الخروج من عنق الزجاجة

د.عبد الغني حمدو

د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري

[email protected]

[email protected]

ثورة الغضب السوري ويوم الغضب والثورة السورية  , وشعارات لمجموعات تصب كلها منطلقة من الزجاجة الوهمية المحيطة بالشعب السوري في أن عنق الزجاجة لاتسع لخروجه منها , بينما يرى أشقاؤه أنهم لم ينتظروا الخروج من العنق وإنما عندما هموا بالخروج وجدوها هشة ضعيفة تحطمت بكلمات نطقها الأخوة في تونس ومصر وتناثرت في التراب وأصبحت رماداً , وكذلك فعل الأخوة الليبيون

تصرف القذافي وتحويل الشعب لعدو حقيقي ومحاولة إبادته يقودنا لمفهوم فلسفي أخلاقي من أن  محاسبة الضمير عند الإنسان تكون شديدة جداً , وعذاب الضمير يكون على أشده في القاتل أو المجرم بعد ارتكاب جريمته , فالمجرم يسعى لإخفاء أدلة الجريمة لا خوفا من القانون فحسب وإنما خوفاً من افتضاح أمر إجرامه أمام الناس , حتى لا يسقط في نظرهم المعروف عندهم بالطيبة وحسن الخلق والصفات الحميدة للبشر

فكثير من الحكام قديما وحديثا لم يكونوا استبداديين ولا ظالمين ولا قتلة , في بداية حياتهم , ولكن عندما يجد الطريق أمامه ممهداً واستغلال مواهبه وتحقيق طموحاته , يجد نفسه مضطراً للتخلص من أقرب الناس إليه  , ليكتسب صفات بيئية جديدة قد لا تكون في طبيعته الوراثية , وإنما اكتسبها من المحيط الاجتماعي الجديد الذي صنعه وجوده لتحقيق أهدافه وطموحاته

وهنا لابد له من إظهار الأمر أمام الناس أنه هو الضحية والمقتول هو المجرم , ولكنه يعي حقيقته في داخله أنه هو مجرم وقاتل وظالم , فيبدأ الخوف عنده من افتضاح أمره أمام الناس وظهوره على غير الصورة المعهودة , تزداد شكوكه ووساوسه , والخوف في داخله وعذاب ضميره يوجهه عقله لطمس أي دليل  مهما كان بعيد الاحتمال أو استحالة وقوعه , فتتراكم جرائمه ويزداد فساده , ولا يثق بأحد , ولكي يبعد عنه الشكوك يستعين فقط بفاسدين ومجرمين ومنافقين ومداهنين متلائماً ذلك مع ما يرى فيه نفسه في أنه مجرم , ولكن طمس الحقائق والأدلة وكثرة الفاسدين حوله , يعينه ذلك على التخفيف من عذاب الضمير , في توجه أنظار الناس للطبقة أو الحاشية التي حوله وليس له هو بالذات

عذاب الضمير ومحاسبة النفس لهذا الحاكم , تصبح على أشدها عندما يشعر بأن حكمه مهدد بالانهيار , فيلجأ إلى البطش والقتل والدمار وسفك الدماء بدون حساب

وأشد الحكام المستبدين إجراما هم الذين وصلوا عن طريق الثورة , وهذه الحالة تجعل من قائد الثورة مجرما لتحقيق حلمه , فيكون تشبثه بالحكم لدرجة الموت ولا يتخلى عنه أبداً إلا بالقتل أو الانتحار عندما يجد نفسه في موقف المنهزم حتما

فحاكم تونس ومصر لم يثبتا طويلا , فالحكم جاءهم على طبق من ذهب وتمسكوا فيه , بينما تمسك القذافي في الحكم , والدمار الذي يسعى إليه قد ينطبق على هذا المفهوم , كما فعل حافظ الأسد في سورية عندما شعر بأن حكمه مهددا فارتكب أبشع أنواع الجرائم بحق الشعب السوري

أما الرئيس الحالي ابنه بشار فقد استلم الحكم بدون مقابل وجيء فيه وقيل له هذا مكانك وأنت حاكم هذا البلد , لذلك لم يغير هذا الحاكم شيئاً وترك أبوه يحكم وهو في قبره

شعوري هنا يقودني إلى أن الخروج من حكم الأب والمستمر منذ أربعين سنة , لن يكون صعباً كما يتصوره البعض , والثورة الشعبية في سورية ستكون خضراء وبدون دماء

وأن بشار الأسد لن يغامر في أن يضيع نفسه أنه سيكون مجرم حرب تلاحقه المحاكم الدولية والمحاكم السورية , فعندما يجد انتفاضة الشعب السوري أمامه شاخصة أمام عينيه , لن يخسر ذاته وشخصه في مقابل التشبث بالحكم والسعي للإجرام بحق الشعب السوري , وهو الذي يعتقد بداخله أن هذا الشعب يحبه , عندما يكتشف الحقيقة عكس ذلك , ولكي لا يسقط أمام نفسه وأمام الحب الذي يراه معه من قبل الشعب السوري , فسوف يجد نفسه مضطراً للتخلي عن منصبه في مقابل احترام نفسه لذاته ولكي يبقى في نظر السوريين أنه هو لم يكن مجرما في يوم من الأيام.