوة نفوذه، وكان كلما كسب شيئا من النفوذ وقوة السلطة خسر في المقابل شيئا من روحه ونفسه ومحبته في قلوب الناس، وأزعم أن ذهابه المتكرر إلى شرم الشيخ وحبه للبقاء فيها كان ناتجا عن إحساسه بمجافاة شعبه له، وأدى تعالِي مبارك المستمر على الشعب إلى انفصاله تماما عنه في السنوات العشر الأخيرة، وأحسب أن ذلك الوضع قد خلَّف في أعماقه الكثير من مشاعر الوحشة والوحدة والاغتراب النفسي، ولعل هذا هو شأن الحكم والسلطة حين يلتبس أمره فلا يتبين فيه الحاكم أو الرئيس الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ولا يعرف العدو من الحبيب، ويظل التحاسد والتباغض والتنافس بين بطانة السوء يعمل عمله حتى ينعزل الرئيس بالكلية عن شعبه، ويترك إدارة الدولة لمن يثق فيهم، وعادة ما يكون هؤلاء هم أهل بيته وخاصة خاصته من بطانة السوء، وتدار الدولة فعليا بأصابع هذه الحفنة القليلة الخفية، وقطعا كل شخص من هذه الدائرة الضيقة حول الرئيس يعمل لمصلحته هو فقط، ويطغيهم هذا الوضع فلا ينتبهون لخطورة إهانة الشعب والبطش بمناوئيهم من المعارضة، ولا يفطنون لفداحة ما يقدمون عليه حتى تنفجر الأوضاع على النحو الذي رأيناه في تونس ومصر والدول العربية الثائرة الأخرى!!

لقد عرف الشعب المصري رئيسه السابق مبارك بعد سنوات من حكمه رجلا عنيدا جدا، فلم يكن من أولئك الرجال الذين يخفضون جناحهم بسهولة، أو تلين قناتهم سريعا، أو يرجعون عن غلوهم في تمسكهم بقناعاتهم بيسر حتى لو كانت خطأ، وسبحان الله العظيم!! أهذا هو نفس الرجل البسيط الذي كان قصارى طموحه أن يصبح سفيرا لبلاده في لندن؟! كأن الإنسان يبقى أسيرا للسلطة يصنعها أولا ثم يصبح صنيعتها ثانيا، لا فكاك له من سطوتها، حقا سبحان الله!! فما أعجب الأقدار، ترى أهكذا يكون صنيع الحكم والرياسة بأهلها؟!! نعم في عالمنا العربي وبسبب غياب الديمقراطية هذا هو ما يصنعه الحكم بأهله: سطوة وجبروت، صراعات ونزاعات... قتل واغتيالات أو اعتقالات ومحاكمات!! حتى يكاد الحليم العاقل يقول: والله إنه لأهون عليَّ أن أرعى الغنم في شِعب في البادية خير من هذا المصير السيئ!! ترى لو عاد الزمان واطلع الرئيس السابق مبارك على مصيره الآن أيختار أن يصبح سفيرا لبلاده أم يصرُّ على اختيار ما حدث له؟! فسبحان من حجب عنا مصائرنا ليستوي في كل منا كتابة ما يخطه الواحد منا بنفسه في هذه الحياة، وهو مكتمل في علم الغيب منذ الأزل!!

أجل سبحان الله!! فما أغرب حياة الإنسان في هذه الدنيا!! إنها تمضي على سنة بينة وتسير إلى وجهة واضحة، ويكاد ينبئ أولها عن آخرها، وإن كان لا أحد من البشر يعرف ما تخبئه له الأيام وما ستفعله به تصاريف القدر، فكلنا يتمنى أن يعيش حياة كريمة في دولة قوية عزيزة مهابة الجانب، وفي نفس الوقت تكون دولة الحرية والديمقراطية والنزاهة والشفافية حيث العدل الذي لا ظلم فيه، والحق الذي لا يشوبه باطل، وقطعاً هذه المعاني الجليلة المجردة تجذب أي سامع، وتبهر أي عقل، ولا يختلف عليها اثنان، لكن هل تتحقق يوما في مصر وعالمنا العربي؟! نتمنى ذلك!! فحكم دولة بحجم مصر يحتاج إلى رجل قوي على قدْر كبير من الفطنة والذكاء وسعة الحيلة، لكن من يدري ما تخبئه لنا الأيام؟! وهل سيستقر الوضع أم تسير الأمور نحو مزيد من الاضطراب وعدم الاستقرار، حيث الفتن والمكائد والدسائس والمؤامرات الداخلية والخارجية؟!!

وإذا لم يكن حسني مبارك الرئيس رجلا مثقفا ولا محبا للقراءة كما قيل عنه ـ وكما قال هو عن نفسه ـ فأين كان في كل ما حدث من حوله؟! ألم يشهد ما جرى لصدام حسين؟! بل ألم يشارك بنفسه في نسج بعض الأحداث؟! ألم يسمع عن نورييجا رئيس بنما؟! ألم يعاصر ما وقع لشاه إيران؟! لماذا إذن لم يتعظ بكل هؤلاء؟! وأين مستشاروه؟! لماذا لم ينصحوه؟! حقا لا أحد من الخلق يعلم كيف تُنسج له الأحداث وتتضافر حتى تكتمل وتسير إلى غايتها المقصودة، ، وعلم الغيب عند الله وحده، لكن من يدري ما الذي تمهد وتوطئ له كل هذه الأحداث؟!! وكان الله في عونك يا مبارك الإنسان فما أبأس أن يشعر المرء في آخر أيامه أنه طوال هذا الوقت كان يسير في الطريق الخطأ، وأنه قطع الشوط الأكبر من رحلته وأوشكت شمسه على المغيب، لكنه بعد كل هذه الرحلة الطويلة لم يجلب لنفسه سوى نقمة الناس عليه!!

ومن عجائب الأقدار أن تتوافق بعض الحوادث ويتصادف وقوعها إثر حوادث أخرى لتسير الأمور إلى غايتها بقدر الله، فنحن نعمل ونريد ولكن فقط فيما تطوله تدابيرنا وتدركه أبصارنا من الأسباب التي نراها، لكن الله وحده بكل شيء محيط، ومن الإنصاف أن نعترف بأن  شهوة الحكم تخلب الألباب وتذهل العقول وتعمي الأبصار، ومن أجلها تتغير النفوس وتثور العداوات والأحقاد، وكثيرون هم الوشاة وصناع الفتن وأصحاب المصالح الخاصة الذين يؤلبون السلطة على الشعب، ويهيجون أجهزة الحكم وأذرعها الضاربة على الجماهير لتبطش بها من حين لآخر لإرهابها وإسكاتها عن المطالبة بحقوقها المشروعة، لكن لكل شيء نهاية ومهما اختلطت أمور السلطة وشئون الحكم على المواطنين العاديين إلا أنهم يعرفون مصالحهم جيدا ولن يتركونها تضيع منهم إلى ما لا نهاية!!

وليت مبارك الإنسان يراجع نفسه سريعا ويبادر إلى توبة صادقة قبل فوات الأوان، ليته يكون شجاعا ويعترف بأخطائه ويعتذر لشعبه، وما أروع أن يمتلك الإنسان زمام نفسه ويضعها موضعها اللائق بها من التكريم، ويصونها عن المذلة والامتهان، ومن كان عزيزا في نفسه وطباعه فهو كذلك، أيا كان المنصب الذي يشغله، أو العمل الذي يؤديه، رئيسا أو مرؤوسا حاكما أو محكوما، فبيد الإنسان لا بيد غيره أن يبقى عزيز النفس إن شاء، أو أن ينزلها إلى هاوية سحيقة ليس لها قرار، وهذا أمر لا يستطيع الحكم والرياسة أن يِسلبه من أحد أو يمنحه إياه، فلتذهب الرياسة إذن، وليبق مبارك الإنسان بأخلاقه وشمائله عزيزا مصانا أمام نفسه وأمام أولاده وأمام شعبه وأمام العالمين!!

وهكذا توشك حكاية رئيسٍ (فرعون) مصري على نهايتها، ويوشك الفصل الأخير أن يكتمل، وكلنا يتمنى أن يحاكم محاكمة عادلة، وأن ينال جزاءه الذي يرضاه ضمير العدالة دون ضغوط من أي جهة كانت، ولا يعلم إلا الله تعالى وحده كيف ستكون نهاية إنسان اسمه محمد حسني مبارك، وأسأله سبحانه أن يمن عليه بتوبة صادقة ليلقى وجهه الكريم نقيا من ذنوبه وأوزاره ومظالمه، فما أروع تلك اللحظة التي يصل فيها المرء إلى جوهر الحقيقة، ويحرر روحه ويخلص نفسه من كبرها وغرورها، وينقيها من ضغائنها وحظوظها وأحقادها ومطامعها، وما أجمل أن نتعظ نحن ونعتبر!! فهل نمحو الضغائن من نفوسنا، ونتناسى الأطماع والأحقاد والثارات فيما بيننا؟! هل نحرص على أن نملأ حياتنا وحياة الآخرين من حولنا بهجة وفرحا وسعادة؟! هل نسعى إلى أن نعْمُر الحياة بالتسامح والتغافر والمحبة والإخلاص؟! وهل ننصرف إلى العمل الجاد لبناء مصر الحديثة القوية الناهضة المستقرة؟! آمل ذلك من كل قلبي!

                

 * كاتب إسلامي مصري