الحل الإجرامي في دولة الشبيحة
د. عبد الوهاب الافندي
القدس العربي-13/05/2011
(1) لا يدري الإنسان هل يضحك أم يبكي وهو يتابع رواية النظام السوري وبعض المتحدثين باسمه لما يحدث في ذلك البلد من انهيار تام للدولة وتحولها إلى حالة صومالية لا سلطان فيها إلا لحملة البندقية من زعماء العصابات والشبيحة. الفرق هو أن زعماء العصابات هنا لا يقاتلون بعضهم البعض كما هو الحال في الصومال، بل يصبون جام غضبهم على المواطنين العزل، ولكن النتيجة واحدة، وهي غياب الدولة بأي معنى.
(2) الدولة الإرهابية تعتمد في بقائها على بث الرعب في نفوس المواطنين وإشاعة روح الخضوع والخنوع لسطوة العصبة الحاكمة. وقد برعت السلطة السورية في هذا المجال، لأنها لا تتورع عن شيء، بما في ذلك قتل نساء وأطفال المعارضين كإجراء انتقامي أو إرهابي. ولكن الإرهاب، كي يكون فعالاً، لا بد أن يكون انتقائياً، وأن يتوافق مع مغريات للولاء، ويحظى بغطاء أيديولوجي.
(3) النظام السوري نجح إلى حد كبير في بسط غطاء أيديولوجي على إرهابه، فهو دولة الممانعة، الداعم الأخير للمقاومة، ومعارضوه إما إرهابيون أو مأجورون. وقد أتقن تفعيل سياسة فرق - تسد، حيث قسم البلاد طوائف تستضعف طائفة منهم ويمكن لأخرى. عزز النظام أيضاً تحالفاته الدولية، فوثق علاقاته مع إيران، وعقد الصفقات مع أمريكا ودول أوروبا، وكسب دول الخليج وتقارب مع مصر. وفوق ذلك بسط إمبراطوريته التي شملت لبنان والساحة الفلسطينية "الافتراضية".
(4) لكن هذا الجدار السميك الذي دثر إرهاب الأسد وعائلته بدأ يتصدع في آخر أيام مؤسسه، بداية من صراع الوراثة بين شقيق الأسد وأبنائه، وهو صراع انتهى بإقصاء وطرد الشقيق. هذا الطرد لم يكشف فقط نقاط ضعف النظام، بل عوراته كذلك. فالشقيق الهارب أظهر أنه يمتلك مليارات الدولارات أخذ يوظفها في معاركه السياسية، وهي ثروة لم يرثها من المرحوم الوالد.
(5) انهار قناع آخر بعد رحيل الأسد في عام 2000 عبر سيناريو التوريث الفج والصراع الذي تفجر على خلفيته، وما تم فيه من تراشق بتهم الفساد، وما وقع من "انتحار" بعض المسؤولين السابقين في ظروف غامضة. ثم جاءت ثالثة الأثافي: جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، ومن ثم إخراج الجيش السوري من لبنان يجرجر أذيال الخيبة، وأيضاً "انتحار" حاكم لبنان الفعلي ورجل المخابرات القوي غازي كنعان، كبش فداء أريد التخلص منه.
(6) لكن السقوط الأكبر جاء مع تفجر احتجاجات آذار/ مارس الماضي والانهيار الكامل لجدار الخوف الذي كان النظام يتمترس خلفه، تماماً كما انهارت المصارف الكبرى مثل ليمان بروذرز وأمثالها حين اكتشف العملاء والدائنون أن أرصدتها لم تكن سوى سراب بقيعة. وتماماً كما فعلت تلك المصارف، أخرج النظام كل مخزونه وأرصدته من أدوات القمع عله يعيد مارد الشعب إلى قمقم الخوف والخنوع، دون أن يغني ذلك شيئاً. فالشعب أعلن بوضوح أنه يفضل الموت على الخنوع، فلم يعد أمام النظام سوى إبادة الشعب أو الرحيل.
(7) لعل أبلغ دلالة على سقوط النظام السوري ليس منظر الدبابات وهي تقتحم المدن في مشاهد لا سابقة لها منذ رحيل الاستعمار الفرنسي إلا أيام حماة، ولا روايات النظام المضحكة المبكية عن السلفيين والإرهابيين والمندسين، ولا قطع الماء والكهرباء عن بلدان بكاملها يبدو أن أطفالها الرضع إرهابيون كذلك. لا، بل إن أدل دليل على الدرك السحيق الذي هوى إليه نظام البلطجة والكذب هذا ما رواه أهل درعا من أن النظام ساومهم على جثث ذويهم مقابل أن يخرجوا في مظاهرات تؤيد الأسد! إنه حقاً سقوط يدعو للشفقة كما يدعو للاشمئزاز.
(8) إذا كان عند هذه الفئة الضالة الباغية أي وهم بأنها ستعود بعد كل هذا إلى حكم سورية والتحدث باسم شعبها، فإنها من رئيسها إلى أدنى شبيحتها (أو من شبيحتها إلى أدنى رؤسائها، لأن سلم الانحطاط مقلوب) تحتاج إلى نقل عاجل إلى مصحات العلاج النفسي. إن أياً من هؤلاء لا يستحق مجرد المشي على تراب سورية الطاهر أو تنسم هوائها الحر، ناهيك أن ينصب نفسه سيداً على أهلها، إلا أن يكون في قاع سجن كان قد ادخره لأحرار هذا البلد الذي أثبت رجاله ونساؤه أنهم جديرون بالحرية.
(9) كنت قد وصفت أهل ليبيا ممن خرجوا على حاكمها المأفون الوالغ في الدماء بأنهم بحق أشجع العرب، لأنهم خرجوا على نظام لا نظير له في وحشيته، لا يتورع عن كبيرة ولا يتعفف عن سفك دم. ولكن كل منصف يرى اليوم أن السوريين ينافسون بقوة على هذه المكانة، لأنهم رفضوا الركوع وهم عزل لنظام عرفوا من بطشه ما عرفوا، ومن دك مدن بكاملها على رؤوس أهلها، وهو ما لم يحدث حتى في أيام هولاكو.
(10) كثر الحديث عن أن النظام السوري قد اعتمد ما سمي الحل الأمني لأزمته، والصحيح أن يقال إنه اعتمد الحل الإجرامي، حيث تحول النظام بجيشه وأمنه وسياسييه إلى شبيحة، اعتاضوا عن المنطق ورداء الشرعية بأسلوب البلطجة لإخضاع الشعب بالبطش والإرهاب لا غير، كما كانت تفعل جيوش الاستعمار حين تدخل قرية فتفسدها وتجعل أعزة أهلها أذلة. ولعلنا نظلم الاستعمار بهذا التشبيه، ف"إسرائيل" كما ردد كثيرون، تسمح على الأقل لسيارات الإسعاف بنقل ضحاياها. فهنا إذن نظام يعيش اليوم على الإرهاب والكذب والابتزاز، أو قل، وهو الأصح، يموت بها.