المقامة السورية

عبد الرحيم صادقي

المقامة السورية

عبد الرحيم صادقي

[email protected]

حدثنا مروان الحَمَوي قال: نزلتُ أرضَ بَرْقَة، فشعرتُ بضِيقٍ وحُرْقَة. كيفَ والرجلُ قد سَرْبَخ، وأفكَ ونَفَخ! وجهٌ تَبَرْقَح، وأيْدٍ تَلَطَّخ. وما خَفِيَتْ منه الأُسْروجَة، وحَقُّه القذفُ بالسرْموجَة. قد سلَّط على ذَوِيه هَمَلَ الأفارقة، فعَاثُوا فساداً كأنهُمُ الأزارِقَة. والزَّغْزَغُ الزُّعْرُورُ يُوَعْوِع، والسِّلاحُ لائحٌ يُقَعْقِع. عَضْبُ اللسَانِ فَدْم، مَعْطُوطٌ وَقِحٌ وَغْم. مُنْخَرِقُ السِّرْبَال، ضَرَطَ وبَال.

فقلتُ هلُمَّ إلى أرضِ الشام، أتقي لَفْحَ يومٍ سَامّ. لعَلِّيَ أجِدُ رُشْداً أو هُدى، بَيْدَ أنَّ كَدِّيَ راحَ سُدى. فما وجدتُ غيرَ الرجُلِ السَّرْطَل، مَن خطبَ في الناسِ وبَرْقَل، ورَشا النُّوَّابَ وبَرْطَل. فمَا منهم غير مُنافِق، ومَدَّاحٍ ومُوافِق. فبعضٌ يُصَفِّق، وبعضٌ يُخَرْبِق. ودمُ الناسِ جرَى في دَرْعا، وصِبْيةٌ مَكلومُون وصَرْعى. والأبلَهُ الأخْطَل، كخَيْطَلٍ أو هَيْطَل. تُراهُ جهِلَ أم أنكَر، شعباً قد تَحرَّر؟ إذْ قال خائنٌ مُندَس، وعميلٌ يَتجسَّس. يَطِبُّ العيونَ وفيه رَمَد، والقلبُ من فِعْلِه في كَمَد. أطبيبُ عُيونٍ وسَبَل؟ إنَّ هذا لَعيْنُ الخَبَل! وأخوهُ "الماهرُ" يَسفِك، يُذَبِّحُ الفتيانَ ويَفْتِك. وحَذْوَهم الجُولان، والحربُ في حُوران! فما أصدقَ من قال:

أسدٌ عليَّ وفي الحُروبِ نعامة        رَبداء تَجفلُ من صَفيرِ الصَّافِرِ

فقلت لمروان: لكنَّ الرئيسَ عَفا، وكلَّ جُرْمٍ نَفَى. قال: تَلْدَغُ العقربُ وتَصِيء، أبشرْ شامِيُّ بعفوٍ نَسِيء! قال صفوت الحلَبي: ذو الأفعالِ القبيحَة، عفا عن الذبيحَة! نَثَرَ القَمِيحَة، وأطلقَ "الشبيحَة"! قلت لمروان: فما تقول في البوطي، وقد أشبهَ السَّيوطي؟ قال: إن الشيخَ يَهْذي، والله يُضِلُّ ويَهْدي. قد صَيَّر الأحرارَ حُثالة، تركوا الصلاةَ ضلالة. وَلَجُوا المساجدَ انتعالا، وانتحلوا الذكرَ انتحالا. ركَنَ البوطي و"حَسُّون"، أَهِلِّي   رَيْبَ المَنُون! قلتُ: و"بُثَينةُ" و"المُعَلِّم"؟ قال: بئسَ المُداهِنُ المُسَلِّم.

قلتُ: لكنْ لِمَ حِقْدُ الرئيسِ والنِّقَم؟ قال مروان: شِنْشِنَةٌ أعرِفُها من أَخْزَم، ومَن أشبَهَ أباهُ فمَا ظلَم. ولقد قال أبو ريشة في أبيه:

تركَ الحصونَ إلى العِدى متعثراً
سِـكـيـنُـه  في شدقه iiولُعابُه
مـا  كـانَ هولاكو ولا iiأشباهُه
هذي  حَماةُ عروسةُ الوادي على



بـفـراره وأتى الحِمَى iiمُستأسِدا
يجري  على ذكرِ الفريسة iiمُزْبدا
بـأضـلَّ أفـئـدةً وأقسى أكبُدا
كِـبرْ  الحِداد تُحيل طَرفاً iiأرمدا

قال صفوت الحلبي: صدقتَ وإن خرج فوق أبيه، وما أصدق قولَ شاعرٍ نَبِيه:

ودمشقُ من النُّصَيرية الرَّعناء        ضجَّت   سُهولُها  والنُّجود

حافظُ الكُفر صاحبُ الأمرِ فيها        حيث مروان غيَّبَتْهُ اللُّحود

ثم قال: أيَعرِضُ علينا خِصْلَتَي الضَّبُع؟ عذابٌ أو قومٌ سُجَّدٌ رُكَّع! قال مروان: حربٌ مُجْلِيَة أو سِلْمٌ مُخْزِيَة! اللهمَّ المَنِيَّة ولا الدَّنِيَّة!

قلتُ: إن العَصا من العُصَيَّة، وهو الوفِيُّ ذو الوصِيَّة. قال مروان: ألَمْ يأتِكَ نبأ حَمَاة وسريحين، يومَ أُبيدَ الشيخُ والجَنين؟ قلت: ما يومُ حليمة بِسِرّ، يا حادِيَ الرُّكْبانِ سِرْ!

قال: وخَبَرُ تلِّ الزعتر، وهنانو وتَدْمُر؟ وكيفَ ينسى المسالمَةُ والأبازيد، وشاميُّون بين سَجينٍ وطَريد؟ قد تفرَّقوا شذَر مَذَر، سواء البدوُ والحَضَر، لِيَنْعَمَ "بشار" و"البعث"، بمِلْكِ اليمين والحَرْث، فيأتي الناسَ أنَّى شاء، ويَتَّخِذَهُم سُخْرِيًّا وإماء. أمَا رأيتَ كيف هَتَك الأفَّاكون الدستور، لِيَحكُمَ ابنُ الرئيس ويَجُور؟ وعمودا شاهِدَةٌ ودير الزور، والقامشلي وبوكمال، واللاذقية والرِّجَال. ولئن كان الغلام دون البلوغ، فلَيُّ القانونِ عيْنُ النُّبوغ. وكلُّ مَن ثارَ من الأحرار، "حريريون" وعيونٌ وأغرار، أو "سلفٌ" و"إخوان"، وأتباعُ "بنِ سلطان". وخروجُ الناس مؤامرة، ورَوْمُ الحقِ مُغامرة.    

قلت: فما تقول في "نصر الله"؟ قال: كبا وأيْمُ الله. ألاَ شاهَتِ المقاومة، وحلَّتِ المُساومَة. قد صاحَبَ الأطلَسَ العَسَّال، وصافحَ يدَ القتَّال، مَنْ أعدَمَ "الخطيب"، حمزة الحبيب، وحبَسَ "الأتاسي"، وأجَّجَ المآسي، و"الملوحي" و"المالح"، وكلَّ صادقٍ ناصح. أمَّا المُجْلَوْنَ ففي كل بلد، شتاتٌ لا يُحْصِيهم عَدَد. ذَهَبُوا أَيْدِي سَبَا، كبيرُهُم ومَن حَبَا. "فالسباعيُّ" و"العَطَّار"، وإخوانٌ ويسار. عجَبٌ جزاءُ سِنِمَّار، إما رَمضَاء وإما نار!

قلت: لقد رأيتُ الناس، في حِمْص وبَنياس، والحَسكة وإدْلب، والرَّستنَ وحلَب، والدِّير وتلِّ كَلَخ، تُذبَحُ وتُسْلَخ. وليس فيهم غيرُ أعزل، وأكثرهم مُعْوِزٌ ومُعَيَّل. وألْفَيْتُ جِسرَ الشغور، في نزوحٍ وثُبور. فعَلامَ ثارَ الجَيْأل؟ ولا وِتْرَ له ولا ذَحْلَ؟ قال مروان: ومَنْ يَحمِي العصابة، ويسندُ القرابة؟ "مخلوف" و"بخيتان"، وقراصنة وحِيتان! إنَّ هذا التَّفِلَ الوَهِل، الخَبِلَ الثَّمِل، لا دينَ له ولا مِلَّة، ولا قلبَ ولا نِحْلة. ولا يُؤْمَنُ الوَغْد، ولو كان في وِرْد.

 قلت: لكنهم يقولون، إنكم شِرذمةٌ قليلون. قال: فجوابُهُم عند السموأل:

إِذا المَرْءُ لم يَدْنَسْ من اللُّؤْمِ عِرْضُهُ
تُـعَـيِّـرُنـا  أنّـا قَـليلٌ iiعَديدُنا
ومـا  قـلَّ مَـن كانت بقاياه iiمثلَنَا
ومـا  ضَـرَّنـا أنّـا قليلٌ iiوجارُنَا



فـكُـلُّ رِدَاءٍ يَـرْتَـدِيـهِ iiجَـمِيلُ
فـقـلـتُ  لـهـا إنّ الكرامَ iiقليلُ
شـبـابٌ تَـسـامَى للعُلَى iiوكُهول
عـزيـزٌ وجـارُ الأكـثَرينَ iiذَليلُ

ثم قال مروان: فلا تَغُرَّنَّكَ كثرةُ الخبيث، فإنما هو أسَدٌ رَثِيث.