الكرنك.. زوجة رجل مهم.. عمارة يعقوبيان..

علاء حميده

قالت السينما ولم أقل!!

علاء سعد حسن حميده

باحث مصري مقيم بالسعودية

[email protected]

ملف جهاز مباحث أمن الدولة، وهو الذي تم استحداثه بعد يوليو 1952، ليحل محل جهاز البوليس السياسي في العهد الملكي.. هذه الأجهزة المتعاقبة ورغم تغير عهود الحكم، ظلت لها نفس الطابع من الغموض والسرية وممارسة التعذيب.. كلا الجهازين( البوليس السياسي ومباحث أمن الدولة ) هما عبارة عن دولة سرية داخل الدولة، فبما تمارسه من أنشطة وتمتلكه من وثائق، وما تقرر تصعيده أو إخفاءه من وقائع فإنها تتحكم في السياسة العليا للدولة الأم!!

وحديث الثورة المصرية الآن بات منصبا عن إلغاء مباحث أمن الدولة باعتباره حامي حمى النظام السابق بعدما توالى تحقيق معظم المطالب.. ومثل كل قضية عامة تطرح الآن ويراد لها أن تظل تدور في حلقة مفرغة من الرأي والرأي الآخر، وعشرات الأسئلة لماذا ومتى وكيف وأين؟

ربما من أجل المماطلة وربما من أجل تضييع معالم الحقيقة، وربما عن حسن قصد وعدم إلمام بجوانب الموضوع المطروح!! يراد لهذه القضية أن تدور رحاها دون وصول لحل مناسب!!

ولقد أردت في هذه السطور أن أجمع بعض الشهادات عن جهاز مباحث أمن الدولة.. فأنا لن أقول، ولكن سأترك السينما المصرية تقول عن هذا الجهاز في مراحل ثلاث منذ عام 1952 وحتى الآن..

في فيلم الكرنك وهو المأخوذ عن رواية أديب نوبل نجيب محفوظ، تناول ما يحدث في هذه الأجهزة الغامضة التي تدعي حماية النظام من ظاهرة زوار الفجر وإلقاء القبض على المواطنين بغير جريمة، ثم ممارسة التعذيب البشع الذي يصل إلى حد هتك الأعراض، وكل ذلك من أجل حماية النظام القائم وحماية الثورة من أعدائها ، لا يهم في هذا المقام إن كان الكرنك يتناول جهاز مباحث أمن الدولة أو المخابرات العامة فأي كان المسمى الذي انطلقت تحته ما حاكمه الرئيس السادات باسم مراكز القوى  في العهد الناصري فتظل النتيجة واحدة.. ثم جاء فيلم زوجة رجل مهم ليروي قصة ضابط مباحث أمن الدولة الذي أشرف على تعذيب المتهمين في انتفاضة 18-19 يناير 1977 في عهد الرئيس السادات.. وقصة إحالته للتقاعد بعدما ظن انه يحمي الوطن بتعذيب الطلاب الشرفاء.. وفي روايته عمارة يعقوبيان – التي تحولت إلى فيلم سينمائي ومسلسل تلفزيوني – يقترب الدكتور علاء الأسواني كثيرا مما يجري في أقسام مباحث أمن الدولة وهو يقدم صورة للتلذذ بعبارات الشذوذ التي تتردد على ألسنة الضباط، وعمليات انتهاك الأعراض للمحتجزين!!

وذلك في العهد المباركي..

بينما يقدم فيلم اللعب مع الكبار صورة مغايرة إلى حد ما عما يجري في مباحث أمن الدولة، حيث قدم صورة متوازنة بين سياستين لاثنين من الضباط أحدهما لا يؤمن بالتعذيب وسيلة لانتزاع الاعترافات، وإن أبقى على الصورة النمطية المعروفة عن هذه الأقسام وما يمارس فيها من عمليات تعذيب بشعة لإجبار المتهمين على اعترافات بأعمال ربما لم يسمعوا بها من قبل!!

هذه الصورة الفنية الروائية التي تم تقديمها عبر كثير من النماذج، والتي لم تقتصر على هذه الأعمال بل عبرت عنها وربما بصراحة وإلحاح أكثر أفلام من أمثال ( احنا بتوع الأتوبيس ) و( البريء ) وغيرهما.. لا يمكن أن تأتي من فراغ، ولا يمكن اتهام من قدمها للسينما بالتطرف أو معاداة النظام!!

لتظل شاهدة ولو على استحياء على الجرائم التي تدور داخل هذه الأقسام..

ولذا وحيث كنت أحد شهود العيان على ما يجري في أحد أقسام مباحث أمن الدولة وعلى أيدي بعض من يتبوءون مراكز القيادة فيه الآن وقد كان ذلك قبل ما يقارب ربع قرن من الزمان، فإنني آثرت أن أقدم شهادة السينما لا شهادتي.. ولكني مع ذلك أدعو آلاف المواطنين الذين تعرضوا لجرائم التعذيب بداية من التهديد اللفظي إلى الاعتداء الفعلي داخل هذه الأقسام أن يتقدموا بشهاداتهم الصريحة حتى يتم محاكمة هؤلاء المسؤولين عن تلك الجرائم..

لا يعنيني شخصيا حل جهاز أمن الدولة أو الإبقاء عليه، أو تحويله لجهاز للمعلومات، لأنه حتى ولو تغير المسمى فسيتم إن عاجلا أو آجلا إنشاء جهاز آخر يحمي أي نظام حكم قائم، ولا اعتراض شخصي لي على أي جهاز يقوم بأي وظيفة مشروعة، ولكن الاعتراض كل الاعتراض والحذر كل الحذر من جهاز يقوم بانتهاك حقوق الإنسان، وترويع المواطنين بحجة أمن الوطن!!

ولضمان عدم عودة هذه الممارسات لابد من محاكمة هؤلاء الذين قاموا بتلك الجرائم، ويشهد الله تعالى أن هذا ليس ثأرا للنفس ولا حتى لمئات الذين قضوا نحبهم تحت سياط التعذيب، ولا الذين انتهكت أعراضهم، ولا الذين علقوا من أياديهم حتى شلت أعصاب الذراع، ولا الذين انتهكت حرمات نسائهم أمام ناظريهم ، وإنما من أجل المستقبل فقط، من أجل أن يكون منتهكي حقوق الإنسان عبرة لمن يأتي خلفهم ويعمل بأي جهاز كان، أنه لا يجرؤ على ممارسة انتهاك حقوق المواطنين، لأن الله تعالى سيفضح ستره ولو بعد حين..

لا يهمني شخصيا أن يسجن هؤلاء أو يلاقوا أهوال الانتقام، لكن على الأقل أن يعزلوا من مناصبهم ويجردوا من ألقابهم التي حازوا عليها من دماء الشعب المسكين..

على أن الثأر من الظلمة ليس عيبا في حد ذاته نتطهر منه وفي الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم:( ولا تجعل ثأرنا إلا على من ظلمنا).. ولكني مع الحبيب صلى الله عليه وسلم امضي للسماحة وكرم الأخلاق.. فنقول لهم يا من عذبتم الشعب وسجنتم الوطن اذهبوا فأنتم الطلقاء بشرط ألا تشرفون على مراحل أخرى من مراحل الوطن، لا نريد ثأرا ولا انتقاما، فنحن ماض وخبر كان، ولكن من أجل الأجيال القادمة ومن أجل المستقبل الذي لن نسمح لكم بأن تصادروا فيه حق أبنائنا في تنفس أنفاس الحرية المسؤولة.

من أجل هذا المستقبل أدعو كل من تعرض لإهانة في مبنى مباحث أمن الدولة أن يتقدم بشهادته لا لينتقم لنفسه ولكن ليحي مستقبل وطن.. فإن أعيته سبل تقديم الشهادة أمام الجهات المختصة، فلنمارس ذلك أمام الإعلام ودور الإعلام بعد ذلك هو تقديم ملف هذه الشهادات إلى الجهات المسؤولة..

{ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }البقرة283