سوريا... من المقاومة حتّى الاجتياح

صلاح حميدة

صلاح حميدة

[email protected]

يفاخر النّظام السّوري بدعمه للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وللعراقية بعض الوقت، وحفلت الدّراما السّورية بالكثير من الأعمال الفنّية التي  تمجّد المقاومة الشّامية والفلسطينية والعربية ضد الإحتلال والإستعمار، وحظيت هذه الأعمال بنسب مشاهدة منقطعة النّظير في العالم العربي، وحصد الممثلون والمنتجون شهرة واسعة وأموالاً طائلة لأدائهم هذه الأعمال، وكان من أبرز هذه الأعمال سلسلة ( باب الحارة) الشّهيرة، ومسلسل ( الإجتياح) الذي وثّق مرحلة اجتياح جيش الإحتلال الإسرائيلي لمدن الضّفة الغربية ليسحق المقاومة الفلسطينية.

لم يكن يخطر ببال أحد من الذين كتبوا السيناريوهات لمسلسلات المقاومة والإجتياح، ولا لمن شاهدوها، أنّهم سيشاهدون الجرائم التي ارتكبت بحق المقاومين على يد الإستعمار والإحتلال ترتكب على يد النّظام السّوري ضدّ شعبه، في الوقت الذي يقول أنّه يدعم المقاومة ويرعاها، بل ويرعى الأعمال الفنّية سالفة الذّكر ويكرّم أعمدتها.

بالطّبع كان الكثير من المشاهدين يعلمون القليل عن مجازر حماة وحمص التي ارتكبها النّظام السّوري، ولكنّها لم تشأ أن تحمّل الإبن وزر الأب، ولا أرادت محاكمة الماضي بتفاصيله ومؤامراته، فرأى الكثيرون أنّه من الأفضل مشاهدة الواقع الجميل، والتفاؤل بالمستقبل الواعد. ولكن هذه الصّورة الجميلة لم تكن تحجب ما يحيق بالشّعب السّوري من مظالم وقهر لدرجة الإستعباد، ولم تكن تحجب حجم الفساد المالي الذي يبدأ مع زائر سوريا  منذ دخولها وحتّى الخروج منها، فساد لخّصه مستثمر عربي، قائلاً: ( لم أذهب لدائرة حكومية لم يطلب منّي فيها رشوة). ولم تفارق المشاهد العربي حلقات مسلسل ( يوميات مدير عام) التي تمّ تمثيلها مع بدايات حكم بشّار الأسد، والتي يمثّلها أيمن زيدان ( الطّبيب) الّذي يريد أن يصلح الفساد في المؤسسة - البلد، ولكن في نهاية المسلسل يخلص المخرج أنّ الخلل ليس في المدير ولكنّه في النّاس والموظّفين، طبعاً كانت إيحاءات المسلسل واضحة تجاه الدّكتور بشّار الأسد الّذي يريد ولا يستطيع، يحكم شعب لا يمكن إصلاحه حسب الخلاصة، وهذا تعبير  عن حالة ( نفض يدين) من وعود الإصلاح التي أطلقها الأسد الإبن في بداية وراثته لحكم أبيه، وتبريراً لترك الفساد والفاسدين والتّعايش معهم، بل الإنخراط في هيكلية الفساد المستشري في سوريا حتّى اليوم.

هزت مشاهد القتلى في المقبرة الجماعية في درعا مشاعر الجمهور العربي، وكان ظهور جثث عائلة أبا زيد مقيّدة للخلف ومقتولة بالرّصاص، ينبىء بمشهد دموي إجرامي أشمل وأكبر بكثير من هذه الصّورة الجزئية التي سرّبت خلسةً للإعلام،  فهل هذه العائلة والمرأة والطّفل الّذي قتل ودفن معها كانوا مقاتلين ضدّ النّظام السّوري؟ وهل تقييد النّاس للخلف وقتلهم  يدلل على معركة مع مسلّحين؟ أم أنّ الأمر ليس إلا اعتقال وإعدام بدم بارد؟.

مشهد خروج السّوريين في مظاهرات حاشدة سلمية يظهر مدى الظّلم الّذي يشعر به الشّعب السّوري، وفي غالبية المظاهرات لم نر لا سلفياً ولا إرهابياً مسلحاً، هذا المشهد أزعج النّظام السّوري، فتنقّل في الإتهامات بين عصابات إجرامية ومهرّبين وسلفيين جهاديين وعصابات تيار المستقبل اللبناني...الخ، وفي كل عرض على التّلفاز لمجموعة جديدة من المجبرين على الإعترافات على الطّريقة العربية، يصل المراقب للمزيد من القناعة بأنّ كل هذه فبركات لا أساس لها، فكل هؤلاء كانوا موجودين دائماً في سوريا، والسّلفيون حظوا برعاية وحماية النّظام حتّى عهد قريب، فقد كانت دعوتهم ونشاطهم مسموح منذ مجازر حماة، وتبعاً لعلاقة النّظام مع المملكة السّعودية الطّيبة في تلك الفترة التي شهدت حلفاً مشتركاً ضدّ العراق لاحتلاله للكويت.

أمّا تيار المستقبل فيرتعد خوفاً من النّظام السّوري وحلفائه اللبنانيين، وتلقّى هذا التّيار تهديدات مباشرة على شاشات الفضائيات من بعض حلفاء سوريا، والحريري لا يملك الآن سوى الصّمت، بعد أن كان يخلع ملابسه خلف الزّجاج المضاد للرصاص على طريقة أولاد الشّوارع، أمّا العصابات والقتلة فهم قتلة محترفون يعرفون من يقتلون من النّاس العاديين ومن ضباط الأمن والجيش، وإذا عادت أي لجنة تحقيق لملف وآراء وطبيعة تفكير ومكان سكن وطائفة هؤلاء الضّباط والجنود، سيكتشف أنّ من قتلهم هو من ناح عليهم ومشى في جنازتهم، وفي هذه الحالة انطبق على النّظام السّوري المثل القائل: ( قتل القتيل ومشى في جنازته) ومن خلال متابعة جنازات هؤلاء، يلاحظ وجود الكمبارس الدّائم من ممرضات وموظّفين على أبواب المستشفى، كما يلاحظ في الحوار مع عائلاتهم تجنّب ذكر غالبيّتهم عبارات تمجيد لبشّار الأسد ونظامه، بل يجمع هؤلاء على أنّ أولادهم قتلوا فداءً لسوريا وشعبها، وهذا يعطي مؤشّرات عن ما يشعر به ويعرفه هؤلاء، ولكنّهم لا يستطيعون البوح به، في حين أعلن أهالي بعض الجنود صراحةً أنّ أبناءهم قتلوا على يد مليشيات عائلة الأسد.

وقد يكون هناك من حمل السّلاح من الجنود والنّاس العاديين بعد أن رأى المجازر التي ترتكب بحق أهله في بعض المدن والقرى، وهذا ليس غريباً ولا مستهجناً، فمشهد القتلى الأخير في تل كلخ وهم يقفون بصدور عارية أمام الدّبابات يقتلون ببساطة، استفز بعض الجنود من المنطقة نفسها، واشتبكوا مع جنود النّظام الآخرين، ومنهم من قتل ومنهم من أصيب وهرب للبنان، في حين قامت السّلطات اللبنانية بتسليمهم للقتلة في سوريا في خطوة تعبّر عن قمّة الإنحطاط، وفقدان المروءة، فهل يسلّم العربي المستجير به لقتلته؟ عار سيلاحق لبنان واللبنانيين إلى يوم الدّين.

الحرب الإعلامية على ثورة الشّعب السّوري تدور على عدّة جبهات، ففيما لا يجد الشّعب السّوري إلا الهواتف النّقالة وشبكة الإنترنت ليسرّب بعض الجرائم، يصرّ النّظام السّوري على منع كل وسائل الإعلام من تغطية الحدث، ويتّهمها بالتّضليل والتّزوير، ويستخدم في ذلك أدواته من الممثّلين وبعض الإعلاميين والمثقّفين، وكذلك اللبنانيين أيضاً. ولإرهاب الإعلاميين من المغامرة بالذّهاب إلى سوريا، قام النّظام السّوري بإخفاء مراسلة الجزيرة لمدة تسعة عشر يوماً، وفي هذا رسالة رعب للإعلاميين بإمكانية أن يحتضنهم قبر جماعي بعيداً عن الإعلام والكاميرا، وفي هذه السّياسة تميّز النّظام السّوري عن غيره من الأنظمة العربية القمعية.

ولعل أكثر ما يثير الإشمئزاز هو أداء بعض الحلفاء اللبنانيين للنّظام السّوري، فالحرب الإعلامية التي تدور على التّلفزيونات اللبنانية وحتى تلك التي يديرها وزير الإعلام السّوري على القنوات الرّسمية والخاصة، تتم بنكهة لبنانية أعلن عنها أحد حلفاء سوريا اللبنانيين، وهو إعلامي معروف في إنتاجه للأفلام الوثائقية الحربية، وفيما يخص إعلام المعركة، وهو وغيره يثيرون القرف من درجة اندفاعهم في تبرير الجرائم وفبركة الأخبار والنّصح للنّظام السّوري وتشجيعه على إبادة الشّعب السّوري بأي ثمن، وأشدّ ما يقرف في الموضوع، هو أنّ هؤلاء يكذبون وهم يعلمون أنّهم يكذبون، وهم شركاء في القتل مثل من يطلق النّار على الجمهور.

النّفس الطّائفي هو أكثر ما يحرّك هؤلاء، والقتلة السّوريين، فمنذ البداية كان ولا يزال الحراك الشّعبي بعيداُ عن الطّائفية، ولكن هؤلاء اتهموا الجمهور المطالب بحقّه بالطّائفية إسقاطاً لما في أنفسهم على الحدث، ومن يتصرف بطريقة طائفية هم مليشيات النّظام السّوري، فاقتحام المسجد العمري في درعا ومنع الصلاة فيه وتخريبه، ومثل هذا الفعل يتمّ في مساجد أخرى أيضاً، بل هناك شهادات على أنّ الشّبيحة يقتلون على الهوية الطّائفية في تلكلخ، وبعض الشّعارات التي كتبت على جدران المسجد العمري تؤيّد هذه الإدعاءات، وأخيراً منع المصلين من الصّلاة في المساجد وتحديد مساجد معيّنة للصلاة فيها، وهو ما أدّى لاستقالة شيخ قرّاء بلاد الشّام من الخطابة على الملأ. يضاف إلى ذلك موقف الأطراف اللبنانية والإيرانية التي تتفق طائفياً مع الأقلية العلوية وشبّيحتها في دمشق في الإعتقاد، وفي نفس الوقت يقفون جميعاً في صف واحد ضد ما يجري في البحرين ضد الإحتجاجات هناك، بل يجعلونها قضيّتهم الأولى، والغريب أنّ قتل الأمن البحريني لبضع عشرات من البحرينيين الشّيعة جريمة لا تغتفر، أمّا إبادة السّوريين السّنة بالمئات فهذا مبرر بالنّسبة لهؤلاء؟ فهل الحرّيّة تتجزّأ؟ أليس هذا كيل بمكيالين؟.

يردد النّظام السّوري وحلفاؤه كلامهم عن المؤامرة التي تستهدف النّظام لدعمه للمقاومة، ويضعون الحراك الشّعبي السّوري في هذا الإطار، وهذا يهدف لإجهاض الإنتفاضة الشّعبية ذات المطالب المحقّة، وتحاول الفضائيات اللبنانية الموالية للنّظام السّوري عرض تصريحات لعبد الحليم خدام، وآخر سوري عميل لأمريكا وإسرائيل، لتعميم صفة العمالة على الجمهور السّوري، وبالتّالي تبرير قتلهم والتّنكيل بهم.

الحقيقة أنّه يوجد مؤامرة، والمؤامرة تحاك وتنفّذ ضد الشّعب والإنتفاضة الشّعبية السّورية، وهي تحبك في سوريا قبل وخلال الثّورة، وتحبك في الإقليم والعالم الذي يصمت ويمنح النّظام فرصة كاملة لإجهاض التّحرك الشّعبي المطالب بالتّغيير، فالتّوجّه العام يستهدف إجهاض الثورتين التونسية والمصرية وتفريغهما من مضمونهما بثورة مضادة من القوى الظّلامية القديمة، ومن بعض القوى التي تخشى صندوق الإقتراع وتريد الإستئثار بالسّلطة والإستمرار بتهميش المتوقّع فوزهم في الإنتخابات، وبالتالي كانت السّرعة في التّحرك ضد القذّافي الذي أجرم بحق شعبه، وكان هذا يهدف لتلويث الرّبيع العربي بالتّدخل الأجنبي بطلب من الشّعب الليبي الذي يتعرّض للإبادة، والخطوة التالية تتجسّد الآن في معاندة الرّئيس اليمني - حتّى الآن- والتّغاضي عن المجازر التي يرتكبها النّظام السّوري.

يقاوم الشّعب السّوري إجرام النّظام بحقّه بطرق حضارية سلمية، رغم تعرّضه للحصار والقصف والقنص والقتل والتّشويه وقطع الماء والكهرباء والإتصالات والغذاء، وإطلاق النّار على سيّارات الإسعاف، وحرب التّشويه وتآمر القريب والبعيد، يقتل أبناؤه في الشّوارع ويوضعون في شاحنات برّادات الفواكه والحليب، ويقبر الكثير من الشّهداء في مقابر جماعية، وتشنّ قوى الأمن حملات اعتقالات جماعية، وتقوم بالتّنكيل والتّعذيب للمعتقلين وقتل بعضهم بعد اعتقاله، مثلما حصل في الإجتياح الإسرائيلي لمدن الضّفة الغربية والحرب العدوانية على قطاع غزة، وفي تطابق غريب مع السّلوك الإسرائيلي في الإجتياح، حتّى أنّ هناك من استهجن المطالبة بالسّماح بمرور المساعدات الغذائية للمحاصرين في درعا، وضجّ من بيان بعض الفنّانين الذين دعوا للسماح بالغذاء والدّواء والحليب لأهالي درعا، وتمّ مهاجمة هؤلاء الفنانين ونعتهم بالخونة، وتمّ الإستهزاء ببيانهم وتسميته (ببيان الحليب).

تدفع الشّعوب العربية أثمان باهظة لمطالبتها بالحرّية والكرامة الإنسانية، ولكن أهمّ نتائج هذه الثّورات العربية أنّها أسقطت الأقنعة ومساحيق التّجميل عن الكثير من الوجوه، فالحرّية والكرامة الإنسانية لا تجتزأ ولا تعطى لهذا وتمنع عن ذاك، لأنّها حقوق مكتسبة لكل إنسان منذ ولادته. كما أنّ ثورة الشّعب السّوري أظهرت بما لا يدع مجالاً للشك أنّ كل ما زرعه النّظام السّوري في حقل مقاومة الإحتلال، حصده وسيحصده شوكاً وعلقماً في اجتياحه لثورة الشّعب السّوري.