لا تحيروا التاريخ معكم

علاء حميده

علاء سعد حسن حميده

باحث مصري مقيم بالسعودية

[email protected]

في مسرحية بكالوريوس في حكم الشعوب  أو ( شقلبة ) للكاتب المسرحي علي سالم، وجه قائد الثورة أو الانقلاب حديثه لأحد رفاقه في الفرقة الدراسية بكلية الحربية ، وكان هذا الرفيق مترددا أو بالأحرى مواليا للثورة المضادة، فقال له طارق الريس قائد الانقلاب:

-       قف في الصف جنب اخواتك..

ظل الرفيق مترددا فصاح فيه طارق الريس:

- قف في الصف جنب اخواتك ما تحيرش التاريخ.. كنت معاهم، ولا مش معاهم؟!!

والحقيقة أن هذا ( الافيه )  يجب أن يكون الأبرز في مراقبة توابع الثورة المصرية.. فكثيرون إن لم يكن غالبية ما يسميهم المتنفذون في الإعلام والصحافة بالنخب، أغلب هذه النخب ينطبق عليهم هذا الإفيه، ولقد أرادوا أن يحيروا التاريخ معهم.. فالثورة المصرية لم تكن وليدة لحظة ولا صدفة، وإنما ظلت تتشكل في رحم الحوادث والزمن، ويمكننا أن نقسم مراحل الثورة للتبسيط إلى ثلاث مراحل أساسية.. المرحلة الأولى مرحلة الجنين أو التشكل داخل رحم المجتمع الذي ظل يعاني اضطهادا وظلما وتهميشا ونهبا لثرواته وكبتا لحرياته وجثوما على أنفاسه..

والمرحلة الثانية هي مرحلة المخاض والتي شهدت وقائع وفاعليات الثورة نفسها منذ انطلاقها في الخامس والعشرين من يناير إلى يوم الحادي عشر من فبراير..

والمرحلة الثالثة هي مرحلة النصر أو نجاح الثورة، وهي المرحلة التي بدأت منذ الساعة السادسة يوم الحادي عشر من فبراير، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه نجاح أولي وانتصار مبدئي تم خلاله حسم الجولة الأولى أو تحقيق المطلب الأول والأبرز من مطالب الشعب، وكلنا ثقة في استمرار الثورة لتحقيق كافة مطالب الشعب المشروعة والتي تتلخص في إسقاط النظام بكامله رأسه وذيوله ووسطه وظهره وأوله وآخر..

عندما كانت الثورة المصرية تتشكل في رحم مصر، كان المئات من الذين ابتلي بهم الواقع المصري ممن يطلق عليهم تجاوزا اصطلاح النخب، وهم كل من وضع أمامه مايك وتابعته كاميرات الميديا أو سمح له بنشر ما يسجله قلمه المرصع بالذهب.. هؤلاء الذين طالما هللوا لكل ما كان قائما في مصر قبل الثورة، والذين لم يهللوا ولكنهم صمتوا رغم امتلاك أدوات البوح ( قلم ومايك وكاميرا ومساحات في الصحف وساعات على الفضائيات) هؤلاء الذين شكلوا حاشية الظالم والمتحدثين باسمه في أبواق كثيرة متعددة، أو صمتوا على نهب منظم لدولة من أعرق دول العالم إن لم تكن الأعرق عبر التاريخ، نهبا بشعا وصل إلى أن ما تم توزيعه من أراضيها على المحاسيب بلغت مساحته ما يساوي مساحة خمسة دول عربية مجتمعة!!

هؤلاء الذين هللوا أو صمتوا والثورة تتشكل في رحم الوطن، هم أنفسهم الذين هاجموا الثورة عند ظهور إرهاصاتها الأولى في مرحلة المخاض، وسخروا من شباب الفيس بوك واعتبروهم من نوعية ( رامي الاعتصامي )، ثم ظل أكثرهم يرددون الأكاذيب عن العمالة والأجندات الخارجية، ووجبات الطعام وغيرها من الأكاذيب الممجوجة، والتحريض عليهم، وعندما بدأ النظام يترنح ويتهاوي ويقدم التنازل تلو الآخر بنظام ( التنقيط )، أخذوا يفتّون في عضد الثوار، مبشرين مهللين بأن مطالبهم قد استجيبت وعليهم أن ينفضوا عن الثورة وينفضوا غبارها عنهم!!

لكن المولى عز وجل أراد أن يعلمنا أن للمسرحية فصل ثالث.. مرحلة تنتصر فيها الثورة وتنجح وتحقق مطلبها الأول والأهم، وهنا يلتف السادة الأفاضل من النخبة المثقفة ( بفتح القاف ) والمثقفة ( بكسر القاف ).. يلتفون حول الثورة وشبابها وشهدائها ويتغنون بإنجازها، دون أن تحمر في وجوههم دماء لخجل أو حياء، وصدق من قال: إن لم تستحِ فافعل ما شئت..

بل ويتحولون بقدرة قادر إلى نجوم هذه الثورة ينظّرون لها ويدعون أنهم حكمائها بنفس أقلامهم المذهبة ومايكات وكاميرات الميديا التي أسالت بحورهم منغمة من رضا نفس النظام السابق المغضوب عليه منا دائما، ومنهم حديثا فقط..

هؤلاء النخب الذين قبّلوا الأرض تحت أقدام زعيمهم ليلة الجمعة التي يفوض فيها صلاحياته المنتهية أصلا لنائبه الوهمي، هؤلاء أنفسهم الذين أمسوا في نفس يوم الجمعة يتغنون برحيل النظام وتنحي نفس الرئيس!

سبحان مغير الأحوال .. سبحان من يبدل ولا يتبدل!!

وكم هو مذهل هذا التلون الذي يضاهي بعض النباتات والزواحف للتكيف مع البيئة المحيطة!!

ولسان حالهم يقول:( إذا بقى النظام نديها وش نظام.. وإذا نجحت الثورة نديها وش ثورية، وإذا جاء الإخوان، نديها وش دين!! )

والحق أقول مبرئا نفسي من الحكم على ما في صدور القوم، ومبرئا إياهم من تهمة النفاق الخالص أن هذه النخب التي تعتذر اليوم وتركب حقا وصدقا وقولا وفعلا مركب الثورة الناجحة المظفرة.. يمكن تصنيفهم إلى أصناف ثلاث..

الصنف الأول: النفاق الصريح، وهذا ندعه بينهم وبين خالقهم هو أعلم بالسر وأخفى، ونعوذ بالله تعالى أن نكون أو يكونوا من هؤلاء المنافقين الذين توعدهم المولى عز وجل بالعذاب في الدرك الأسفل من النار..

الصنف الثاني: كما يقولون أنهم كانوا لا يعلمون.. وهذا عذر مدهش، فإن كانوا لا يعلمون بما يفعله النظام من بدائع النهب المنظم والتدمير الممنهج لمستقبل وطن، فهل لم يكونوا يعيشون داخل هذا المجتمع الذين يعبرون عنه، ويتصدرون للتوجيه والتأثير على الرأي العام فيه؟ هل كانوا لا يدرون عن معاناة شعب بكامله يئن تحت وطأة فساد لم يسبق له مثيل؟!

فإن كانوا حقا لا يعلمون، فهل يستحق من لا يعلم وصف النخبة والتأثير أم أنهم كانوا رويبضة العصر؟ والرويبضة هو الجاهل الذي يتكلم في شأن العامة!!

وكيف لمن لم يكن من تراب ونسيج هذا الشعب أن يتحدث عنهم أو إليهم؟!

 الصنف الثالث: الذين كانوا يعرفون ويصمتون، بحجة أنهم كانوا لا يستطيعون الحديث، وأن الصمت كان مفروضا عليهم.. الساكت عن الحق شيطان أخرس، كان في وسعهم أن يستقيلوا أو يتوقفوا عن تصدر مجالس الناس والحديث عنهم وإليهم.. أم أنهم كانوا يحمون مصالحهم الخاصة؟ فإذا كانت مصالحهم ومكتسباتهم ورغد عيشهم أولى من هموم الوطن والمواطنين، فهنيئا لهم ما استحلوه سابقا من دماء هذا الشعب المنهوب.. وعليهم الآن أن يتواروا تاركين المجال لنخب حقيقية تعبر عن طلائع هذا الشعب العظيم..

تصفية حسابات أم منطق العدل والإنصاف والموضوعية ؟

ستأتيني ردود كثيرة متسامحة تعبر عن طيبة وأصالة هذا الشعب العملاق في طيبته وسماحته، وستهتف: عفا الله عما سلف.. والضرب في الميت حرام، وارحموا عزيز قوم ذل.. وأقول لأصحاب هذه النغمة.. أولا أنا أحبكم في الله.. أحب طيبتكم وسماحتكم وكرم أخلاقكم.. لكن..

هل يستوي الذين كافحوا قبل الثورة ونددوا بالظلم والظالمين، ولمّحوا أو صرحوا أو حذروا، من حملة الأقلام النظيفة والبرامج الشريفة من أمثال ( منى الشاذلي ودينا عبد الرحمن ومحمود سعد وعمرو الليثي ووائل الابراشي وبلال فضل وخالد يوسف ونادر السيد وهادي خشبة وأحمد منصور وأحمد عيد وعمرو خالد وصفوت حجازي.. وغيرهم كثير ) مع ( عمرو أديب – معتز الدمرداش – مكرم محمد أحمد – أسامه سرايا  – تامر أمين – كرم جبر – عبد الله كمال -ومذيعي المحور ومرتضى منصور وحسام وإبراهيم حسن وعمرو زكي وشوقي غريب وغيرهم العديد والعديد والعديد ) هل هذا هو منطق العدل والإنصاف؟ بل هل من منطق الرحمة أن تتساوى أوجاع أمهات كن يبكين خوفا وهلعا على أبنائهم وقود الثورة مع الذين سالت بحورهم منغمة من بسمة نظام فاسد مفسد؟

لا شماتة ولا تشفي، ولا حتى تصفية حسابات، ولكن الحق أحق أن يتبع.. بمنطق السياسة إن الذين مارسوا التظليل والتزييف وقلب الحقائق، شاركوا فعليا في جرائم النظام، فلا سياسة بلا إعلام واقتصاد.. وهذا الإعلام وهؤلاء النخب هم الذين سمموا حياة المجتمع من جهة، وهم الذين هيئوا البيئة اللوجستية لبطش النظام وفساده وجرائمه.. فكيف نحاكم من نهب المال، ونترك من نهب العقول؟

وكيف نحاكم القاتل، ونترك من هلل له وزين جرائمه وأدان المقتول؟

وبمنطق الدين يحكم القرآن الكريم بقوله تعالى:{ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ }القصص8 .. والنبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في السماحة والتسامح الذي قال يوم فتح مكة أعظم قولة لفاتح منتصر عبر التاريخ: اذهبوا فانتم الطلقاء .. هو نفسه صلى الله عليه وسلم وفي نفس اليوم الذي أهدر دماء بعضهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة.. من هؤلاء الذين أهدر دمهم (كعب بن زهير: كان شاعرا وكان يهجو النبي بشعره، وكان يعير أخاه بجيرا لإسلامه فأهدر دمه و قينتان كانت عند عبد الله بن خطل تغنيان بهجاء النبي والمسلمين.) فهذه هي فطنة النبي صلى الله عليه وسلم وتقديره لخطورة الإعلام والفن، فعلينا أن نقتدي برسولنا في سماحته وفطنته ورحمته وحزمه على السواء..

المطلوب منهم ومنا..

سأتماشى مع سماحة وطيبة شعبي الكريم الذي أنا نبتة منه، ولن أطلب محاكمتهم على تلك الجرائم التي أقلها أنهم كانوا لا يعلمون، فتصدر الجاهل مجالس الناس ووسائل إعلامهم، وقديما قالوا: إن كنت لا تعلم فتلك مصيبة.. لن أطالب بمحاكمتهم ولكن عليهم أن يتواروا، ليس بالضرورة خجلا وحياءً، ولكن ليأخذوا فرصة لمراجعة أنفسهم، ويبتعدوا قليلا عن المسرح حتى تنسى الجماهير آخر أدوارهم التي لعبوها قبيل 25 يناير، وعليهم إن كانوا يريدون قليلا من مصداقية أن يعلنوا استفتاء حقيقي عبر صفحاتهم على الفيس بوك عن مدى قبولهم لدى الشباب ليقرروا بعد ذلك ما يفعلون، وأما المطلوب منا نحن ألا نسمع ولا نقرأ لهم بعد اليوم ، يجب أن نهمشهم كما همشوا هذا الشعب وليس هذا انتقاما ولا تشفي ولكن تطهيرا للوطن والمجتمع من أدرانه، وحماية للثورة من طائفة المنافقين والمرتزقة والصامتين، والجاهلين، لأن هؤلاء إذا ركبوا موجة الثورة ما زادوها إلا خبالا ولأوضعوا خلالها، فنخشى على ثورتنا من مديح كاذب أو نفاق مبهرج يقودنا إلى العمى عن الواقع والحقائق.. أرجوكم يا من سممتم عالمنا وثقافتنا وإعلامنا.. أعلنوها صريحة أنكم لم تكونوا يوما مع الثورة ولا تحيروا التاريخ معكم..