ورقة بشار الأسد الأخيرة

مدني قصري

ترجمة: مدني قصري

لا يمر أسبوع واحد من دون أن تطول قائمة الضحايافي تكرار حِدادي كئيب يرسم إيقاع الأحداث في سوريةوهناك، يحافظ نظام بشار الأسد على نفسه بالترهيب والتدمير، ويمارس الحرب بالسلاح الثقيل أحياناوقد قارب عدد القتلى من500 شخص، أما عدد الجرحى فهو بالآلاف.

"لم نر مثل هذا الرعب من قبل قط"، هكذا قالت المنظمة غير الحكومية "هيومن رايتس ووتش". لكن السوريين يواصلون نزولهم إلى الشارعإنهم يريدون تغيير النظام، والقمع لا يصدهم عن ذلك، بل يغذي تمردهم واحتجاجهمومن بين كل ثورات "الربيع العربي"، كانت الثورة السورية الأكثر تعرضا للقمعومع ذلك، تظل ردود الأفعال أقل بكثير مما شاهدناه في تونس، ومصر، وأكثر من ذلك في ليبيا

لقد فرضت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي عقوبات ضد سوريةلكن الصين والاتحاد السوفياتي يضعان حواجز منيعة في الأمم المتحدة ضد هذه العقوبات: لا تقربوا دمشقهناك إذن مماطلة إزاء المأساة السورية؛ وذلك لأن الرهان كبير ومهولفالأمر لا يتعلق فقط بمستقبل دكتاتورية عربية من بين دكتاتوريات أخرى كثيرة، حيث إنه ولأسباب أكثر تعقيدا ومرتبطة ارتباطا وثيقا بتعقّد الطوائف السورية، وبالتحالفات الإقليمية المتشابكة في آن واحد، فإن جزءا كبيرا من مصير المنطقة مرهون في النهاية بالأوضاع في سورية.

ثمة أوّلاً الاتفاق الاستراتيجي الذي أبرم قبل 30 عاما ما بين دمشق وطهرانوهو نوع من بوليصة تأمين لحماية النظام السوري الذي يتحكم فيه العلويونويشكل هؤلاء المنشقون عن الشيعة، وهم الفرع الأقلية في الإسلام، يشكلون 12 %من مجموع سكان سورية البالغ عددهم نحو 22 مليون نسمة.

ويتكون أكثر من نصف السوريين من السنّة، طائفة الأغلبية في الإسلام: وحتى يمارسوا سلطتهم، يستند العلويون إلى الأقليات الأخرى في البلاد، من مسيحيين، ودروز على الخصوص.

وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن سورية هي البلد العربي الوحيد الذي أبرم تحالفا مع الجمهورية الإسلامية في إيران، البلد الشيعيوهذه الجمهورية التي تتشكل من مزيج من القومية الإيرانية ومن الحماسة الثورية، تزلزل اليوم باقي المنطقة العربية السنية التي تخشى العدو الفارسي القديم وتطلعاته الإمبريالية الإقليمية

والحال أن دمشق هي بوابة التأثير الإيراني في العالم العربيفمن دون التحالف مع سورية تظل أهداف إيران في المنطقة مجرد أهداف كامنة، أي في حيز الإمكان ليس إلاولذلك، وبفضل تواطئها مع سورية، تموّل طهران وتزود بالأسلحة والصواريخ حليفها العربي الثاني في المنطقة، ألا وهو الحزب الشيعي اللبناني: حزب الله.

ومن خلال حزب الله تفرض سورية وصايتها على لبنانوكان لدمشق وطهران منذ وقت طويل حليفٌ مقرّب آخر، هو حركة حماس الفلسطينيةوهذه التشكيلة السنية تهرب اليوم من حالة عدم استقرار السلطة السورية، وتسعى للتقرب أكثر من دول الخليج العربي ومصرويا له من زواج مصلحي غريبويا له من اقتران ما بين الدكتاتوريات: فمن ناحية، هناك حزب البعث الحاكم في دمشق، وهو "جوهر القومية العربية"، ومن الناحية الثانية هناك الثيوقراطية الشيعية ذات الميول الشمولية

لقد حاولت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في الفترة الأخيرة، أن يتملقا الرئيس بشار الأسد، لجعله يبتعد عن إيران، مع الأمل في تغيير ملامح الشرق الأوسطذلك لأنه من دون الدعم الذي يتلقاه من إيران، وهو الدعم الذي يأتيه من خلال سورية، لما استطاع حزب الله أن يصبح قوة للترهيب الذي يمارسه اليوم في لبنان، وفي ذلك تكمن إمكانية تحقيق الديمقراطية في لبنانومن دون إيران، سيعود النظام السوري إلى أحضان العرب التقليديةوفي ذلك أيضا إمكانية لعودة سورية إلى التفاوض مع إسرائيلوفي المقابل، ستفقد إيران من دون سورية بوابة نفوذها إلى العالم العربي، أي انها ستفقد جزءا من قدرتها على إلحاق الضرر في المنطقة

لا شك بأن سقوط البعث السوري سيؤدي بالأغلبية السنية في البلاد إلى ممارسة السلطة في دمشقفالصراع الشيعي السني يتعرض اليوم للشرخ، إلى الحد الذي سيجعل أول قرارات السلطة الجديدة هو الابتعاد عن الجمهورية الشيعية الإيرانية، أو إعلان القطيعة معهاوبذلك ستتغير ملامح الشرق الأوسط… نحو الأفضل بالتاكيد

إذن، لماذا لا تثير آفاق انهيار نظام الأسد المحتمل اليوم الكثير من الحماسة في الغرب؟ ففي أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وفي إسرائيل، وحتى في العالم العربي، نرى ردود الفعل نفسها؛ مثل انتظار حذر وقلِق، وخوف من رؤية القوة الوحيدة، غير القانونية، وقليلة التنظيم، أي الإخوان المسلمين، وهم يستلمون السلطة في دمشقفإما الفوضى العارمة، أو الاسلاميون السنة – أو الاثنان معا!

وهناك أيضا الرئيس العراقيفقد جر سقوط نظام الأقلية السنية لصدام حسين في العام 2003، العراق إلى حرب أهلية عنيفة دامت 7سنوات، في بلد لا يقل انقساما عرقيا ودينيا عن سوريةولذلك، فإن شبح حرب أهلية طويلة المدى –الحرب التي تستمتع دمشق باستثمارها بالطبع– يخيّم اليوم على أحداث سوريةوفي هذا الشبح ما يفسر السبب في أن جزءا من الطبقة الوسطى السنية في سورية كثيرا ما كانت تدافع عن البعث

ومن جهتها، تخشى الولايات المتحدة الأميركية أن تؤدي الاضطرابات السورية إلى انعكاسات مشؤومة على العراق، وأن تُعقّد انسحابَها منهأما إسرائيل التي اعتادت استقرار النظام العلوي، فقد عقدت "تسوية مؤقتةمع عائلة الأسد، التي تفضلها على الإخوان المسلمينوقد كشفت صحيفة "واشنطن بوستفي نهاية شهر أيار (مايوالماضي أن أحد الإيرانيين، ويُدعى محسن شيرازي، قد أُدرج اسمُه على قائمة الشخصيات التي تستهدفها العقوبات الأميركية ضد سورية.ويُعد محسن شيرازي واحدا من قادة وحدة النخبة، وهي "قوة القدسالعسكرية التي أنشأها الحرس الثوري، الذراع المسلح للجمهورية الإسلامية، للدفاع عن مصالح إيران في الخارجوقوة القدس هذه هي التي تُدرب عناصر حزب الله، وقد أرسلت العشرات من المستشارين إلى دمشق لمساعدة النظام السوري على سحق "الربيع السوري".

لا شك بأن إسقاط معسكر الأسد سوف يكون كارثة استراتيجية على إيران، وانقلابا مهما في تطلعاتها في المنطقةوذلك هو ما تسعى إيران إلى تفاديه بأي ثمن، حتى وإن اضطرت لأن توجه أوامر إلى حزب الله بأن يقوم ببعض العمليات الاستفزازية ضد إسرائيل، ومن ثم تفجير حرب جديدة ما بين لبنان وإسرائيلوهنا تحديدا تكمن ورقة بشار الأسد الأخيرةفهو يضع فوق الطاولة خيارا مستحيلا: أنا، أو الفوضى الإقليمية!