حملة النظام خاسرة، والثورة منصورة بإذن الله

مجاهد مأمون ديرانية

رسائل الثورة السورية المباركة (18)

لا تخافوا ولا تحزنوا

مجاهد مأمون ديرانية

الحملة الشرسة الأخيرة التي يشنّها النظام القمعي على شعبنا المصابر منذ أسبوعين هزت ثقة البعض بقوة الثورة وقدرتها على الاستمرار، فكأني بدأت أحس قلقاً خفياً في العيون أو وجلاً في القلوب. ولهؤلاء أقول: لا تخافوا ولا تحزنوا، فوالله ما مَرَّ علينا يومٌ خسرنا فيه منذ بدأت انتفاضة سوريا المباركة، وإن هذه الثورة إلى نصر والنظام إلى هزيمة بإذن الله، هزيمة نكراء سيذكرها التاريخ ويروي قصّتَها الآباءُ للأبناء.

وتعالوا نفكر معاً لتتأكدوا مما أقول: ماذا يريد النظام من حملته؟ وما هي فرصته في تحقيق هدفه منها؟

لا بد أولاً من التأكيد على أن نشر الجيش واجتياح المدن يدل على تآكل خيارات النظام وعلى إحساسه باليأس أو بما هو قريب من اليأس، فالجيش هو واحد من آخر الخيارات التي بقيت في مخزن خياراته، بل لعله آخرها على الإطلاق. هذه النقطة ذكرتها من قبل غيرَ مرة وأعيدها اليوم، فسامحوني على الإعادة، لكنها نقطة جوهرية وأحب أن يكون الكل واثقين منها، وهي برهان على أن الثورة ما زالت تحقق المكاسب طول الوقت وأنها تتقدم سريعاً إلى النصر بإذن الله. لو نجح النظام في القضاء على الانتفاضة بأدواته القمعية التقليدية لما اضطر إلى تحريك الجيش، فالجيش سلاح ذو حدَّين، لأنه يمكن أن يساعده على حل المشكلة القديمة ويمكن أن يتحول إلى مشكلة جديدة أكبر منها. هذه النقطة أيضاً ذكرتها من قبل ولكني سأكررها وأكررها حتى لا يبقى فيها شك. وهكذا فإن النظام يعيش الآن قلَقاً مزدوجاً، فمن ناحية لا تزال الانتفاضة في عنفوانها، بل إنها تزداد انتشاراً، ومن ناحية أخرى يزداد الخطر الكامن من تصدع الجيش أو زيادة حجم التمرد بين صفوفه مع استمرار العمليات العسكرية وزيادة الفتك بالمدنيين.

لنعد إلى السؤال: ماذا يريد النظام أصلاً من هذه الحملة؟ الجواب لا يخرج عن واحد من أربعة احتمالات فيما أرى:

(1) الانتقام. هذه الفكرة تنسجم مع الطبيعة الشخصية والنفسية للنظام المجرم في سوريا، بل إن تاريخه الدموي يؤكدها بلا أي قدر من الشكّ، لكنّ الظروفَ الحالية الحرجة واضطرارَه إلى ترتيب الأولويات يرغمه على تأجيل هذا الخيار. إذن يمكننا حذف هذا الاحتمال من القائمة الحالية لدوافع الحملة، لكنْ سوف نبقيه في الذاكرة لأنه سيكون محرّكاً أساسياً لكل الأعمال العدوانية اللاحقة التي قد تستبيح سوريا في المستقبل، لو خسرت الثورة وانتصر النظام لا قدّر الله.

(2) القضاء على الانتفاضة وسحقها بردع واعتقال كل المشاركين فيها. هذا الاحتمال مستبعَد لأن النظام يدرك أن الثورة أكبر حجماً من قدرته على القمع، فهو نجح في الماضي بالقضاء على احتجاجات محدودة حينما بطش بأصحابها بطشاً مركزاً، لكن الأزمة الحالية مختلفة، فهي ثورة أمة لا ثورة فئة من الأمة، وهو يعلم أن سحق الانتفاضة لا يتم إلا بسحق كل المشاركين فيها، أي بقتل واعتقال ربع مليون إنسان! إنه لا يستطيع أن يفعل ذلك حتى لو أراد، المجتمع الدولي سوف يمنعه وسقوطه سيصبح حتمياً لو بدأ بأي عمل من هذا النوع. لكن حتى لو فعل فإن فرصه في القضاء على الانتفاضة محدودة جداً، لأنه لو قتل واعتقل ربع مليون فسوف يخرج إلى الشوارع بدلاً منهم نصف مليون... إذن غالباً هذا الاحتمال غير وارد وليس هو الهدف من الحملة، وحتى لو كان وارداً فإنه محكوم عليه بالفشل.

(3) إجهاض الانتفاضة بتجفيف منابعها، باعتقال من يظنهم النظام محركين وصانعين لها. هذا الاحتمال وارد بنسبة كبيرة، ولعله يفسر سلوك الأجهزة الأمنية مؤخراً. فخلال الأسابيع الأولى من عمر الانتفاضة دأبت قوات الأمن على اعتقال أعداد من المتظاهرين، وفي حملات لاحقة في جميع أنحاء سوريا نفّذت اعتقالات عشوائية كثيرة من البيوت، لكن الملاحَظ في  الحملة الأخيرة تحديداً أن الاعتقالات تتم بناء على قوائم مسبقة حملتها كتائب الأمن التي اقتحمت المدن. ما مصدر قوائم الاعتقال؟ ولماذا يتعقب الأمن أشخاصاً محددين بأسمائهم؟ يغلب على الظن أن القوائم من إعداد المخبرين والعيون الذين يوجدون بكثرة في كل المدن والأحياء، وهي ستشمل بالتأكيد الوجوهَ البارزة، الأشخاص الذين يخطبون في الاحتفالات أو يقودون الهتافات في المظاهرات، وربما تركز الاعتقالات أيضاً على الصفوف الأولى التي تتصدر المسيرات. أما سبب التركيز على هؤلاء بصورة خاصة فيمكن أن يكون ضرباً مقصوداً للعناصر الأكثر تأثيراً، على افتراض أن العناصر المحرِّكة ستكون -افتراضياً- على رأس المظاهرات وهي التي ستقود الهتافات وتلقي الكلمات، فإذا ضُربت العناصر المؤثرة فربما تفقد الانتفاضة بعض الزخم وتتلاشى مع الوقت.

ربما كانت هذه هي خطة النظام، لكن حظها من النجاح شبه معدوم كسابقتها. ربما تنجح الأجهزة الأمنية في اعتقال الرموز المؤثرة في الانتفاضة، لكن رموزاً غيرها سوف تَحل محلها، فالقيادات الشعبية تتوالد ميدانياً بطريقة آلية، والثورة الشعبية لا تحتاج إلى خبرات تنظيمية من أي مستوى، كل ما تريده هو قدر من الجرأة وبعض التنسيق بين عدد من الأشخاص، إذ يكفي أن يقوم عشرة من المصلين في أحد الجوامع بالهتاف بعد صلاة الجمعة ليصنعوا مظاهرة، أو يسير عشرون في شارع بعَراضة وهتاف حتى ينضم إليهم في لحظات العشرات والمئات. إن أهم عنصر في الثورات الشعبية هو صناعة روح الثورة لا تدريب الكوادر وتنظيمها، وهذه الروح تنتشر -إذا تهيأت لها الظروف- انتشار النار في القش اليابس، وهو ما يحصل في سوريا الآن، فالسوريون باتوا يتناقلون عدوى الثورة كما يتناقل الأصحّاء عدوى الرشح، بالإضافة إلى أن النظام نفسه يساعد على نشر هذه الروح بما يقوم به من قتل واعتقال وحصار!

 

(4) الاحتمال الرابع والأخير لهدف النظام المحتمَل من حملته هو الترهيب، فهو يظن أن الحصار والتجويع والتنكيل والترويع سينتهي بالتركيع، ليس فقط بركوع واستسلام المدن المحاصَرة بل الأخرى الثائرة التي لم يصلها الحصار بعد. هذه -برأيي- هي النظرية الأقوى التي تحرك آلة النظام القمعية حالياً، ولعله يعتمد في الثقة بها على تجاربه التاريخية القديمة، فهو يعلم أن الفضل في استسلام الشعب السوري في السنوات الثلاثين الأخيرة إنما يعود إلى الخوف الذي سكن النفوس بعد مجازر الثمانينيات، فقد ضرب حماةَ فأدّب بها سائر البلاد، وهذه هي كبرى انتصاراته منذ تولى الحكم، لذلك لا يبدو أنه يستطيع أن يتحرر من سيطرتها عليه وتوجيهها المستمر لسياسته القمعية. حينما تولى المارشال مونتغمري قيادة الجيش البريطاني الثامن في شمال إفريقيا أواخر عام 1942 سُئل: كيف ستهزم الجيش الألماني؟ فقال: المسألة سهلة، فإن رومل لا يغير خططه أبداً. وصدق حدس مونتغمري، فقد استعمل رومل الخطط السابقة نفسَها التي يعرفها خصمُه، فخسر خسارة كبيرة مخزية في واحدة من أكبر معارك الدبابات في التاريخ. النظام البوليسي في سوريا يقدم لنا الخدمة التي قدمها رومل لمونتغمري، فهو يكرر خططه ذاتها على الدوام، وله الشكر على غبائه لأننا صرنا على دراية وبصيرة بهذه الخطط، ولسوف نحاربه بها بعون الله وصولاً إلى سقوطه المخزي القريب بإذنه تعالى.

إذا كانت هذه هي خطة النظام فسوف يصاب بخيبة أمل كبرى، فالأمل في نجاحها ليس شبه معدوم، بل هو معدوم بالكلّية. لقد صحونا من رقادنا الطويل وهززنا هذا النظام هزة فأدركنا كم هو هش ضعيف وكم نحن أقوياء، أدركنا أن ما أبقاه كاتماً على أنفاسنا نصف قرن هو الخوف الذي زرعه في قلوبنا، ومن ثَم هتفنا بملء الحناجر: لا خوف بعد اليوم! وخرجنا إلى الشوارع. حينما كانت فرق الجيش تتجه إلى درعا قبل أسبوعين كانت حمص وبانياس وسوريا كلها تنفجر بالمظاهرات، وحين اجتاحت حمصَ وبانياس الدباباتُ يوم السبت الماضي خرجت الجموع في جاسم وإنخل وداعل ونمر والحارّة وقرى حوران، وفي اليوم الذي اقتحمت فيه الدبابات قرى ومدن حوران ملأت المظاهرات شوارعَ معضمية الشام والقدم وداريا وقطنا وحرستا وجسر الشغور والرقة والبوكمال واللاذقية وحماة ومعرة النعمان، واقتحم الجيش المعضمية وحاصر حماة، فتظاهرت اليوم -الأربعاء- عامودا والقامشلي وتلبيسة ودير بعلبة وتلكلخ والرستن والطبقة واللاذقية، وسارت مظاهرة حاشدة في المدينة الجامعية في حلب قُدِّر عدد المشاركين فيها بستة آلاف وانتهت باقتحام الشرطة العسكرية للمدينة، بل خرجت مظاهراتان في حمص نفسها، حمص التي تعاني من الحصار والاحتلال منذ يوم السبت خرجت فيها المظاهرات! ذلك هو حصاد الأيام الخمسة الأخيرة، فهل هذه صورة قوم سيخافون بعد اليوم؟ بإذن الله لن يعود هذا الشعب أبداً كما كان.

*   *   *

ولا تظنوا أن حملة حصار المدن واجتياحها هزيمة لهذا الشعب المرابط الصابر على الحق، فإن من أبرك بركات الانتفاضة السورية أن الشعب لم يخسر فيها قط، وأن النظام خاسر أبداً. نحن نكسب مع شهادة كل شهيد ومع أسْر كل أسير ومع اجتياح كل مدينة، وهم يخسرون ويخسرون، وينقص عمرهم يوماً مع طلوع كل صباح جديد. لا، ما هذا إنشاء حماسة ومقال أحلام، بل هو الواقع الذي نشهده شهادة العيان. حاولوا أن تنظروا إلى المسألة كما أنظر وأرجو أن نتفق على ما أقول:

(1) الشهيد هو أكبر الفائزين، فقد اختصر الطريق وقفز من فوق المراحل كلها إلى جنان الخلد بخطوة واحدة، فهنيئاً له ويا سعداه! وأما أهلوه وبنوه فيحزنون اليوم، لكنهم عمّا قريب يفرحون، فكم في هذه الدنيا مَن يفقده أهله السنين الطوال متغرباً عن البلاد ليعود لهم بكسب دنيوي محدود من الدراهم والكنوز، وهذا الشهيد السعيد يفقدونه ما بقي من سنوات العمر فيعود عليهم بأعظم المكاسب وكنز الكنوز، الشفاعة يوم الحساب الأكبر ويوم الدين. فاللهم صبِّرهم وآجرهم في مصيبتهم، واخلف عليهم بخيرَي الدنيا والآخرة.

(2) الأسرى والمعتقلون هم الفريق الثاني من الفائزين، فإنهم يكسبون من الثواب بمقدار ما يَجهدون ويَألمون، وهم سيُؤسَرون حيناً ثم يُطلَقون. ولست أستهين بمعاناتهم بل أدعو لهم بالصبر والثبات، فإني لأعلم أن ساعة بين يدي مجرمي وجلادي أجهزة الأمن السورية أطول من سنة من الكرب في غير ذاك المقام، لكني أستسهل رحلتهم القصيرة حين أقارنها برحلة السابقين من أحرار سوريا، الذين كانوا إذا دخلوا إلى السجون لا يخرجون، بل يقضي أحدهم في المعتقَل عمره أو شطر العمر، وما يزال يُسام سوء العذاب كل يوم على مر الأيام والسنين. اعتقالات الأمس كانت إبادة، أما اعتقالات اليوم فإنها دورات تدريبية أو هي كالمعسكرات الكشفية، فالمعتقلون يجتمعون في المكان الواحد بالمئات، ولا بد أنهم يشجّع بعضُهم بعضاً ويسرّي بعضهم عن بعض، ثم لا بد أن تقوى علاقة بعضهم ببعض وأن تنتشر بينهم -بالاختلاط المستمر- عدوى العزائم والأفكار، وليس أصلح من هذه البيئة لنشر العزيمة والحماسة وأفكار الثورة، فمن اعتُقل وفي قلبه حبة من تردد فسوف ينبذها، فلا يخرجون إلا أشدَّ وأمضى عزيمة مما دخلوا أول مرة.

(3) أما المدن التي حوصرت واستُبيحت فقد كانت فيها شتلات ثورة وشُجَيرات، فلن يخرج المحتلّون منها إلا وقد استحالت الشتلاتُ الصغيرات والشُّجَيرات شجراتٍ باسقات، فإن العدوان يزيد التِّرات ويؤجج نيران الغضب، ومن خرج من قبلُ حماسةً فسوف يخرج في الغد غضباً وحماسة، ومن طلب من قبلُ الحريةَ فسوف يطلب في الغد الثأر والحرية، ومن كان يرضى بإصلاح النظام فلن يرضى منذ اليوم إلا بسقوط النظام وبمحاكمة النظام وبالقصاص من النظام.

الواقع المشاهَد أن كل مدينة تعرضت للضغط في الماضي عادت أشدَّ ثورة مما كانت حالما ارتفع عنها الضغط، فكأن القمع والحصار الذي يمارسه النظام بالجيش وبأجهزته الأمنية ليس أكثر مما يصنعه الواحد منا إذا ضغط بإصبعه زنبركاً فمنعه من التمدد، ولكنه ينطّ عالياً في الهواء في اللحظة التي يُرفَع فيها عنه الضغط، فهل يسمَّى هذا انتصاراً للنظام؟

انتظروا قليلاً وسترون. هل ستبقى القوات الأمنية في المدن أبد الدهر؟ فلتبق الأسبوع أو الأسبوعين أو الشهر والشهرين، وماذا بعد؟ إنهم لا بد مُنْفَضّون، ولسوف ترون من هذه المدن بعد ذلك الأعاجيب.