مصر التي نحب

صلاح حميدة

صلاح حميدة

[email protected]

يجمع العرب والمسلمون على جوهريّة الدّور المركزي الذي بإمكان مصر لعبه لصالح قضاياهم، وتشخص أنظارهم دائماً نحوها، يفرحون لفرحها، ويتألّمون لألمها وألم شعبها، تزعجهم عثراتها، وتبهجهم انتصاراتها وتقدّمها.

حال مصر قبل الثورة الشعبية كان يعد من أسوأ الأحوال العربية، بل لا نبالغ إن قلنا أنّ النّظام المصري  السّابق أفسد كل شيء في مصر، وكاد أن يودي بالبلاد والعباد في متاهة التاريخ، لولا أن كان المصريون على موعد مع قدر وفجر جديد زاهر، أشرق مع ثورة الخامس والعشرين من يناير.

تمر مصر في مرحلة انتقالية صعبة للغاية، وتبذل حكومتها جهوداً جبّارة في محاولات تذليل العقبات  التي تعترض طريقها، ولكن من الملاحظ أنّ هناك استهلاك كبير لجهود هذه الحكومة في قضايا ومشاكل جانبية، وأخطر ما في هذه المشكلات أنّها تجعل المسؤولين في حالة استنزاف وردود أفعال على أحداث لا قيمة تنموية واستراتيجية لها، بالاضافة إلى إعطائها لصورة مسيئة عن الثّورة المصرية، وقرنها بحالة الفوضى والفلتان.

هذا الواقع المرير يجد من يطالب بمواجهته بخطوات فاعلة إيجابية من قبل السّاسة المصريين، ولذلك من المهم أنّ يتوجّه السّاسة المصريون نحو توجيه الشّعب والموارد المصرية لتنفيذ مشاريع قومية إستراتيجية كبرى، وأهم ما في هذه المشروعات القومية الكبرى، أنّها تدفع الشّعب الثائر لاستثمار طاقاته في بناء البلد واكتشاف قدراته الإيجابيّة الكامنة، ولا أدل على ذلك من مشروع بناء السّد العالي وغيره من المشاريع الإستراتيجية للقطاع العام المصري في عهد عبد الناصر، ويجب أن لا ننسى أنّ الشّعب المصري بنى عجيبة الأهرامات.

وأهم ما في المشاريع القومية الكبرى انّها تدفع المصريين للتضافر وتوحيد الجهود و شيوع المشاعر الجماعية، وتحيي عندهم الكليّة الإجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتشيع بينهم ثقافة الإيثار والتّقشف، وتقديم الأولويات الوطنية على الأولويات الفردية الصّغيرة، وتري المصريين نتائج مبهرة لجهودهم، تعيد لهم الفخار الوطني الذي افتقدوه منذ توقيع معاهدة التّسوية مع الدّولة العبرية.

من المهم أن تأخذ مسألة بناء الجسر الواصل بين السعودية وجزيرة سيناء أولوية كبرى في الأجندة المصرية الحالية، فقد منع الرئيس السابق بناء هذا الجسر الذي يصل بين المشرق والمغرب العربي، هذا المشروع الذي قالت السعودية أنّها على استعداد لدفع تكاليفه كاملة، ولن تتكلّف الحكومة المصريى قرشاً واحداً في تشييده، بالإضافة إلى أنّ هذا المشروع  سيدرّ المليارات على الحكومة المصرية، تفوق ما تدخله قناة السّويس على الخزينة العامّة.

هذا المشروع القومي الإستراتيجي له أبعاد قومية وأمنية ومصيرية أخرى، فهو سيقطع سيناء الخالية إلا من القليل من السّكان، سيناء التي تعاني من عدم إعمارها منذ تحريرها، سيناء التي عوملت على أنّها مشكلة أمنية، سيناء التي يعاني أهلها من التّهميش الإقتصادي والإجتماعي، سيناء الأرض المفتوحة التي من الصّعب الدّفاع عنها عسكرياً. هذا الجسر وامتداده للطريق القاطعة لسيناء، ستجلب تجارة رائجة من بداية الجسر حتى خروج الطريق من سيناء، بل حتى حدود مصر مع ليبيا. كما أنّ هذا الطّريق سيشهد حركة عمرانية هائلة تحل المشاكل السكنية للسيناويين، وتجلب آلاف المصريين للسكن في سيناء، وستحل هذه الكثافة السّكانية والإسكانية في سيناء مشكلة خاصرة مصر الضّعيفة، وستجعل مهمّة من يفكّر في احتلال سيناء مرّة ثانية صعبة للغاية، فالقتال في مناطق عالية الكثافة السّكانية والإسكانية صعبة للغاية، بعكس الحرب في صحراء فارغة بلا غطاء جوّي كما كان في الحروب السّابقة ولا يزال حتّى الآن.

قبل سنوات عرض البرفسور المصري فاروق الباز مشروع الطّريق الموازي لوادي النّيل، وهو مشروع مبني على دراسة علمية لطبيعة الأرض وما تحتها في هذه المنطقة، وهذا المشروع له أهداف رائعة، سيحل تحقيقها مشاكل مستعصية في مصر، فالباز يقترح أن يتم تشييد هذا الطريق غرب النّيل من جنوب مصر لشمالها، وبمحاذاة هذا الطّريق يتم بناء كثيف ومنظّم، بناء يحل إشكالية الإكتظاظ في المدن التقليدية، بناء يحل مشكلة سكان المقابر والعشوائيات، بناء يحل إشكاليات البطالة المتفشّية في مصر، ويرى الباز أنّه يوجد بمحاذاة هذا الطريق أراضي صالحة للزراعة وآبار جوفية، وبالإمكان قيام مشاريع زراعية وصناعية كبرى في تلك المناطق.

تعيش العاصمة المصرية أزمات مركّبة نتيجة الإكتظاظ والتّلوّث، ومشكلة إستراتيجية تتعلّق بالقرب الجغرافي من فلسطين المحتلة، ويرى عدد من الإستراتيجيين أنّ المطلوب لحل الاشكالات البيئية والإسكانية والأمنية، وفي مجال التّخطيط وفي مجال المواجهة المصيريّة مع الإحتلال، فمصر - من وجهة نظرهم - بحاجة لبناء عاصمة جديدة في العمق الإستراتيجي الجنوبي لمصر، ويعد إنشاء هذه العاصمة في المكان الذي اقترحه البرفسور الباز أفضل مكان لهذا المشروع.

قد يقول قائل:- من أين سيتم جلب المال الكافي لهذه المشاريع الإعمارية الكبرى؟

قبل أيام عرضت مجموعة سعودية على الحكومة المصرية بناء مئتي ألف وحدة سكنية بمليارات الدّولارات، وبالتّأكيد يوجد مجموعات أخرى عربية ومصرية وعالمية على استعداد لتبنّي هذه المشروعات الإستراتيجية، كما أنّ التّشدد في محاربة الفساد، وانتهاج سياسة تقشّف تبدأ من رئيس الدّولة ورئيس الوزراء  نزولاً إلى أصغر موظّف، وتقليص الفوارق السّاحقة في الأجور بين كبار وصغار الموظفين، ستكون خير رافد لهذه المشاريع الكبرى. وسيجد المصريون الأثر الإيجابي لإنجاز تلك المشاريع على حياتهم اليومية وعلى مستقبلهم.

أحد العلماء المصريين في المجال الزّراعي عرض  في برنامج ( بلا حدود) على فضائية  الجزيرة قبل سنتين تقريباً، مشروعاً زراعياً طموحاً، وهو كما قال: قليل التّكاليف، و يتمثّل في خطوتين رئيسيتين:-

الأولى:-  تتمثل في ضخ الطين المستخرج من خلف السّد العالي، وضخّه مع المياه على مساحات واسعة من آلاف الهكتارات في جنوب الصّحراء المصرية، وهذا الطّين يتم التّخلص منه بلا فائدة حالياً، ويعتبر هذا الطّين خصباً للغاية، وتصلح الزراعة فيه للكثير من الأصناف من الخضار والفواكه والحبوب، ويستوعب هذا المشروع آلاف الأيدي العاملة المصرية.

أمّا الثّاني:- فيتمثّل في صناعة عوّامة بلاستيكية تغطّي بحيرة ناصر، تمنع تبخّر ملايين اللترات من الماء، وهي كمّية كافية لحاجات المصريين وتزيد عنها، وهي غير مكلفة كثيراً، كما قال.

هذه بعض المشاريع القومية الكبرى التي أحب ويحبّ غيري تنفيذها في مصر الكنانة، مصر قلب العرب النّابض، مصر التي نحبّها ونريدها قويّة اقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً وسياسيّاً، مصر القوية داخلياً التي تستطيع أن تقف شامخة في وجه المشاريع الدّخيلة على الأمة. ولعل أهم مشروع يجب تنفيذه في مصر هو مشروع مؤتمر لكل العلماء والمفكّرين المصريين والعرب، ومنحهم الفرصة والصّلاحيّات والتّمويل اللازم لخدمة بلدهم وأمّتهم. مصر وقيادتها وشعبها مطالبون برفع رؤوسهم نحو تحقيق أهداف كبرى داخلية وخارجية، وحتى تستطيع مصر تنفيذ ما نحبّه منها خارج حدودها، نريدها أن تكون قويّة قبل ذلك في الدّاخل، قويّة بحيث لا تخضع للابتزاز والمساومة، قوية بحيث تأكل قمحها الذي تزرعها في أرضها، لا ما ترسله لها أمريكا، هذه مصر التي نحبّها أن تكون.