لماذا ستنتصر -الثورة السورية- في النهاية؟
لماذا ستنتصر -الثورة السورية- في النهاية؟
رضوان زيادة
مدير مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان
في حوار شهير مع الرئيس السوري بشار الأسد مع صحيفة الوول ستريت جورنال في 31 من شهر يناير الفائت اعتبر الرئيس السوري أن سورية محصنة وبعيدة عن ما شهدته دول أخرى في المنطقة من مثل تونس ومصر -بسبب قرب الحكومة السورية من الشعب ومصالحه- على حد تعبيره.
في الحقيقة فإن الكثير من الأنظمة العربية حاججت بعدم وصول الاحتجاجات إليها بسبب اختلاف الظروف أو ما تسميه الخصوصية كما ادعى وزير الخارجية المصري أبو الغيط قبل بدء الثورة المصرية، بالرغم من أن المشترك بين هذه الأنظمة هو أكثر بكثير مما تختلف به، فهي تشترك في هيكل النظام التسلطي مع اختلاف الدرجات، كما تشترك في إهانة الكرامة الإنسانية لمواطنيها عبر التعذيب والقتل خارج نطاق القضاء والقانون والتمييز وغير ذلك.
إن تأثير الثورة التي انطلقت في تونس ثم نجحت في مصر وتكاد في اليمن ثم انتقلت عدواها إلى أشد الأنظمة قمعياً في العالم العربي وهي ليبيا، لن تستثني سورية من رياحها.
فعندما بدأت المنظمة النقابية البولندية - تضامن - في كانون الأول/ديسمبر 1988 في تنظيم الاحتجاجات السلمية بهدف إجبار الحزب الشيوعي الحاكم حينها على احترام حقوق الإنسان وفتح المجال للحريات السياسية وعلى رأسها حق التعبير والتجمع جتى استطاعت المنظمة وعلى رأسها ليش فاليسا على إجبار الحزب الحاكم على الاعتراف بها في شباط/فبراير 1989 .
كان تشاوشيسكو في رومانيا يقول باستمرار أن بلده رومانيا لن يتأثر بموجة الاحتجاجات تلك، فبولندا وتشيكوسلوفاكيا مختلفتان تماماً عن رومانيا، فبولندا كاثوليكية أما رومانيا فكنيستها أرثوذكسية، وكان البابا حينها يوجنا بولس الثاني يضغط بقوة من أجل حرية التدين في بلده بولندا الذي حظي بتركيز كبير أكثر من غيرها من دول أوروبا الشرقية، كما كان يزيد أن رومانيا هي البلد الوحيد التي ليس فيها قوات سوفيتية من دول الكتلة الاشتراكية، فضلاً عن أنه كان يغتر دائماً بقدرة الأجهزة الاستخبارية الرومانية وقمعها العنيف لأي بوادر انشقاق أو معارضة.
صحيح أن التحول تأخر حتى وصل إلى رومانيا جتى ديسمبر 1989 لكنه أتى في النهاية على شكل -ثورة- كما يحب الرومانيون تسميتها وأتى أكثر دموية حيث انتهى بإعدام تشاوشيسكو وزوجته.
هذه تماماً حال سورية، فالرئيس السوري قال في حواره السابق أنه بمنأى عن الاضطرابات التي حدثت في تونس ومصر واليمن، بسبب موقفه المعادي للولايات المتحدة والصراع مع إسرائيل، وهكذا فهو يردد الخطأ نفسه الذي ردده تشاوشيسكو من قبل، فالثورات التونسية والمصرية لم تكن ذات دوافع تتعلق بالسياسة الخارجية وإن كان الفشل في هذا الموضوع من أسباب تأجيجها بقدر ما هو نتيجة الفشل المتراكم لإدارة الشؤون الداخلية.
صحيح أن قمع الأجهزة الأمنية السورية هو الأشد مقارنة بمصر أو تونس أو اليمن لكن ذلك يعد عاملاً محرضاً إضافياً للاضطرابات والاحتجاجات.
إن سورية حالة مثالية للثورة حيث اجتمع فيها الفشل السياسي مع إخفاق اقتصادي فهي لم تحقق لا الخبز ولا الحرية على حد تعبير الصحفي البريطاني آلان جورج، وفوق ذلك قصص الفساد التي يتداولها السوريون بشأن رامي مخلوف ( ماطري سورية) وغيره من رجال الأعمال محدثي النعمة والذين اعتمدوا بشكل رئيس على التحالف مع الأجهزة الأمنية من أجل بناء ثرواتهم التي تظهر حجم الهوة بين طبقة تزداد ثراءً ومجتمع يزداد فقراً ، فهناك 30% من السوريين تحت خط الفقر وفق الاحصاءات الرسمية، مما يجعل العوامل المؤهبة للغضب في سورية شبيهة تماماً بما جرى في تونس.
ما يؤخر ذلك في سورية هو الخوف بشكل رئيسي ،خوفٌ من قمع الأجهزة الأمنية التي تتباهي أنها لاتتردد في استخدام العنف ضد المتظاهرين وتحفيز ذاكرة الخوف التي ترسخت لدى السوريين بعد أحداث الثمانينات التي خلفت أكثر من 30 ألف قتيل وما يزيد عن 125 ألف معتقل سياسي و17 ألف مفقود لا يعرف ذووهم مصيرهم إلى الآن، فضلاً عن سير التعذيب التي أصبح السوريون يتداولونها باستمرار مما شكل رادعاً نفسياً يلجم أي تحرك مطلبي أو سياسي.
لكن، مع نجاح الشباب في مدينة درعا الجنوبية في كسر حاجز الخوف والخروج بالعشرات في مظاهرات تطالب بالحرية كمطلب وحيد كما أن استمرارها وتمددها إلى مدن أخرى كبانياس ودير الزور وحمص ،ثم خروج مظاهرات صغيرة لكن ذات دلالة في العاصمة دمشق وقمعها داخل المسجد الأموي نفسه، يدل على أن تصميم الشباب السوري على استكمال ثورته يتصف بالصمود الضروري من أجل تحقيق النجاح وأنه لا يمكن قمع هذا الأمل بالرغم من توسع الاعتقالات في أكثر من مدينة وسقوط شهداء في مدينة درعا بينهم أطفال بسبب الاستخدام العنف المفرط للقوة في تفريق المتظاهرين واستخدام الرصاص الحي كما أثبتته أكثر من منظمة حقوقية،وكما بدى واضحاً في ثورات مصر وتونس واليمن فإن القتل بالرصاص الحي هنا لا يردع كما هي العادة بقدر ما يؤجج ويحرض الآخرين على كسر جدار الخوف والصمت عندما يرون أن آخرين ضحوا بأرواحهم من أجل حريتهم لذلك فهم لن يكترثون للاعتقال أو التهديد وغير ذلك.
وغالباً ما يؤجج رد فعل السلطات الأمنية الاحجتجات ،فهي اعتادت على التعامل مع هذه المطالب والمظاهرات وفق السياسة الأمنية ذاتها،واتهام من قام بها بأنهم -مندسون- كما هو التعبير الرسمي السوري، مما يزيد من الغضب لدى الشباب الثائر من السلطة التي لا تحترم دماء شبابه الطاهرة ولا تعير بالاً لعقود من الاحتقان ولد هذه الإرادة الصلبة التي لا تقهر.
وإذا قمنا بتحليل الشعارات التي استخدمت في المظاهرات السورية وفي أكثر من مدينة نجد قدرةً فائقة من الشباب السوري على إدراك طبيعة السلطة الحاكمة وإبطال تأثير مفعولها السياسي والإعلامي، فالنظام السوري يستخدم لغة التخوين بكثرة ضد كل معارضيه أو المنشقين عنه عبر وصفهم بالعمالة لإسرائيل أو الولايات المتحدة وما إلى ذلك، فكان رد الشباب السوري عبر شعار - الخاين يلي بيقتل شعبو- باللهجة المحلية أي - الخائن هو من يقوم بقتل أبناء شعبه- ،كما أن الإعلام الرسمي وصف من قاموا بالمظاهرات في دمشق ودرعا وبانياس وغيرها من المدن السورية بأنهم -مندسون- فأطلق الشباب السوري مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي ( الفيس بوك والتويتر- تقول ( أنا مندس/ة) وتعبر في بيانها - أنا المواطن السوري : ( ) أعترف و أنا بكامل قواي العقلية بأني مندس في المطالب الوطنية للشعب السوري و أني سأدافع عن حقي بالاندساس في جميع قضايا وطني السياسية و الاقتصادية - ، بالتأكيد فإن مثل هذه التكتيكات التي يستخدمها الشباب السوري من شأنها أن تبطل التأثير الإعلامي والسياسي الرسمي وتدفع مزيد من الشباب إلى التظاهر والمطالبة بحقوقه السياسية والاقتصادية.
كما لابد أن نشير إلى أن بداية الاحتجاجات الشعبية من درعا هذه المحافظة الجنوبية يحمل أكثر من دلالة ، ويعطي مؤشراً أكيداً على صمود الشباب الثائر حتى تتحقق كل مطالبه، فدرعا محافظة تعرضت كغيرها من المحافظات الطرفية إلى تهميش وإهمال كامل في البنى التحتية كما تعرض أبنائها إلى تدني مستوى الرعاية الصحية والتعليمية ولذلك يمتلك شبابها كل المقومات التي تدفهم إلى الثورة وعدم الرضوخ حتى تحقيق كل أهدافهم، كما أن المجتمع العشائري في المدينة يولد مزيداً من التضامن بين أبنائها، فالأنظمة الدكتاتورية وعلى مدى عقود غالباً ما تنجح في تدمير معنى التضامن بين أبناء الوطن الواحد وتستبدله بزرع الشكوك والخوف المتبادل، ولذلك وجدنا مع اعتقال الأطفال من عشيرة الأبازيد تضامناً من كل العشائر الأخرى وخرجت جميعها في موقف واحد، كما أنه وبسرعة تضامن معها مثقفوها ومشايخها وعلمائها وكل الطبقات الاجتماعية تقريباً مما أفزع النظام السوري وجعله يدرك أن القمع المتزايد وسقوط الضحايا سيولد المزيد من الاحتجاجات ويدفع مزيداً من الشباب إلى الانضمام ،إن الشعارات التي رفعت ومنذ اليوم الأول تدل على أن هذه الثورة هي ثورة الكرامة وعلى رأسها الحرية ، فالمتظاهرون رددوا - بعد اليوم ما في خوف - و - من حوران هلت البشاير- في إدراك رائع منهم أنهم إنما يبدؤون ويقودون بنفس الوقت معركة الثورة السورية التي افتتح بشائرها أبنائهم وعمدوها بدمائهم، وما يعزز فرضية تصاعد الاحتجاجات وعدم قدرة النظام السوري على التصدي لها، هو عدم إمكانية عزل المحافظة أمنياً وسياسياً ،فلو ابتدأت الاحتجاجات في محافظات القامشلي أو الحسكة ( وهي محافظات التواجد الكردي الكثيف) لكان سهلاً على النظام السوري عزلها أمنياً وسياسياً عبر اتهام الأكراد بأنهم يريدون الانفصال، ولو ابتدأت في حماة لكان سهلاً عزلها أيضاً عبر القول أن الإخوان المسلمين ( الذين يحكم بالإعدام على كل منتسب لهم وفقاً للقانون 49 الصادر عام 1980) هم من ورائها، كما أن من الصعب أيضاً للاحتجاجات والمظاهرات أن تبدأ من دمشق أو حلب بسبب التواجد الأمني الكثيف فيها ، وبالتالي أبتدأت الثورة في المكان المثالي الذي كان عليها أن تبدأ فيه ومسألة استمرارها مربوط بقدرة وتصميم الشباب السوري في المحافظات الأخرى.
أما السبب الأخير الذي سيمنع النظام السوري من ممارسة العنف الشديد أو القمع العنيف للمظاهرات في درعا وتكرار ما جرى في حماه عام 1982 فيها ( وهو ما يخاف منه الكثير من السوريين ويرددونه باستمرار) هو أن الكثير من قادة فرق الجيش هم من حوران ،فتقريباً ثلاثة من قادة فرق الجيش السوري العشرة هم من محافظة حوران ،ولما كان العامل العشائري هنا قوياً فإن ممارسة العنف العاري هناك سيولد انشطاراً في الجيش السوري وانشقاقاً يدرك النظام عواقبه الخطيرة عليه ،كما أنه يجب علينا أن لا ننسى أننا اليوم في عالم يلعب في الإعلام دوراً محورياً في التواصل وكشف المعلومات بحيث لا يمكن إخفاء الجرائم أو التستر عليها، كما أن رد الفعل الدولي في ليبيا كان درساً حاسماً لأي نظام يعتبر نفسه محللاً في ارتكاب الفظائع والجرائم بحق شعبه.
كل ذلك يدفعني إلى القول مطمئنناً أن الثورة السورية ستنتصر في النهاية ، كما أن كل يوم يمضي سنسمع المزيد من المدن التي ستشهد مظاهرات واحجتجات عبر أشكالها المتنوعة تطالب بالحرية والحرية فقط، وهو مشهدٌ لم تعتد عليه سورية على مدى أربع عقود ،ولذلك يبدو بالغ الدلالة ذلك الفيديو الذي يُظهر إحدى الفتيات تحمل العلم السوري وتصرخ - عاشت سورية حرة أبية- ثم ينقض عليها ستة من رجال الأمن بالضرب وينتهي بها الأمر إلى الاعتقال والاختفاء .
إنها لم تهاجم الرئيس أو تنتقد النظام أبداً، إنها نادت فقط بأن - سورية حرة - وهو ما يبدو صعباً على نظام أقنع السوريين لعقود عديدة بأن سورية هي - سورية الأسد- أن يدرك أن للسوريين اليوم رأي آخر.
إن الشباب السوري اليوم يخوض معركة مزدوجة فمن جهة عليه العمل لاستعادة الجمهورية. تلك التي تحولت تماماً إلى مملكة يتوارثها الأبناء. ومن جهة أخرى العمل لاستعادة الديمقراطية. وفي كلا الحالتين فإن السوريين جميعهم بكل أطيافهم وانتماءاتهم العرقية والدينية والاثنية لا يختلفون أبداً على أولوية النجاح في كلا الحالتين، فسورية أرض حضارات عريقة متعاقبة، منها انطلق فجر الحضارة الاسلامية، واستمرت على مر التاريخ منبعاً ومنارةً للأفكار الخلاّقة والمبدعة وكان للسوريين الدور الأبقى في نشر الفكر العروبي على امتداد العالم العربي. الآن عليهم قيادة معركة الحريات ونشرها في العالم العربي، فدمقرطة الأنظمة العربية هو السبيل الوحيد لوضع أولويات ومصالح الشعوب على حساب مصالح الأنظمة، وهو ما يفتح المجال لبناء فضاء جيوسياسي واقتصادي عربي قادر على تحقيق الرفاهية لشعوب المنطقة كافة.
إن الثورة السورية اليوم تهدف إلى تحقيق إصلاح سياسي جذري يبدأ من تغيير الدستور وكتابة دستور ديمقراطي جديد يضمن الحقوق الأساسية للمواطنين، ويؤكد على الفصل التام بين السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية، وهو يشمل أيضاً إصلاح جذري للمؤسسة أو الجهاز القضائي الذي انتشر فيه الفساد وفقد المواطنون الثقة الضرورية فيه، وبالطبع رفع حالة الطوارئ وإلغاء كافة المحاكم الاستثنائية والميدانية وعلى رأسها محكمة أمن الدولة وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وإصدار قانون عصري للأحزاب السياسية بما يكفل المشاركة لكل السوريين وبدون استثناء، وتحرير قانون الإعلام بما يضمن حرية الإعلام وإصدار قانون جديد للانتخابات، وتشكيل هيئة وطنية للحقيقة و المصالحة من أجل الكشف عن المفقودين السوريين والتعويض عن المعتقلين السياسيين، وفوق ذلك كله بالطبع يأتي إعطاء كافة الحقوق الأساسية للكرد ،وعلى رأسها منح الجنسية لما بات يقارب ربع مليون -مواطن- كردي حرموا منها نتيجة إحصاءٍ استثنائيّ خاصّ بمحافظة الحسكة عام 1962 وكذلك إلغاء التمييز الثقافي واللغوي بحق اللغة الكردية والنشاطات الثقافية والاجتماعية والفنية والاعتراف بحق التعلّم باللغة الأم ، وإلغاء التمييز المنهجي الواقع عليهم وإعطاء المنطقة الشرقية الأولوية فيما يتعلق بمشاريع التنمية و البنى التحتية.
يبقى أن أقول أن أولئك الذين يخشون أن ينتهي الأمر بسورية إلى ما هي عليه الحال في ليبيا، فإني أقول أن الأمر هنا مختلف فالبرغم من تعدد سورية الطائفي والاثني والعرقي الإ أنها تختلف عن ليبيا في أن لها جيشاً محترفاً ربما يلعب الدور نفسه الذي لعبه في تونس ومصر.
فللجيش في سورية مكانة مميزة، فالسوريون يرددون كل صباح (حماة الديار عليكم سلام ) أي أنهم يبدأون نشيدهم الوطني بتحية الجيش وحده دون غيره من المؤسسات الوطنية أو الشعب كما هي حال الأناشيد الوطنية في البلدان الأخرى، لما كان له من دور في الاستقلال والحفاظ على الوحدة الوطنية بين أبناء سوريا جميعهم وفوق ذلك فإن أهميته تكمن في أن جزءً من الأراضي السورية لا يزال تحت الاحتلال الاسرائيلي بما يعنيه ذلك من مهام الجيش في التحرير وضمان وحدة وسلامة أراضي الجمهورية.
ولذلك فإن الجيش قادر على لعب دور محوري في عملية التحول وقيادتها عبر الدخول في مفاوضات مع المدنيين الممثلين لقيادات المعارضة أو أية شخصيات أخرى تحظى باحترام السوريين من أجل تشكيل حكومة انتقالية، وبالتالي وعبر الدخول في هذه المفاوضات التي يجب أن تفضي إلى جدول زمني لإنجاز عملية التحول الديمقراطي الذي هو هدف الثورة الأخير وغايتها.