شلت يمينك يا

محمد فاروق الإمام

شلت يمينك يا...؟!

محمد فاروق الإمام

[email protected]

شاهدت والألم يعتصر فؤادي، والحزن يفجر شراييني، والدم يصبغ حدقة عيني، ما عرضته الفضائيات العربية والأجنبية من صورة لمشهد شباب قرية البيضة، وأقدام أبناء(!!!) تدوس ظهور هؤلاء الفتيان الأطهار وتصفع أحذيتهم وجوههم ومؤخراتهم وتلهب ظهورهم عصاهم الكهربائية وأعقاب بنادقهم تنهال على رؤوسهم وأماكن حساسة من جسدهم وهم مكبلون لا حيلة لهم في الدفاع عن أنفسهم أو منع تلك الأيدي الباغية من الوصول إليهم.

وشاهدت شباب بانياس الذين أطلق سراحهم وقد خلفت الكدمات على وجوههم وأظهرهم ورؤوسهم آثار ما تعرضوا له من تعذيب وحشي يرسم بكل صدق وأمانة خُلق وثقافة هؤلاء الشبيحة من عبيد النظام السادي الذي يحكم بلدي سورية منذ 48 سنة.

لقد أعادت هذه المناظر المؤلمة والشنيعة ذاكرتي إلى ما قبل 46 سنة وقد حسبت نفسي أنني قد تجاوزت ذكريات تلك السنة التي اختطفت فيها من محطة بغداد بحلب بينما كنت أترجل من حافلة عامة بعد زيارة صديق لي، حيث انقض علي ستة من رجال الأمن باللباس المدني على مرأى ومشهد من الناس، وكنت في حينها أرتدي اللباس العسكري أمضي إجازة بين أهلي وأصدقائي بعد غياب نحو سنة تقريباً أؤدي الخدمة الإلزامية في الجولان في أعز المواقع (تل فخار الذي وقف عصياً، بقيادة النقيب البطل نورس طه، أمام الإسرائيليين وأجبرهم على التراجع بعد أن دمر له الصامدون نحو 6 دبابات وقتلوا من جنوده العشرات، يوم اجتياحهم للجولان عام 1967 وانسحاب الجيش السوري دون دفع أو مدافعة تنفيذاً لأوامر وزير الدفاع في حينها اللواء حافظ الأسد) وقد منحني العقيد فهد الشاعر قائد الجبهة شهادة ثناء وتقدير مع إجازة لمدة 12 يوماً مكافأة لي، كوني الوحيد في الجبهة السورية الذي تصديت للطائرات الصهيونية بمدفعي الرشاش (12/7) عندما أغارت على الجبهة السورية في 3/11/1964 تقصف الجبهة من حدودها الشرقية وحتى الغربية ولمدة 20 دقيقة دون أن تجابه بطلقة واحدة (وللقصة تفاصيل ليس المقام هنا في مقالي الحديث عنها).

وقاومت رجال الأمن الذين انقضوا علي كالذئاب الكاسرة، وعندما حاول بعض الشباب المتواجدين في المحطة التدخل قيل لهم إنني فار من الخدمة العسكرية.. وتمكن الذئاب بعد مدافعة مني من تقييدي وإدخالي في سيارتهم وذهبوا بي إلى فرع الأمن العسكري في حي الجميلية مقابل قيادة المنطقة الشمالية وأودعوني في غرفة منفردة داخل قبو وقد غلفت جدران الغرفة من الداخل بطبقة من (اللحف) لمنع أصوات الذين تمارس بحقهم أعمال التعذيب الوحشي من الخروج إلى سمع المارة في الشارع، وتعلق في صدر احد الجدران حلقات الشبح، وتتدلى من سقفها سلاسل الشبح، وتثبت على أرضيتها حلقات الشبح، وتعرضت لأكثر من ثلاثة أشهر لعذاب جسدي ونفسي لا أستطيع وصفه، ولم يكن أقل بشاعة مما شاهدته على وجوه وأظهر هؤلاء الفتية والشباب من أبناء البيضة وبانياس، حيث بقيت آثار التعذيب بادية على جسدي حتى بعد شهور من التوقف عن تعذيبي، وكنت في كل حفلة تعذيب يقال لي (اعترف يا خاين يا عمل) ولم أجد بداً في النتيجة من أن أوقع على 48 صفحة لم أتمكن من قراءة ما فيها، ولم أعرف ما حوته هذه الصفحات إلا بعد أن نقلت إلى سجن المزة حيث أمضيت فيه نحو سنة قبل أن يفرج عني، وكانت تهمتي أنني شاركت في تنظيم سري تحت اسم (الفدائيين الوحدويين) لقلب نظام الحكم، دون أن أعرف أياً من الأسماء التي وردت في هذه الصفحات ولم أتعرف عليهم إلا بعد أن التقينا في السجن.

شُلت يمين هؤلاء القتلة الساديين عبيد النظام وذئابه الذين فقدوا أبسط معاني الإنسانية أو الانتماء إلى البشر.. شُلت يمين هؤلاء البغاة الذين لا ضمير لديهم يردعهم أو خلق يمنعهم من ارتكاب هذه التصرفات الوحشية بحق هؤلاء الفتية والشباب من أبناء الوطن الأطهار الذين خرجوا منادين بالحرية والكرامة التي اغتصبها هذا النظام السادي وأسرها لأكثر من 48 سنة عاش فيها السوريون لأكثر من أربعة عقود كما تعيش البهائم بالزرائب والمواخير وقد تمرد هؤلاء الشباب وشبوا على طوق الحكم وقيوده، ولم تتبدل العبارات التي سمعناها نحن قبل 46 سنة لتستنسخ عزفها النشاز الذي سمعناه من هؤلاء الشبيحة وهم يمارسون بسادية مفرطة عمليات الإهانة والتعذيب لهؤلاء الفتية والشباب: (ولك خاين وعميل.. دوس على الخاين.. صور.. صور).

وأصاب المتظاهرون يوم أمس الجمعة وهم يرددون (زنكة زنكة.. دار دار.. أرحل عنا يا بشار) لأن هذا النظام الذي يستنسخ نفسه لنحو نصف قرن لا فائدة ترتجى منه ولا إصلاح يبتغى أو يؤمل، وليس أمامنا نحن السوريين، إذا أردنا انتزاع الحرية واسترجاع الكرامة وعودة الديمقراطية ووقف مسلسل الفساد والنهب، إلا بإسقاط هذا النظام وترحيل رأسه أو خلعه، كما حدث في تونس ومصر عبر الوسائل السلمية ودون اللجوء إلى العنف، حتى لا نمكن النظام من تبرير وحشيته أو تسويغ جرائمه، ولابد من دفع الثمن وتسديد الفاتورة التي ستكون ولا شك أقل شراً من اللجوء إلى العنف في الرد على النظام، وهو المتحمس لدفع الناس إلى مواجهته عبر الوسائل الخسيسة التي يتبعها، وفبركته للمسرحيات الممجوجة التي يبثها عبر وسائل إعلامه، أو التهم الجاهزة التي يوجهها للمتظاهرين السلميين، وتذرعه بما يسميه بالمؤامرة الخارجية، واتهام البعض بافتعال الفتنة الطائفية، ولم ينجح في تسويق كل ما يدعيه ويفتعله فالسوريون متنبهون لألاعيبه وكذبه والعالم كله لا يصدقه ولا يصدق دعاويه الباطلة، وفي كل يوم تتكاثر أعداؤه وتتوسع شرائح معارضيه عمودياً وأفقياً، وقد شاهدنا عشرات الألوف يخرجون يوم جمعة الإصرار في مظاهرات عمت مختلف المدن السورية بما فيها العاصمة دمشق وثانية المدن السورية حلب دون أن يتخلف عنها ريف أو بادية، ويتزايد نقده والتنديد بجرائمه من قبل ساسة العالم ومنظمات حقوق الإنسان الدولية.. إنه نظام ولا شك يسوق نفسه إلى نهايته كما فعل نظام بن علي ونظام مبارك حيث يتتبع نفس خطاهم ويفعل ما فعلوه بغباء وسفاهة قد تعجّل في نهايته أو تمد في عمره لأيام، وفي كلتا الحالتين هو إلى نهاية قريبة وبأقل الخسائر إنشاء الله!!