مصريون ضد مصر

حسام مقلد

حسام مقلد *

[email protected]

لا شك أن جميع الأخوة الذين تظاهروا أمام الكاتدرائية بالعباسية مطالِبين بظهور السيدة كاميليا شحاتة لم يكن قصدهم أبدا إثارة الفتنة الطائفية ولا إحداث أي احتقان، ولم يكونوا راغبين في استفزاز المشاعر الدينية ولا استعداء الأخوة الأقباط ولا استنفار حالة التحفز والتأهب الطائفي لديهم، ولا تأجيج نار الفتنة على النحو الذي وقع في إمبابة بعد ذلك، وليتهم اكتفوا بتقديم الموضوع  للنيابة والأجهزة الرسمية المختصة ثم تركوه يأخذ وقته، وليتهم تريثوا وتمهلوا في الأمر، وليتهم استشاروا نفراً من المشايخ والعلماء وغيرهم من رموز النخب السياسية والفكرية ومنظمات المجتمع المدني المختلفة؛ فهذه المسألة وما شابهها هي مسألة حقوقية في المقام الأول قبل أن تكون دينية، ولا أدري كيف تحولت إلى مواجهة بين قطاع من السلفيين وبين قطاع من الأقباط؟! وبكل أسف فقد أظهر الطرفان في هذه الأزمة المفتعلة أسوأ ما فيهما وأسوأ ما يمكن أن يوصفا به، فطرف بدا عليه الاندفاع والتهور والحمق وسهولة استدراجه إلى مواقف كارثية وإشعال حرائق مدمرة للوطن كله، وطرف آخر بدا على استعداد تام لبيع الوطن بكل سهولة، وتقديمه هدية للمحتل (الأمريكي، أو...)  بزعم طلب الحماية من عدو وهمي اخترعته وسائل الإعلام التي هوَّلت الموضوع وصورته وكأنه حرب أهلية!!

وصدقا لا أفهم كيف سمح المجتمع المصري لنفسه بأن يُستَدرَج لما نحن فيه الآن من إهدار للطاقات الإنسانية والإمكانيات البشرية الهائلة التي نمتلكها؟!! فبدلا من توجيهها لبناء النهضة المصرية الحديثة وصناعة التطور والرقي الحضاري والتكنولوجي اللائق بمصر وشعبها العريق بعد عقود من الجهل والفقر والمرض والتخلف والتقهقر الشامل في مختلف المجالات من صحة وتعليم وتقنية وبحث علمي، وعدالة اجتماعية وحرية وديمقراطية...، وبدلا من ضبط الحالة الأمنية، والالتفات للعمل وزيادة الإنتاج، وشحذ الهمم والطاقات لوضع تصور علمي كامل لمستقبل مصر، وإرساء رؤية حضارية شاملة لدولة مصرية مدنية حديثة وعصرية تتحقق فيها العدالة الاجتماعية والمساواة والمواطنة والحرية الحقيقية لكافة المصريين بغض النظر عن الدين واللون والجنس، وبدلا من مساعدة المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحكومة الثورة على إخراج مصر عزيزة قوية وناهضة من عنق الزجاجة في تلك المرحلة الانتقالية الحرجة التي نمر بها الآن، ووضعها على بداية الطريق الصحيح ـ بدلا من كل ذلك رأينا من يعيق الحركة ويسعى بكل قوته لعرقلة مسيرة الإصلاح برمتها؛ لأنه يخشى ألا تأتي نتائجها على هواه...!!

ورغم قناعة الكثيرين من أبناء مصر بوجود أصابع خفية تحرك الأحداث وتشعل نيران الفتن هنا وهناك ـ رغم ذلك لا بد من الاعتراف بخطئنا الجسيم واندفاع أناس منا بوعي أو بدون وعي (وبقصد أو بدون قصد...!!) ومشاركتهم في إشعال الحرائق وإضرام النيران في جسد الوطن كله، ولابد من مواجهة هذه الحقائق بكل شجاعة واتزان وموضوعية، والسعي الجاد لمحاصرة نيران الفتن وإطفائها بسرعة، واجتثاث أسبابها من جذورها؛ حتى لا تندلع شرارتها، وتستعر جذوتها، وتنشب الحرائق المدمرة هنا أو هناك في أية لحظة لا قدر الله!!

ولابد من الاعتراف بأن هناك بعض الأشخاص المتطرفين يدَّعُون زورا وبهتانا أنهم سلفيون، لكن هؤلاء المتشددين قلة قليلة، والله تعالى يعلم أن السلفية الحقيقية منهم براء، وأن ضررهم وخطرهم على المسلمين أعظم وأشد وأنكى من ضررهم على الأخوة الأقباط، ووفي ذات الوقت لابد من الاعتراف كذلك بأن هناك فئة من المتطرفين الأقباط يسعون لتدمير مصر وتشريد أهلها وجلب الاحتلال إليها، وهم كذلك قلة قليلة لكن الحقد على العرب والمسلمين أكل قلوبها وجعلها تفضل الانسلاخ عن هويتها الحضارية وتدعم مشروع تغريب المجتمع المصري!!

وهناك فريق ثالث يضمر الشر لمصر والمصريين، وهو أعتى وأشد ضررا من الفريقين السابقين، فهو يسعى بطرقه الخاصة لنزع مصر من طبيعتها المتدينة، ويعمل بكل جهد على إضعاف وتهميش الدين فيها خاصة الدين الإسلامي، وهؤلاء هم المتطرفون العلمانيون ومن يناصر مشروعهم  في مختلف وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، حيث يعادون الإسلام عداءً مبدئيا، ولا يدعون فرصة دون تخويف الناس من الإسلاميين وبث الفزع والرعب في قلوبهم منهم؛ لصرفهم عن مشروعهم الحضاري وتنفيرهم منه، وهؤلاء هم من يتولون تضخيم أي حدث وتهويله؛ لتشويه الإسلاميين، وشن الحرب الدعائية الشرسة المنظمة ضدهم، وتصويرهم على أنهم جهلة ومتخلفون ورجعيون، وأنهم سفاحون سفاكون للدماء كالوحوش الكاسرة لا تعرف قلوبها الرحمة!!

ومن الواضح أن هذه الأصناف الثلاثة هي التي تقف وراء الأحداث الأخيرة سواء بالتحريض والتهييج والشحن النفسي ضد الآخر، وربما يكون بعض هؤلاء ضالعا في تنفيذ مخطط أسود لتدمير مصر سواء عن علم أو جهل، لكن هذا لا يعفي المجتمع من مسؤوليته في تحصين شبابه وأبنائه ضد الاستماع للشائعات، وتصديقها وقبولها وتبادلها، والتأثر بها، وعدم التثبت منها وردها على أهلها، ولسنا هنا بصدد الحديث عن العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية التي تجعل أرض مصر أرضا خصبة للتطرف، وقابلة لزراعة ألغام الفتنة الطائفية حيث يمكن تفجيرها في أي وقت وفي أي مكان ولأتفه الأسباب، وعلينا أن نحذر كل الحذر فمجتمع هذه صفته يكون مجتمعا هشا وفي أمس الحاجة  لاستعادة وعيه وإنقاذ هويته.

والسؤال المهم هو: ما العمل؟ وكيف السبيل؟ طبعا لا يختلف اثنان على ضرورة التهدئة الآن وإعادة ترتيب البيت المصري من الداخل وبنائه على أسس قوية راسخة، ولن يدعم ذلك حالة الهياج والفلتان الأمني، والوضع الانسيابي التي تعيشه مصر حاليا، فلا بد من عودة الهدوء وإنهاء المظاهرات الفئوية والتوجه للعمل فورا، وليت الأخوة السلفيين يكثفون جهودهم في مجال الدعوة وإظهار عدل الإسلام وسماحته ورحمته، ليتهم يكفون عن الحديث في المسائل الخلافية والقضايا غير المجمع عليها، ليتهم يمنعون أنصارهم منعا باتا من الحديث في  أمور تثير المجتمع وتجدد أحداث الفتنة، وليت الأخوة الأقباط يفضون اعتصاماتهم وإضراباتهم عند ماسبيرو وغيره، ليتهم يكفون عن الصراخ والعويل ويخففون من هياجهم الشديد والاستقواء بالخارج؛ فالحكومة والمجلس العسكري وقواتنا الباسلة وقبلهم كل أبناء المجتمع المصري الأصيل هم الذين يحمونهم من أي شر وسوء، ولن يسمحوا لأحدٍ أيًّا كان بالاعتداء عليهم أو انتهاك أمنهم وحرمتهم، أو المساس بوحدة مصر وتماسك نسيجها الاجتماعي، وليت وسائل الإعلام وأبواق الدعاية المضللة تتقي الله في مصر وشعب مصر، وتكف عن تهييج الجماهير وبث الذعر والهلع والخوف في قلوبهم، وأولى بها أن تكون رائدة في غرس الأمل في نفوس الناس وإنعاشه في قلوبهم، وجذبهم للعمل والإنتاج ودفعهم إليه دفعا؛ لأن ذلك هو الأمل الحقيقي لنهوض مصر من كبوتها وإقالتها من عثرتها وإخراجها من أزمتها التي توشك ـ لا قدر الله ـ أن تعصف بنا جميعا!! وقبل ذلك كله على كل مؤسسات الدولة العودة فورا للقيام بدورها في حماية المجتمع، والضرب بشدة على أيدي العابثين بأمن الوطن، ومعاملتهم بكل ردع ممكن وفق القانون والدستور!!

                

 * كاتب إسلامي مصري