مراجعات المستبدين بعد بن علي

م. محمد حسن فقيه

م. محمد حسن فقيه

[email protected]

أولا : بن علي " زين الهاربين " 

يحلو لكثير من الساخرين أن يسمي بن علي زين الهاربين بدلا من زين العابدين ، لأنه كان القدوة في هذا المضمار بعد أن عصفت رياح التغيير في منطقة عالمنا العربي الذي يعاني من خنق الحرية وغياب القانون وتفشي الفساد ، مشفوعا باستبداد ظالم ومدعوما بقبضة بوليسية حديدية هدفها دعم النظام وتثبيته ولو كان ذلك فوق أشلاء وجماجم أبناء الشعب المسكين .

خرج بن علي في الوقت الضائع ليقول لشعبه : " فهمتكم "  بعد أن حاول القفز من فوق الموجة الشعبية المتنامية  وتشويه صورتها وتحويل المظاهرات إلى مؤامرات خارجية ، وعناصر إرهابية ملثمة تشارك في المظاهرات أو تقودها ، ليوصل الرسالة لأسياده بأن شبح الإرهاب قادم ليكون بديلا عني !

ثم أطلق يد الأجهزة الأمنية في البلاد لتعيث فسادا وتثير الهلع والرعب بين الناس وهي المسؤولة أصلا عن حفظ الأمن، فهاجمت السجون وأحرقت بعضها وأخرجت المساجين من المجرمين والقتلة واللصوص إلى الشوارع لينضموا إلى جانب عناصر الأمن ويعيثوا في البلاد فسادا وينشروا فيها الرعب والدمار ، ويتحولوا إلى عصابات مسلحة تقتل هنا وتضرب هناك وتسرق في مكان آخر وتثير الفوضى والخوف في أنحاء أخرى لينعدم الأمن تماما على عصابات تدعي – بحسب اسمها – أنها للحفاظ على الأمن ! 

ولكن للأسف لم يصدقه الشعب ، وكشف خطته الخبيثة ولم يلق آذانا صاغية عند أسياده ، بعد أن أيقنوا بأن نظامه  المنخور بالفساد بدأ ينهار وأن أجهزته الأمنية قد أفلست ولم تعد قادرة للسيطرة على الوضع ، وأن نهايته باتت وشيكة أمام المد الشعبي من الشباب الثائرالمتعطش للحرية ، ولعل الأمر حسم تماما عند اتخاذ الجيش موقفا حياديا ولم ينفذ تعليمات بن علي لينحاز إلى جانبه  والوقوف إلى جانب قوات الأمن لقمع المتظاهرين وسحقهم ، عندها أدرك – أو أدركت بنت الطرابلسي – أن النهاية اقتربت وأصبحت وشيكة ، فأسرع بالهروب سرّا مع بعض زبانيته تحت ضغط بنت الطرابلسي للنجاة بالثروة التي سرقوها من أموال الشعب التونسي ومقدراته .

 ولعل المفاجأة كانت عندما رفضت فرنسا استقباله وحسبت حسابا لشعبه المنتفض ضد الظلم والإستبداد ، ولم ترض أن  تدنس أرض فرنسا بفساده ومخازيه ، فطلبت منه المغادرة ، وبعد اتصالات ووساطات ،  واعتذار هنا  ورفض هناك ، وبعد أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت رغم ملياراته التي سرقها من الشعب وهرّبها للخارج ، حطّّ به الترحال أخيرا في بلد خادم الحرمين ليكون أول المبشرين العشرة بجدة ! .

ثانيا : الثورة المصرية وحسني مبارك

لم يستفد حسني مبارك من الدرس وقال إن مصر ليست تونس ، واعتبر أن بن علي قد تعجّل في هروبه وكان جبانا ، وسنّ سنّة سيئة لحكام الاستبداد لمن بعده ، واستهزأ السيد جمال بالشباب المحتجين في ساحة التحرير باستخفاف وازدراء قائلا : " خليهم يتسلوا " في حين  كان يجهز نفسه للتتويج  ووراثة حكم أبيه ، واستند حسني مبارك في رفضه مطالب الشعب إلى حزبه الذي فاز بنسبة خرافية في انتخابات مجلس الشعب بتزوير مفضوح سخر منه حلفاؤه وأنصاره ، وقد اعترفت حكومة مبارك بذلك فيما بعد ، وعززّ موقفه بدعم جحافل  قوات الأمن والحرس الجمهوري لنظامه التي لم تتوانى عن البطش والقتل والتنكيل بالمتظاهرين ، كما استخدم رجال أعماله في الحزب الوطني لتسيير المظاهرات المؤيدة ، ودعم البلطجية في الهجوم على المتظاهرين وقنصهم ورميهم بقنابل المولوتوف من فوق أسطح البنايات المرتفعة المحيطة بساحة التحرير ، بعد غزوة الجمل وسرية البغال  ، كما حاول إشاعة الفوضى والتخريب في البلاد بواسطة موظفه البار ( العادلي ) وزير الداخلية – المعتقل حاليا رهن التحقيق – وذلك باقتحام السجون وحرق بعضها وتهريب المجرمين والمطلوبين وأصحاب السوابق ليعيثوا في البلاد فسادا ، في نفس الوقت حاول توجيه رسالة لأسياده الذين نصبوه ودعموه طيلة فترة حكمه وغضّوا الطرف عن مشروعه التوريثي الذي كان قاب قوسين أو أدنى من ابنه جمال بعد الانتخابات وقبل أن يعصف أزيز الثورات في المنطقة وينتقل إلى مصر .

الرسالة التي حاول توجيهها هي اللعبة المكشوفة من الإسطوانات المشروخة والمعلبات الجاهزة والتهم التي يلعبها كل المستبدين لإرضاء أمريكا وإسرائيل ، بأن البديل عن نظام حكمه هو الإسلاميين ، وهو يقصد التطرف والإرهاب في محاولة لاستفزاز أمريكا واسرائيل بسبب حساسيتها المفرطة من هذه الكلمة !

كل هذا لم يجد نفعا ولم يشفع له عند أسياده ولم تنطل لعبته تلك عليهم .

 فتمرد على أسياده وانحاز إلى كرسيه الذي باع لأجله مصر وشعبها ومقدراتها  ورهن كرامتها وسيادتها  عند أعدائها ، فحاول الإلتفاف على مطالب الشعب وإرضائه بحلول جزئية وترقيعية لم تعد كافية في نظر الشباب الثائر، والتي كانت قد تكفي قبل شهرين ، ولكن بعد التضحيات والشهداء ارتفع سقف المطالب ، فأعلن حسني عدم نيته للترشح للرئاسة ، واستبعاد قضية التوريث لابنه علاء وذلك بتعيين نائب له هو اللواء عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات المخلص له وصديقه الأكبر والرجل الأقوى في النظام من بعده ، ٌوهو مطلب رفضه مبارك مرارا وتكرارا منذ توليه الحكم قبل ثلاثين سنة حتى قبيل مظاهرات الشباب في ميدان التحرير .

وأرسل بنائبه الجديد في محاولة لمفاوضات الأحزاب المعارضة أو إرضاء بعض قيادات الشباب الثائر ، إلا أن الشباب الثائر رفض كل ذلك وأصرّ على تنحية حسني مبارك ، ودعم موقف الشباب والمتظاهرين ضد مبارك وأعوانه موقف الجيش الحيادي والذي أعلن حمايته للشعب والشباب الثائر من اعتداءات بلطجية النظام وقوات الأمن .

لم يستوعب حسني مبارك درس زميله بن علي ، ولم يقرأ ما يحدث حوله في ساحة التحرير بشكل سليم ، بل ركب رأسه وتملكه العناد وأعلن رفضه للتنحي عن السلطة رغم الرسائل المتكررة والواضحة تماما من حلفائه التي طالبوه فيها بالتنحي فورا استجابة لمطالب الشعب والشباب الثائر وحقنا للدماء ، بعد أن أيقنوا باحتراق أوراقه وحتمية سقوط  نظامه .

تلبست عندها فيه روح الوطنية ، وتمرد على أسياده الذين دعموه طيلة فترة حكمه وغضوا الطرف عن فساده واستبداده ، وأعطوه الضوء الأخضر للموافقة على توريث إبنه أملا أن يكون الابن وفيا كأبيه ومطيعا لهم ، واتهم هؤلاء الثائرين بالتآمر على الوطن والتعامل مع الأجنبي – الذي عمل هو لأجندته ثلاثين سنة عدا الفترة التي سبقت رئاسته - وأن لديهم أجندة خارجية ضد مصر وشعب مصر .

 حتي نحي عن منصبه مجبرا تحت ضغط الشباب الثائر وإجبار الجيش له  ولنائبه على ذلك ، وانتقل إلى شرم الشيخ لتفرض عليه مع زوجته  وأولاده الإقامة الجبرية  ، ثم ليحول إلى النيابة مع أبنائه ذليلا لمسائلتهم  عن الفساد  والتحقيق معهم ، وتوجيه تهم متعددة لجمال وعلاء بدأت ولن تنتهي إلا بانتهائهم ، بعد أن تم  إدخالهم السجن في طرة باللباس الأبيض مع الجوقة من مجموعة الفساد والاستبداد كالعادلي وأحمد عز وصفوت الشريف وأنس الفقي وغيرهم ... الكثير ... الكثير، وما يتبع ذلك بما يستحق من عقاب عادل  بسبب فساده واستبداده وجرائمه ضد الوطن والشعب .

ثالثا : رئيس اليمن علي صالح

أما العقيد – ليس القذافي – بل علي عبدالله صالح رئيس اليمن الذي رقى نفسه بنفسه من عقيد إلى فريق دفعة واحدة ، وقد حكم اليمن منثلاث وثلاثين سنة ، وقد كان جهده منصبا على توريث ابنه للحكم من بعده للمرحلة القادمة في نظامه الجمهوري الذي قام بعد الثورة على الإمامية التوريثية ، فلعله مازال متأثرا بها ويحنّ إليها ، رغم زعمه بأنه حامي الثورة ضد نظام الحكم الإمامي البائد ، الذي يصفه هو وزملاؤه من أنصار الثورة بأنه نظام حكم رجعي منغلق وراثي .

 هو الآخرأيضا لم يستفد من دروس سابقيه ووصلته الرسائل مغلوطة ، واعتبر أن تحالفه مع أمريكا ضد القاعدة والإرهاب سيجعل منه الرقم الصعب الذي لا يمكن الاستغناء عنه بالإضافة إلى تعاونه الأخير مع السعودية ضد الحوثيين ، وطبيعته المتقلبة والمخادعة وخبرته الطويلة في شراء الذمم بتوريط معارضيه وغمرهم بالفساد ، وألاعيبه الماكرة في التأليب بين القبائل وخلق الفتن ، ثم محاولة الإصلاح بينها لكسب رضاها وضمها إلى أنصاره ، وثقته الزائدة بنفسه التي حقنته بدفعة مهيجة دفعت به إلى الغرور وحافة الإنهيار .

وبعد أن ارتفعت وتيرة المعارضة الشعبية ضده في جميع المحافظات  حاول الاستعانة بمظاهرات التأييد المسيرة من قبله بالترغيب والترهيب ودفع الأموال مقابل التأييد والمناصرة للخروج بالمسيرة .

 وأعلن أن الشباب الثائر المطالبين بالحرية ومحاربة الفساد ماهم إلا عملاء ويتحركون بأجندة خارجية ، وتدار المظاهرات من غرفة عمليات في إسرائيل ! وطلب من الشعب الثائر أن يرحل !  لأنه صامد في موقعه ولن يرحل أبدا ، وأن جميع الأصوات المطالبة برحيله هي أصوات نشاز ! بل إن القطار قد فات الجماهير ... فاتهم ... فاتهم ... فاتهم ! ! .

 كما أعلن أن اليمن ليست مصر ولا تونس .

 وأن الشعب اليمني مسلح ، وأنه يمتلك أكثر من ستين مليون قطعة سلاح ، مهددا بشبح حرب أهلية لا تبقي ولا تذر ، وذلك بعد انحياز أخيه غير الشقيق علي محسن الأحمر-  قائد المنطقة الشمالية والغربية في اليمن والرجل الأقوى بين العسكر بلا منازع -  إلى صفوف الجماهير والشباب الثائر وتحويل قطعته وأفراد فرقته ودباباته لحماية الشباب المحتج والمتظاهرمن سطوة قوات الأمن المدفوعة من قبل علي صالح .

حاول علي صالح أن يلعب لعبة من سبقوه بتوجيه رسائل إلى أسياده وحلفائه بأنه الرجل الأقوى والممسك بزمام الأمور والمناسب للتعامل معه ودعمه ، وإلا فإنه قادر على تهديد مصالحهم وتقسيم اليمن إلى خمس دول وليس ثلاثة فقط ، فحاول تسليم القاعدة مخازن السلاح في أبين جنوب اليمن بواسطة بعض رجاله لإطلاق يدهم وإشاعة الفوضى ، فباءت محاولته وكشفت وسيطر المواطنون في الجنوب على الوضع ، كما حاول تمكين الحوثيين في صعدة ليكونوا خنجرا في خاصرة السعودية التي لم تنقذه ، إلا أن أهالي صعدة أعلنوا عدم نيتهم الإنفصال وتشكيل دويلة حوثية في الشمال ، فهدد بحرب أهلية من طاقة إلى طاقة !

قدمت له عدة مبادرات من شخصيات وقوى المعارضة والشباب الثائر ، فكان رأيه وأمره كل يوم هو في شأن ، يوافق اليوم ثم ينقضه في الغد بمبررات واهية ، بأنه يريد نقل السلطة سلميا إلى يد أمنة ، ولا يوجد بين جميع مكونات الشعب اليمني شخص أمين واحد !  ولا رجل كفؤ ! أو حتى مجلس وطني قادر على قيادة البلاد  ، حتى نائبه من أكثر من خمس عشرة سنة ، والذي وافق على نقل السلطة إليه يوما ، تراجع عن ذلك في اليوم التالي !

وعندما طلبت منه أمريكا التنحي وتسليم السلطة بطريقة سلمية ، وكذا مجلس التعاون الخليجي رفض ذلك وتهجم على الجميع ، واتهمهم بالتآمر على اليمن والتدخل في شؤونها الداخلية و شن حملة شعواء على قطر وقناة الجزيرة الفضائية وطرد بعثتها الإعلامية بعد أن اعتدى ( بلاطجته ) على أفراد طاقمها .... 

أخيرا لم تقبل الجموع المحتشدة من الشباب الثائر بالمبادرة الخليجية التي تنص على تسليم صلاحياته لنائبه مقابل تقديم ضمانات بعدم ملاحقته قضائيا ومحاكمته هو وأفراد عائلته ، لأنها تريد تنحيته أولا ،  ثم محاكمته مع جميع أفراد عائلته وحاشيته من البطانة الفاسدة والمنتفعة ، ومصادرة جميع الأموال التي سرقوها من أموال الشعب اليمني .

الأيام القادمة سوف تثبت للعقيد بأنه  لم يستفد من الفرص التي منحت له ، وقد قرأ الرسالة من الشباب الثائر بشكل مغلوط ، وسيندم على ذلك مع عائلته . . . ومن حوله ، ولات حين مندم .  

وأخيرا .... وليس بآخر

ما زالت السلسلة مستمرة ، في ليبيا وسورية -  والتي سيكون تغطيتهم في هذا التحليل  قريبا -  وما سيتبعهم  من ثورات في بلدان أخرى في الأيام القادمة ، تتجلى إرهاصاتها هنا وهناك .

الأهم في الإمر أن المستبدين لا يستفيدون من العبر ، ولا يتعظون  من دروس زملائهم الذين سبقوهم في طريق السقوط ، وكل منهم يظن أنه أذكى من سابقيه ، ويسير على نفس النهج المتخلف من القمع والإذلال للشعب محاكيا من سبقوه في السقوط حذو القذة بالقذة ، مع إبداعات جديدة ونفحات متميزة من القتل والإجرام وسفك الدماء  يضيفها هؤلاء المستبدون إلى سجلاتهم المخزية وصفحاتهم السوداء ، وأغلبهم يتترسون  خلف الحزب  أو الطائفة  أو القبيلة ، ويدفعون بجر البلاد إلى حرب طائفية أو يهددون بشبح حرب أهلية مدمرة  تخرب البلاد وتقتل العباد ،  حتى الذين يدّعون موافقة الجماهير والتجاوب مع مطالبها والنداءات الدولية ومنظمات حقوق الانسان ، تكون استجابتهم جزئية  وشكلية ، مع محاولات الإلتفاف عليها وتمييعها ، ودائما تكون هذه الإصلاحات متأخرة خطوات عن مطالب الجماهير الثائرة ، ولا تلبي طموحاتهم العادلة المنادية بالحرية والكرامة ضد الفساد والاستبداد .

إن حلاوة الكرسي وجاذبيته السحرية قد أطبقت على عقول المستبدين  وأعمت بصيرتهم ، ولا مانع لديهم أن يدمروا جميع المعارضين من أبناء الشعب ويسفكوا دماءهم ، إلى جانب دعم وإرضاء بعض المنتفعين  والفاسدين من الحاشية ، في سبيل هذا الكرسي الذي يعبدونه من دون الله .