أعطوه فرصة

د. نور الدين صلاح

د. نور الدين صلاح

مركز الدراسات الإستراتيجية لدعم الثورة السورية

خطاب متكرر سمعناه أول مرة بعد خطاب الرئيس بشار عند القسم بعد الطريقة الدرامية التراجيدية لاستلامه الحكم وتغاضى الجميع وقالوا : أعطوه فرصة

تكونت المنتديات وتمخضت عن بيانات وإعلانات كإعلان دمشق ، وظهرت المطالب الحقيقية للشعب وتكونت مجموعات يمكن بدء الحوار معها وقال الجميع أعطوه فرصة

أجهضت هذه المنتديات وأغلقت واعتقل روادها ودعاتها ولوحقوا وانتهى ربيع دمشق بخريف محزن قاسٍ ، وكانت رسالة مخيبة من النظام بعد بوارق الأمل التي لاحت في الفضاء السياسي ، وبقي من يقول أعطوه فرصة

غُزيت العراق واضطربت المنطقة وهددت سوريا واختلطت كثير من الأوراق في صراعات العراق ، وكان متوقعاً أن يحس النظام بالخطر الحقيقي فيهرع إلى إعادة ترتيب البيت من داخله ، لكن شيئاً لم يحدث وتذرع البعض بعدم الاستقرار وقالوا أعطوه فرصة

اغتيل الحريري وانسحب الجيش السوري من لبنان بطريقة غير لائقة وبدأت أصابع الاتهام باغتياله تشير إلى النظام واتخذت القرارات وتشكلت المحكمة الدولية ، وكان متوقعاً أن يحس النظام بالخطر الحقيقي فيهرع إلى إعادة ترتيب البيت من داخله مرة أخرى ، لكن شيئاً لم يحدث وتذرع البعض بقوة الضغوط واستثنائية المرحلة وقال أعطوه فرصة

عقد المؤتمر القطري في هذه الظروف بعد أن خفت ارتدادات الزلزال العراقي وعاد التوازن إلى الملف اللبناني ، وتسرب الكثير عن حزمة الإصلاحات المزمع دراستها وإقرارها كقانون الأحزاب على سبيل المثال وتمخض الجمل فولد فأراً كما يقولون وبقي من يهتف أعطوه فرصة

قامت الحرب في جنوب لبنان وتحمل الشعب السوري كثيراً من أعباء الحرب من أعصابه واقتصاده وأمنه وفتح بيوته لإخوانه المهجرين من لبنان الشقيق وتوقفت الحرب وتوقع الناس أن يكافأ الشعب على موقفه النبيل وكان الجواب الظروف غير مواتية فكان الرد الإعلامي أعطوه فرصة

جرى العدوان على غزة ووقف الجميع في صف المقاومة وحدث التحام بين القيادة والشعب في الخندق المقاوم حتى أحرجت كثير من المعارضات في الخارج والداخل مما حدا بعضها إلى تعليق نشاطها لتدخل في هدنة مفتوحة مع النظام وأصبحت الأجواء مهيئة للحوار الجاد والمصالحة التاريخية والانفتاح على شرائح الشعب ، لكن قوبل ذلك بالصلف والاستعلاء وعدم المبالاة وظل المتفائلون يرددون أعطوه فرصة

حصل التقارب الواضح الذي أسعد الجميع مع تركيا الجارة وما أعقب ذلك من إجراءات صبت في مصلحة النظامين والشعبين وحصل شيء من التوازن في الموازين الدولية في المنطقة ووقف الشريك التركي بحزم مع القضايا العربية والإسلامية وعلى رأسها القضية الفلسطينية ، وأظهر الشعب التركي استعداده لبذل الدم لفك الحصار عن غزة في قوافل فك الحصار ، وأحرجت القيادة التركية الساسة اليهود في كثير من المحافل الدولية ، وهمست القيادة التركية في أذن النظام بضرورة الإسراع في الإصلاح وفتحت له كل سبل المساعدة إذا أراد أن يسير في هذا الاتجاه ، وأثبت الأتراك أنهم وسيط نزيه بل شريف في جولات المفاوضات بين سوريا والكيان الصهيوني ، ووقف بشجاعة معلنا من المسؤول عن تعثرها والمتهرب من دفع استحقاقاتها والمراوغ فيها ، وبدأت الآمال تنتعش في وضع القاطرة أمام عربات الإصلاح ، وما لبثت أن تبخرت بتصريحات الرئيس للصحافة العالمية بأمرين اثنين مفجعين ، الأول أن الشعب فهم خطاب القسم خطأ وهو لم يعد بشيء والأمر الثاني أن الشعب غير مهيأ للديمقراطية وأمامنا حتى نصل إليها خطوات بعيدة ومسافة طويلة ، أصيب الناس بخيبة أمل كبيرة من هذه الإهانات المتكررة لهذا الشعب العظيم فتارة يتهم في فهمه ومرة أخرى في نضجه ورشده ، ولكن بقي من يقول أعطوه فرصة

بدأت رياح التغيير تهب على المنطقة ، وحاول النظام أن يظهر بمظهر الرابت على كتف الثورات الشعبية كما في مصر وتونس وبدأت تتفاقم الأوضاع في ليبيا وانتظر الجميع أن يكون النظام لماحاً فيستفيد مما جرى ويستبق الأحداث ويبادر إلى الإصلاح فكان الجواب صريحاً واضحاً (نحن بمنأى عن هذه العواصف ولن تصل إلينا رياح التغيير وسوريا ليست تونس أو مصر .....) وما زالت الفرصة لمن يقول أعطوه فرصة

وصلت الرياح إلى الشام واتضح أن إغلاق الأبواب والنوافذ لم يُجد شيئاً أمام هذه الرياح العاتية التي تدمر كل شيء بأمر ربها ، وتصرّف النظام بحماقة مع أطفال درعا وأهاليهم واندلعت الاحتجاجات ثم أخذت تنتشر رقعتها كالنار في الهشيم وهنا أطل علينا لأول مرة أصوات من أعماق التاريخ السحيق الغابر متمثلاً في المستشارة شعبان والنائب الشرع واعدين بحزمة عريضة من الإصلاحات وهتفوا جميعاً انتظروا الخطاب وأعطوه فرصة

ظهر الرئيس في مجلس الشعب ظهوراً غير لائق وأظن أنه اليوم نادم عليه ، وشّحه بما يقارب من عشر قهقهات والدماء تسيل ، وبطّنه بالتهديد والوعيد والوعود المعلقة وأشار إلى قرب رفع حالة الطوارئ وقال إن ذلك يحتاج إلى وقت في دولة المؤسسات وحتى تتحنن علينا القيادة القطرية بمزيد من العطاءات ، وانتظر الناس وأعلن الرفع وليته لم يعلن ، نزل الجيش وحوصرت المدن واقتحمت البيوت ومشطت الأحياء ومزقت الأوصال ومنع التجوال ، وهنا يطل أبواق النظام في كل القنوات ليقولوا لم تعطوه فرصة أعطوه فرصة

بدأت المجازر بكل مآسيها تطفو على السطح في حوران وكل مدنها وقراها درعا وإنخل وإزرع ونوى والصنمين والحارة وجاسم وغيرها ومدن الساحل اللاذقية وجبلة وبانياس وغيرها ثم حمص وأحيائها وريفها وقراها كالرستن وتلبيسة والشمال والشرق القامشلي والحسكة ودير الزور بكل قراها ومساحتها الواسعة المترامية وارتكبت المجازر في ريف دمشق في دوما والقابون وحرستا وسقبا وجوارها وبرزة والتل والمعضمية وداريا والكسوة والزبداني ومحيطها وامتدت لتصل إلى تلكلخ على الحدود اللبنانية واشتعلت منطقة إدلب برقعتها الواسعة الكثيفة سكانياً كالمعرة وأريحا وجبل الزاوية ، وبدأ النزوح إلى لبنان بأعداد كبيرة وإلى تركيا بأعداد أقل ، والتسونامي يعصف في كل مكان مع الغياب الكامل للمسؤولين (بلا تعليق) وما زال البعض يقول أعطوه فرصة

بدأت الإدانات الدولية والنصائح بتغيير السلوك وركوب قطار الإصلاح بسرعة مع التلويح بالعقوبات وإقرار بعضها وطرح البديل عن التلكؤ في الإصلاحات وهو رحيل النظام ، وبدأ الناصحون من المحبين والموالين تعلو أصواتهم وبعضهم يصيح مذعوراً ها قد بدأ الإصلاح بالفعل ولكن أعطوه فرصة

اجتمعت كل الجوقات التي يمكن أن يكون لها تأثير فعقدت الاجتماعات للأئمة والخطباء برعاية وزير الأوقاف وأقيل بعض الخطباء والأئمة واعتقل بعضهم وقتل ونكل ببعضهم أو بأهليهم وهدد الباقون ، وقال الجميع الرئيس إصلاحي لكن أعطوه فرصة

خرج علينا رامي مخلوف بتصريحاته النارية الشهيرة في (نيوز ويك الأمريكية) وكشف كثيراً من المستور وأفصح عن بعض المخبوء وأعلن أن شعار مرحلة الإصلاحات (سنقاتل حتى النهاية وعندنا مقاتلون كثيرون) وقال دعاة الإصلاح أعطوه فرصة

أطل علينا سماحة السيد المقاوم نصر الله وكأنه الناطق الرسمي باسم النظام المختفي في السرداب ليتحدث عن المؤامرة وينصح الشعب السوري القاصر الذي لا يعلم أين مصلحته بأن يعض على الرئيس والنظام بالنواجذ ويعده بإصلاحات تمضي إلى أبعد مما يتصور ويدافع (بكرازميته) المعهودة عن الثورات العربية ويغص في الثورة السورية ليعقد مقارنة كاذبة بينها وبين الثورة البحرينية ويعلل بأن الأفق عندنا ما زال مفتوحاً على حين أنه سد في كل المواقع ، ويقول بأعلى صوته أعطوه فرصة

بعد أن سمعنا مراراً في كل المناسبات المذكورة وعلى كل الألسنة المذكورة (أعطوه فرصة) خطر في بالي أن أسأل أسئلة تتعلق في كل كلمة ، فما المقصود بأعطوه ؟ ومن الذي يعطي ؟ وما المراد بالفرصة ؟ والفرصة لماذا ؟ وسأجيب بما يلي :

أليس كل هذه المدة كافية لهذه الفرصة المنشودة

أليس كل المناسبات والحوادث التي يتذرع بها النظام واعتبرها سبباً لتأخير الإصلاح كغزو العراق واغتيال الحريري وتداعياته وحرب تموز والعدوان على غزة كافية لتكون على العكس مما يتذرعون به ، إذ ينبغي أن تكون هذه المحطات من أكبر البواعث لتسريع الإصلاح وأكبر البواعث لتعزيز الوحدة والتلاحم الداخلي ، فإذا لم يتم الإصلاح مع كل هذه التهديدات فهل يتصور أحد أن يعطي هذا النظام أي شيء زمن الرخاء والراحة

ولو فرضنا أن الرئيس يريد الإصلاح في أي لحظة وفي كل وقت فمن الذي يمنعه ؟

هل هناك معارضة تمنع ؟

هل هناك مجلس شعب يمنع ؟

وهل هناك قيادة قطرية تمنع ؟

وهل هناك مجلس وزراء يمنع ؟

وهل هناك أحد قادر على المنع ؟ فما المراد بقولهم أعطوه فرصة ؟

فعلى سبيل المثال لو خرج الرئيس وقال يسمح بالتظاهر ويمنع لأي جهة أن تتعرض للمتظاهرين ، فمن الذي يمنعه ؟ ومن الذي سيعطيه الفرصة ليفعل هذا ؟

وعندما قرر بالأمس العفو العام المزعوم فمن الذي منعه ؟ ومن الذي أعطاه الفرصة ؟

من الذي يملك أن يعطيه ومن الذي لا يعطيه ؟

ألم يتغير الدستور بدقائق لتعديل عمر المرشح للرئاسة السورية ليصبح أربعة وثلاثين سنة في دولة المؤسسات ، فمن الذي مانع ومن الذي أعطاه الفرصة ؟

فهمت أخيراً أن الفرصة المطلوبة هي إفناء أكبر عدد ممكن من الشعب السوري وترويعه بالصدمة ، صدمة الرعب في أن يتحرك أو يطالب بحقوقه ، هذه هي الفرصة المطلوبة ، فالرئيس لا يعطي تحت الضغط شيئاً ، فلا من فرصة حتى يوقف هذه الضغوط ، لكن وجدنا أن الضغوط تزداد داخلياً وخارجياً يوماً بعد يوم ، وبركة الدماء تنتشر والأشلاء تتناثر والمآسي تزداد ، فالفرصة قتل واعتقال وتعذيب وإرهاب

لم يعد هذا الخطاب (أعطوه فرصة) بريئاً ولا مقنعاً ، حتى لو رددته الأرض كلها بكل جبالها و ذرات ترابها ، وبحارها بكل قطرات مائها ، لقد غدى هذا الشعار علامة فارقة لكل منافق دجال ، أو غبي غر ، أو انتهازي مخادع

إن معادلة أعطوه فرصة = قتل+حصار+اعتقال+تعذيب+تشريد

وإذا ما أحسنّا الظن أن المراد بقولهم (أعطوه فرصة) أي أوقفوا التظاهر والاعتراض ، فنقول من سيدفع ثمن وفاتورة الخيار الأمني الذي اختاره النظام ، وهل سيعود الشعب إلى المربع الأول ليجد نفسه تحت شمس محرقة من الظلم والتنكيل

إن الشعب سيستمر في المسيرة حتى يتفيأ ظلال الحرية والكرامة ، وهذه هي فرصته التي يجب أن يقتنصها بعد أن ضاعت عليه فرص كثيرة ، لذا كانت العبارة الصحيحة أن يقال لكل أولئك أعطوا الشعب فرصته