ملحمة عنوانها.. الشعب يريد إسقاط النظام

نبيل شبيب

نبيل شبيب

دروس مفصل تاريخي في صناعة مستقبل الأمة.. من تونس ومصر إلى الدول الشقيقة

نعايش في أيام معدودات مفصلا من مفاصل سجل التاريخ في المنطقة العربية والإسلامية، ستقرأ عنه الأجيال المقبلة شبيه ما نقرؤه في سجل التاريخ عن أحداث كبرى في حقب ماضية، وربما يقتصر ذلك على صفحات أو حتى عبارات معدودة: استغرقت ثورة شعب تونس ثلاثة أسابيع واستغرقت ثورة شعب مصر أقل أو أكثر، وتبدّلت أوضاع المنطقة العربية والإسلامية من بعدهما، فلم يبق شيء منها مثل ما كان قبلهما. 

إنّنا نعايش بأنفسنا يوما بيوم وساعة بساعة ما يعنيه مثل هذه العبارات التأريخية الموجزة عادةً على أرض الواقع، من طاقات متفجرة، وأحداث متوالية، ورموز استبدادية تتهاوى، وقيادات شعبية تولد، واستشراف لقادم الأيام، وتضحيات غالية تصنع المستقبل، وعزائم شعبية مذهلة، وإبداعات ثوروية غير مسبوقة.. فأصبحنا شهودا على "تفاصيل حدث تاريخي مفصلي"، وهو ممّا يستدعي أن نستوعب "الآن" دروس الثورات الشعبية، وما تلقيه من أعباء جسام ومهامّ عظام على جيلنا.. والأجيال التالية من بعدنا. 

صمود الغضب

هو مشهد ليس ككلّ المشاهد، وصورة لا يمكن أن يرقى إلى وصف ألوانها قلم كاتب أو شاعر، من مشاهد يومٍ أطلق عليه عنوان "جمعة الغضب".. خرجت فيه جموع أهل مصر لتعلن إلى غير رجعة ثورتها على نظام حكم جائر متسلّط، فاعتُبر تحرّك الشعب تحرّك شباب غاضب، تداعى إلى مسيرة احتجاجية قبل أيام فإذا بها تصنع ثورة خلال بضعة أيام.

من تابع ذلك الشباب "الغاضب"، من أمثال الطالبة الجامعية أسماء محفوظ، وما كان يقول ويصنع قبل اندلاع الثورة، وما مضى يقول ويصنع أثناء الثورة، يدرك سريعا، أنّ لديه ممّا يوصف بحكمة الشيوخ، ما نودّ لو تمتع به كثير من جيلنا الموشك على الرحيل، ولديه من حياة الوجدان وقوة العزيمة، ومن إباء النفس وصلابة التصميم، ومن العزّة والوعي، ما يجعل وصفه بالشباب الغاضب يثير التمنّي لو أنّنا جميعا نغضب لِما يغضب له، ونغضب كما يغضب، ونصنع مثل ما يصنعه ذلك الغضب!..

تداعى الشبيبة.. وخرج أربعة فقط من بينهم أسماء محفوظ إلى ساحة التحرير، قبل أيام من "يوم الغضب" الذي سبق أن أعلنوا عنه موافقا ليوم "عيد الشرطة"، وناورت "الشرطة" المتظاهرين الأربعة وتفرّقوا، ثم خرجوا حسب موعدهم مع التاريخ، في يوم الغضب الأول، الثلاثاء 25/1/2011م، فانضمّ إليهم ألوف مؤلفة من أبناء الشعب، وتحوّلت مناورات الشرطة إلى "حرب" تخوضها "الدولة" ضدّ جيل الشبيبة.

استخدمت أجهزة القمع ما استطاعت استخدامه لكسر إرادة "الغاضبين"، ما بين يومي الثلاثاء والجمعة، فتعاظم التحدّي، وأعلن "الثائرون" عن "جمعة الغضب" يوما للمواجهة بين طلاّب العدالة والظالمين، وكان ممّا سجّله التاريخ على أيديهم يومذاك ذلك المشهد الجدير بحد ذاته أن يصنع مفصلا تاريخيا بين عهد وعهد، مشهد الجموع الشعبية الثائرة من مختلف الأعمار والفئات، ماضية على الجسور فوق مياه النيل في قلب القاهرة نحو ميدان التحرير، فشهدت الجسور معركة لا يتخيّل عاقل أن تحدث على ذلك النحو بين "الشعب" و"السلطة. 

يشهد تسجيل مصوّر لواحد من تلك الجسور كيف كانت تتقدّم على أحد جانبيه صدور الثائرين، وعلى الجانب الآخر مصفحات "القامعين"..

هؤلاء مدجّجون بعزيمتهم على صناعة التغيير وأولئك مدجّجون بالمصفحات وخراطيم المياه والقنابل الغازية والرصاص المطاطي والرصاص الحي، وبهمجية الاستبداد الوحشي..

يتقدّم هؤلاء وهؤلاء، ويتلاقون في منتصف الجسر، وتدخل السيارات المصفحة في قلب الجموع، فتدهس من تدهس، ثمّ ترتدّ مخزيّة أمام صمود الصامدين..

تنطلق تيارات الماء على الجموع فترتدّ الخراطيم والسيارات التي تحملها أمام صلابة الأجساد الحية..

تُقذف القنابل الغازية فتتلقّاها "الأهداف البشرية" وتلقي بها في مياه النيل الغاضب..

يتساقط الشهداء والجرحى، وتتكرّر الجولة بعد الجولة، وتشتدّ همجية المهاجمين على الصامدين، فيقف جمعٌ منهم في المقدمة يصلّون، يركعون ويسجدون ويكبّرون.. فلا يزحزهم عن تراب مصر توحّش ذلك الاستبداد المتسلّط على مصر وشعبها، وحملاتُ قمعه ضدّهم، التي تبرأ منها مصر، ويبرأ منها العرب والمسلمون.. وتتراجع الوحشية في نهاية المطاف أمام بطولة إنسانية الإنسان، وتمضي الجموع الشعبية الحاشدة على الجسر وتقطعه إلى الجانب الآخر.

ليس هذا صمود الغضب بل صمود الإرادة، وليست هذه غضبة شباب طائش بل ثورة شعب حر عزيز كريم، صبر طويلا فانفجر صبره عزيمة لا تُقهر، وإصرارا لا يتزعزع، وانتصارا مؤزرا لا يمكن أن تسرقه قوى استبدادية دولية ولا محلية، ومنذ تلك الساعة التي شهدناها وشهدت عليها جسور نهر النيل، لم يعد يوجد سوى هدف واحد مشترك يهدر به الشعب في كل مكان: الشعب يريد إسقاط النظام. 

هشاشة الطواغيت

في مصر.. كان لأحمد شوقي قصيدة عصماء مطوّلة يؤرّخ فيها لمصر وحقبه المديدة، ويخاطب كل نظام استبدادي على آثار فرعون وملئه فيقول ناصحا.. ولسان حاله يعبّر عن عدم جدوى النصيحة في آذان الطواغيت:

إن ملكتَ النفوس فابغِ رضاها.... فلها ثورةٌ، وفيها مضاء

يسكن الوحش للوثوب من الأسْـــ....ــــــر، فكيف الخلائق العقلاء

يحسب الظالمون أن سيسودو....ن، وأن لن يُؤَيَّد الضعفاء

والليالي جوارٌ مثلما جا....روا، وللدهر مثلهم أهواء

كم ذا يبلغ غرور الاستبداد بنفسه إلى درجة يصبح معها -على حد تعبير العالم الجليل الشيخ القرضاوي- أعمى لا يبصر، أصمّ لا يسمع، غبيّا لا يفهم!..

لهذا تقترب نهايته، وتصبح قاب قوسين أو أدنى، ويراها الناس من أقصى الأرض إلى أقصاها.. إلاّ هو، يأبى السقوط إلا بعد أن يجثو على ركبتيه راغما!..

ليس المستغرب أن يسقط الطاغوت التونسي الصغير خلال بضعة أسابيع، وأن يترنّح الطاغوت المصري الأكبر منه مقاما وحجما خلال أيام، إنّما المستغرب هو أن ينتشر التصوّر عن الطواغيت الصغار والكبار أنّهم أقوياء، ثابتون، مستقرون، بدلا من إدراك حقيقة تاريخية بسيطة: 

الشعب هو الأقوى من الطاغوت دوما.. بما لا يقاس، ولا يؤخّر سقوطَ الطاغوت إلا شيء واحد: تأخّر الشعب عن التحرّك، فإن تحرّك –وهو ما يوصف بكسر حاجز الخوف- تهاوت قلعة لا قواعد لها، واجتُث حصن لا قرار يستند إليه، ووجدنا أنفسنا نردّد مع أبي القاسم الشابي:

إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلا بدّ أن يستجيب القدر

ولا بد لليل أن ينجلي.. ولا بدّ للقيد أن ينكسر

الطاغوت فرد ضعيف.. وحوله حاشية من المنتفعين الضعفاء.. وسلاحه إرهاب وتضليل وبطش وفساد، وليس بقاؤه رهنا بشيء إلا بأن يجد مَن يخشى من إرهابه ويتيه في تضليله ويصبر أطول ممّا ينبغي على المعاناة من فساده..

في اللحظة الأولى لإدراك الشعب أنّ هذه الخشية عبثية تضرّ ولا تفيد، وأنّ التضليل لا يفعل مفعوله إلاّ بقدر التجاوب معه، وأنّ المعاناة تزيد ولا تتقلّص إلى أن يضعَ من يعاني بنفسه حدّا نهائيا لها.. في تلك اللحظة تنكشف عورة الطاغوت، وتظهر عظامه الهشّة الفانية، وتتهاوى جميع الصروح التي أحاط نفسه بها.. فإذا هي سراب، ويصل إلى أذنيه ما لا يطيق سماعه من هدير: الشعب يريد إسقاط النظام.

كم ذا تردّد يوما بعد يوم بعد يوم هديرُ مئات الألوف من أهل مصر في ميدان التحرير وسط القاهرة، والملايين في كل مكان من العاصمة والمدن المصرية الأخرى، بصوت واحد، ليصبح أشدّ تعبيرا وقوّة ومفعولا من ألف استفتاء واستفتاء: الشعب يريد إسقاط النظام، وترنّح النظام، ولم يكن ترنّحه كافيا، فعاد الهدير بعزيمة وإصرار: الشعب يريد إسقاط النظام، وتكرّرت محاولات ما أسموه التهدئة، والنقلة الدستورية، والظروف الخاصة للعلاقات بالقوى الدولية، وعاد الهدير ليتكرّر بقوة وصلابة: الشعب يريد إسقاط النظام.

لم تنقطع المناورات بعد سقوط قوة البطش عاجزة أمام الصمود.. وفي هذه اللحظات أثناء كتابة هذه السطور، تبدو معالم محاولة جديدة للالتفاف على ثورة الشبيبة، إذ تدعو قناة تلفازية مصرية أسماء محفوظ إلى حوار على الهواء، ما كانت لتحظى به طوال عملها ناشطة من بين "شبيبة 6 أبريل" منذ أكثر من عامين.. فيُفسح لها المجال أن "تروي" كيف مضت على طريقها من قبل حتى اندلعت الثورة، ثمّ يظهر القصد من الدعوة، إذ يُعرض عليها حوار على الهواء، يشارك فيه عشرة من قيادات الشبيبة يختارونهم بأنفسهم، مع "المسؤولين" من الوزراء ورئيسهم الذين عيّنتهم مناورة استبدادية أخرى.. وليطرح الشباب في الحوار مطالبهم علنا، دون مشاركة أحد من قيادات المعارضة التقليدية وأحزابها وجماعاتها!..

كأنّ المطلوب هنا هو الفصل ما بين الشبيبة الثائرة وأصحاب خبرة سياسية وتنظيمية، توهّما بالقدرة آنذاك على الالتفاف على مطالب الشبيبة عند الانفراد بهم.. وهو ما يمثل درجة بعيدة من استمرارية جهل الاستبداد بمستوى الوعي لدى شبيبة شعب مصر الثائر على الاستبداد..

ثم يظهر للعيان القصد الأهم من المناورة "الحوارية": أن تتبنّى أسماء محفوظ دعوة أقرانها إلى الانتظار إلى ما بعد ذلك الحوار وتسجيل نتائجه، قبل أن تنطلق "التظاهرات المليونية" التي سبق أن دعا "الشبيبة الغاضبون" إليها وحدّدوا موعدها في اليوم التالي، يوم الأول من شباط/ فبراير 2011م!..

كأنّ بقايا المسؤولين من نظام منهار قد انتابهم قدر كبير من الرعب، إذ أدركوا أنّ شعب مصر سيستجيب عن بكرة أبيه، وسينطلق هديره: الشعب يريد غيقاط النظام، فيجعل من بقائهم في مواقعهم وهم يراوغون دون جدوى، مسألة ساعات معدودات وليس مسألة أيام!..

وتقول أسماء محفوظ المخلصة لشعبها وأرضها وأمتها، الواعية بموقعها وما وصل إليه مجرى الحدث التاريخي الكبير.. تقول إنّها لا يمكن أن تقرّر باسم سواها، وستعود إلى ميدان التحرير فتعرض على الثوار فيه ما يقال لها عبر إحدى قنوات الإعلام غير الرسمية.. وظاهر لمن يعرفها أنّها أدركت على الفور أنّ عرض الحوار من جانب الاستبداد، مجرّد محاولة لامتصاص الثورة عبر كيل وعودٍ جديدة، تضاف إلى ما لا يحصى من الوعود عبر عقود وعقود مضت من عمر الاستبداد في السلطة.. وقد بات مترنّحا لا يدري ما يمكن أن يفعل بذلك الهدير الشعبي المتواصل: الشعب يريد إسقاط النظام. 

كلام فارغ

مع كل حرف من حروف تلك العبارة المدوية، ومع كل مرة يتكرر الهدير فيها على امتداد الزمان والمكان، كانت تعود إلى مخيلة كاتب هذه السطور صورةُ وزير يؤكّد استمرار وجوده في تشكيلة وزارية استبدادية جديدة مدى ما وصل الاستبداد إليه من التخبّط والعجز.. بل لم يكن ذلك الوزير في يوم من الأيام سياسيا بمعنى الكلمة، وما أساء أحد قبله مثل إساءته إلى الشؤون السياسية الخارجية لمصر وللعرب والمسلمين.. كانت تلك الصورة العابرة جزءا من مشهد جانبي أعقب سقوط حاكم مستبد آخر في الدولة التونسية الشقيقة، إذ سئل الوزير أبو الغيط عن إمكانية أن تنتقل شرارة ثورة الشعب إلى مصر فكان جوابه: "كلام فارغ"!..

لم يكن هدير الثورة في مصر قد انطلق في ميدان التحرير في قلب القاهرة بعد.. فلم تكن تلك الكلمة مجرّد محاولة للتغطية على المخاوف الذاتية، ولا كانت مراوغة لتجنّب إجابة السؤال المحرج فحسب، إنّما كانت تمثل تحديا استبداديا صادرا عن أحد بيادقة النظام الاستبدادي المتعجرف موجّها إلى شعب مصر، إلى كرامته، استهانةً واستخفافا، وتكبّرا وتجبّرا.. فكانت أشبه بتلك الصفعة المهووسة الصادرة عن شرطيّة مهووسة بجبروت سيّدها، جرحت بها كرامة محمد البوعزيزي في تونس، فأشعلت بجسده شرارة الثورة الأولى من مسلسل ثورات تحرير المنطقة، بعد أن تراكمت جميع أسباب الثورة في كل مكان!.. 

وكما ردّ شعب تونس على الاستهانة الرعناء بأحد أفراد شعب تونس، لم يمض سوى أيام معدودات إلا وردّ شعب مصر على ذلك التحدّي الأرعن من جانب أحد بيادقة النظام: 

الشعب يريد إسقاط النظام.. والشعب يرفض أي محاولة للالتفاف على ما يريد، وأي مراوغة عن تنفيذ ما يريد: الشعب يريد إسقاط النظام!..

"كلام فارغ".. ردّدها وزير خارجية مصر "السابق" وسرعان ما رأى بأمّ عينيه كيف يتساقط هو مع البيادق الأخرى، فمن ذا الذي يردّدها من أقرانه في أنظمة استبدادية أخرى الآن، بمثل هذه الصيغة أو سواها، علنا أو سرا؟..

الاستبداد يقول في أحد الأقطار: إن لنظامه مستندا شعبيا.. وفي قطر آخر: نحن أثرياء والشعب ينعم معنا بالثراء.. وفي قطر ثالث: نزيد الأجور ببعض فتات ترفنا ونخفف شيئا من تكاليف المعيشة فيستمر فسادنا واستبدادنا.. وفي قطر رابع: رأس النظام سيجري إصلاحات سياسية عاجلة.. وفي قطر خامس: ليس قطرنا كتونس أو ليس قطرنا كمصر..

ليست مصر كتونس.. هذا صحيح، وليست سورية كمصر، وليست الجزائر كسورية، وليست اليمن كالأردن، وليست ليبيا كالمغرب.. لا يوجد نظام استبدادي متطابق في سائر مواصفاته وأسباب وجوده مع نظام استبدادي آخر، ولا يوجد شعب متطابق في سائر مواصفاته وأسباب ركونه للظلم -حينا من الزمن- مع شعب آخر.. هذا صحيح، ولكنّ انتقال شرارة الثورة عبر الحدود، يمكن أن يوصف بالعدوى، أو يوصف بأنّه سنة من سنن التاريخ، سيّان، فالمهم أنه ليس "كلاما فارغا" قطعا، فما يجمع بين أنظمة الاستبداد هو هشاشتها لا رسوخها، وضعفها لا قوّتها، وما يجمع بين شعوب الأرض هو كرامتها لا ركونها، وقوّتها لا ضعفها، ولئن اختلفت ثوراتها فهو اختلاف الوسائل والتوقيت وبعض المظاهر، أما جوهرها فهو واحد: ثورة على الاستبداد حتى يسقط ويزول. 

الثورة في مصر بذلك كالثورة في تونس.. ثورة ضد الاستبداد، ذاك هو القاسم المشترك الأكبر بينهما، وهو القاسم المشترك بينهما وبين سواهما، تختلف التفاصيل، ولا تختلف الحصيلة: سقوط الاستبداد.

لم يضع أحد موعدا زمنيا لتوقيت الثورة في تونس.. ولم يضع أحد موعدا زمنيا لتوقيت الثورة في مصر.. ولن يضع أحد موعدا زمنيا لوقوع الثورة في هذا القطر أو ذاك من الأقطار التي تحكمها نظم استبدادية هشّة، تتهاوى مع حلول مواعيد سقوطها، فليس ما يمنع من سقوطها أنّ هذا النظام أقدر على الاحتياط لنفسه، وعلى استبقاء أجهزة استبداده..

تأتيهم بغتة من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون.. فتلك هي إرادة الشعب، إن قرّرت سقوط الاستبداد سقط، شاء أم أبى، في موعدٍ يقرّره الشعب بإرادة الله وحده، ولا يقرّره أحد سواه، فإذا حان موعد السقوط بدا "مفاجئا" لِمن يستبقي لنفسه من المستبدّين بنفسه أسباب سقوطه: لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم!..

إنّ ما وقع في تونس ومصر يصرخ في آذان المستبدين: اسمعوا، فإذا سمعتم وتخلّيتم قبل أن يحين موعد سقوطكم عن استبدادكم.. فلربّما نجوتم!

ويردّون "كلام فارغ"..

يصرخ في وجوه المستبدين: انظروا، فإن أبصرتم وتخلّيتم قبل أن يحين موعد سقوطكم عن استبدادكم.. فلربّما نجوتم!

ويردّون: "كلام فارغ"..

لا يسمعون ولا يبصرون!.. فلا يبقى سوى إشكالية أن يفهموا، ويدركوا أن كلامهم هم كلام فارغ، قبل أن ينطلق في هذا الميدان أو ذاك وفي هذه العاصمة أو تلك من هذا القطر أو ذلك القطر هديرُ الشعب: الشعب يريد إسقاط النظام. 

التبرؤ من الاستبداد

رأس الاستبداد فرد.. وجسده هو تلك الشبكة القمعية التي يقيمها لنفسه، ويجد من خلالها أعوانا على استبداده، رأسمالهم الاستبدادي هو أنّهم فقدوا آدميتهم، وتحوّلوا إلى ما هو أوحش من الوحوش المفترسة، من خلال ما يمارسونه –وهم أدوات- من بطش بإنسانية الإنسانية، وتعذيب لا يصنع الوحوش مثله بأمثالهم في عالم الحيوان، وحراسة.. لا يمكن مهما صنعوا أن يبلغوا بها ما يوصف من وفاء كلاب الحراسة لسيدهم، ولا يدرك سيدهم أنّه من خلال اعتماده على هؤلاء إنّما يصنع بنفسه بعض أدوات سقوطه، ويقرّب من أجله، يبطشون ويفسدون ويُترفون.. فيحوّلون طاقة الركون إلى طاقة ثورة متفجرة، فإن انفجرت فقدوا مفعولهم، وتلاشى دورهم، وقد يوجّههم سيدهم ليصنعوا مثل ما صنعوه في ثورة الشعب في تونس وثورة الشعب في مصر، تخريبا وتقتيلا وتدميرا، وحربا بالمصفحات والرصاص على الأجساد فوق جسر من الجسور، يمارسون مهنة قذرة ما مارسوا من قبل سواها.. ورغم ذلك يسّاقطون ويبقى رأس الاستبداد عاريا حتى يتدحرج معهم. 

كم من أجهزة للقمع كانت تمارس الإرهاب باسم الأمن، والبطش باسم الاستقرار، والفساد باسم التطوير، والتعذيب باسم الوطنية، ولم تجد لنفسها لحظة الثورة مهربا ولا ملاذا، ولئن انطلقت بقاياها في تونس ومصر لتتابع مهمتها الهمجية لبضعة أيام، فقد فات الأوان بعد أن اتخذت الثورة مجراها، وكم منهم من حاول التبرؤ –متأخرا- من الاستبداد في لحظة الثورة، وكم حاول الاستبداد –دون جدوى- أن يستبقي مفعولهم لحظة الثورة، ولو كانوا يستشعرون في أنفسهم إنسانية الإنسان، أو يستشعرون مصلحتهم الشخصية أن ينجوا بأنفسهم، لتبرّؤوا من الاستبداد من قبل، ولرفضوا البقاء في مواقعهم، أدوات استبداد رخيصة، إلى أن يجرفهم ما يجرف الاستبداد من هدير الثورة..

لا تزال هذه الفرصة سانحة لأمثالهم في أجهزة الإجرام القمعي الاستبدادي في أقطار أخرى، لا تزال الفرصة قائمة أن يدركوا أنّهم "أفراد من الشعب" لا ينبغي أن يجعلوا من أنفسهم وحوشا للاستبداد بدلا من ذلك..

لا تزال الفرصة سانحة ليرفضوا طاعة مخلوق ضعيف مستبد في معصية الخالق بطشا وتنكيلا وتعذيبا واضطهادا وظلما وقتلا وكبتا للحريات وانتهاكا للحقوق البشرية.. فليس هذا من شيمة "بشر".

لن تبقى هذه الفرصة طويلا، ولا يمكن أن يستفيدوا منها غدا.. فهي متاحة الآن، الآن فقط قبل أن يفوت الأوان، فلا أحد منهم يعلم متى ينطلق هدير الشعب في بلده: الشعب يريد إسقاط النظام. 

قوة الشعب

كان من أكثر مقولات الاستبداد تعبيرا عن الاستخفاف بالشعوب الترويجُ لوصف إرادتها كلما عبّرت عنها بأنّها "صوت الشارع" ولا ينبغي للحنكة السياسية أن تخضع لصوت الشارع، أي أن تبصر وتسمع وتفهم فتستجيب لإرادة الشعب قبل فوات الأوان!

الشعب في تصوّرهم وفيما يروّجون له فيستثير فيه العزة والكرامة من حيث لا يريدون هو "الدهماء" التي لا قيمة لإرادتها وصوتها ومطالبها، فهي –أي الشعوب- دون مستوى نضوج الساسة والسياسة، والاستبداد والسلطة، فإن ارتفع صوت الدهماء وجب إخماده، وإن شكا وجب قمعه، وإن طالب وجب تجاهله!

ولعمري إن مثل هذا الفكر الاستبدادي أكبر شاهد على مدى جهل المستبدّين ومن يرتضي لنفسه أن يكون بين بيادقهم.. فلا نضوج ولا وعي ولا سياسة.. إنّما هو موت الوجدان ومحض الغباء.

إنّ للشعوب قوتها الأكبر ابتداءً من كل طاغوت مستبد، والأمضى مفعولا من كل سلاح إجرامي، والأبقى نبضا بالحياة على مدّ العصور.. إنّما تتنامى قوة الشعب مع ازدياد فُحش أفاعيل الاستبداد نفسه، ولهذا تزداد قيمة "صوت الشارع" تأثيرا في واقع الشعب بقدر ما تزداد الاستهانة بها تجبّرا وجهلا. 

وما نشأت الأنظمة التي تقوم على إرادة الشعوب، إلا نتيجة إدراك قوتها ومفعولها، عبر دروس تاريخية متعاقبة امتدّ مفعولها في المنطقة الأوروبية مثلا لقرون عديدة.. فكان لا بدّ من التسليم لإرادة الشعوب وفق ما تريد من حيث المبدأ -بغضّ النظر عن انحرافات صغيرة وكبيرة في الواقع التطبيقي- ولكنّ ما كان يجري عبر الحقب التاريخية الماضية ويستغرق أزمانا طويلة، أصبح بحكم تسارع مفعول التطوّرات في الحياة البشرية على كل صعيد يتحقق خلال فترات زمنية أقصر بكثير.. وهذا ما يجعل ممارسة الاستبداد في بلادنا العربية والإسلامية، تساهم في تعزيز تنامي قوة إرادة الشعوب خلال أجيال معدودة بدلا من حقب تاريخية مديدة.

لم يكن ظهور قوة شعب تونس وقدرته على إسقاط الاستبداد وظهور قوّة شعب مصر وقدرته على إسقاط الاستبداد حدثا مفاجئا بمنظور سنن التاريخ والتحوّلات الاجتماعية الكبرى، إنّما كان عنصر المفاجأة كامنا في انتشار تصوّرات واهمة، أنّ ما احتاج لدى شعوب أخرى إلى زمن طويل بمعيار التاريخ سيحتاج إلى مثل ذلك في المنطقة العربية والإسلامية أيضا.

هذا بعض ما تعنيه مقولات شائعة مضلّلة: نحن متأخرون عن "الغرب" قرونا.. نحن عاجزون عن الوصول بإرادة الشعوب إلى صناعة أنظمة الحكم جيلا بعد جيل.. نحن متخلّفون في إبداع الثورات وتبديل موازين القوى داخل كل قطر من أقطارنا على حدة.. 

وما أصدق تلك الكلمة الصادرة عن أحد أساتذة العلوم السياسية الفضلاء تعقيبا على ما صنع "الشباب" في بلده مصر: لقد تعلّمت الكثير من هؤلاء الشباب.

إنّ الجواب على تلك المقولات المثبّطة لعزيمة الشعوب، هو ما صنعه شعب تونس وشعب مصر، وهو الجواب المنسجم مع معايير كتابة التاريخ ومع منطق صناعة الثورات.. ولا يفاجئ أحدا قدر ما يفاجئ مَن يصرّ على الاستغراق في التصوّرات الواهمة المنسوجة حول الشعوب ومواتها، وجيل الشبيبة وضياعه، وحول حصر صناعة التغيير في النخب، والنخب ضعيفة، وفي المعارضة الشكلية، والمعارضة واهنة، فمن يأخذ بتلك المقولات ويتّهم مَن يرفضها بالتفاؤل المفرط والحماسة العاطفية، ينزلق من حيث يدري أو لا يدري في تيّار يطيل عمر استبدادٍ لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم ما تعنيه إرادة الشعوب، أو صوت الدهماء، أو مطالب الشارع!..

إنّ الشعوب هي التي تصنع النخب وليس العكس، وإن الشعوب هي التي تصنع المعارضة وليس العكس، وإن الشعوب هي التي تصنع الثورات.. لتصبح هياكل الأنظمة والمعارضة والنخب بعضا من نتائج ثوراتها وليس العكس.

الشعوب هي مصدر القوة الباقي من وراء الدول والأنظمة والسياسة والسياسيين، وجميع ما سواها ينبثق عنها، والشعوب تستمدّ قوتها من عقائدها وحضاراتها وثقافاتها وتاريخها، وتتنامى قوّتها من خلال ما تعايشه في واقعها وتريده لمستقبلها، فإن أرادت التغيير تصنع التغيير، ولهذا لم يكن صوت التغيير في تونس ومصر، ولن يكون في سواها، هو صوت المعارضة، ولا يستهان بقيمتها، ولا النخب، ولا يستهان بدورها، إنّما يمكن أن يتعاظم موقع المعارضة وعطاء النخب، بقدر ما تستجيب هي لإرادة الشعب.. في الوقت المناسب، أثناء هيمنة الاستبداد، وهذا ما يجب أن تستوعبه النخب والمعارضة في أقطار أخرى بعد تونس ومصر، ليصبح بحصيلته جزءا من واقعها الراهن، أما مستقبل المعارضة ومستقبل النخب فيتحدّد بقدر ما تستجيب لمتطلّبات الحقبة التالية لتحقيق إرادة الشعب –كما تسعى المعارضة والنخب لذلك في تونس ومصر.. وفي سواهما حتما في وقت قريب- على وقع هدير إرادة الشعب: الشعب يريد إسقاط النظام. 

القيادات الشعبية

لقد أظهرت ثورة تونس ثمّ ثورة مصر أنّ الوعي الشعبي على مستوى كافة فئات الشعب وليس على مستوى الشباب فقط، قد تجاوز إلى حدّ بعيد مستوى الوعي على صعيد القيادات الحزبية والنخبوية والتنظيمية جميعا دون استثناء.

ثورة مشتركة لا تجد فيها فارقا يميّز بين صغير وكبير أو امرأة ورجل، جميعهم يتحرّكون بإرادة مشتركة، وعزيمة ثابتة، واستبسال يقيني، وهدف واضح، ووسائل قويمة، وتنسيق تصنعه الثورة، وتنظيم متطوّر وفق متطلبات اللحظة، وتعاون متواصل منقطع النظير.. ولهذا بكل جوانبه ومزيد عليها يحققون غاية الثورة من لحظة انطلاقها الأولى، فيلحق بها من يستطيع مهرولا، ولا يكاد يتمكّن من أن يصبح جزءا منها إلا بقدر محدود يوازي ما يخلعه هو من ثوب حزبي أو انتمائي أو قيادي تنظيمي.. 

الثورة هي التي تصهر الجميع ممّن يتمنّونها ولم يصنعوها، وإن كان لكثير منهم سهم من نصيب فيها، في أيام سبقت على طريق صناعة أجوائها.

كان لا بد أن تنبثق من قلب الثورة قيادات ميدانية.. وكانت –لأنها منبثقة عن الشعب الثائر- قادرة على فرض ما يريد الشعب على سائر الأحزاب والتنظيمات والنخب اللاحقة بها، بغضّ النظر عمّن برز من قبل أو برز من بعد من بين "زعمائها".

إن الثورة هي التي تصنع القيادات.. وليس العكس، وإن قيمة كل قيادة مرتبطة بقيمة نصيبها من الثورة وليست أيّ قيمة من قيم الثورة مرتبطة بقيمة قيادة تاريخية أو زعامة حزبية أو وجه من وجوه التنظيمات المعروفة، وإن كان لا يستهان بالقيمة الذاتية لأي من الزعامات والقيادات المخلصة.

ولئن كان جوهر الثورات واحدا على امتداد الزمان والمكان، فإن شرارة اندلاعها ومسارها ونتائجها، يمكن أن تختلف باختلاف الزمان والمكان والظروف. 

وإذا كان من المستحيل إعادة عجلة ثورة تونس وثورة مصر إلى الوراء أو كتابة تاريخ آخر لهما غير التاريخ الذي صنعتاه، على النحو الذي كان على أرض الواقع، فإن الدرس الأكبر والواجب على صعيد الأحزاب والتنظيمات والجماعات وسائر الفئات التي تتطلّع إلى إسقاط الاستبداد في أي قطر آخر من الأقطار، هو أن تستدرك قياداتها وعناصرها ما فات، فتتلافى ثغرات خطيرة، وممارسات مرفوضة، تلعب دورا مشينا في تأخير تحقيق أهداف مشروعة كريمة على طريق التحرّر من الاستبداد.

الآن.. أيها المسؤولون عن الأحزاب والنقابات والتيارات والتنظيمات والنخب.. الآن موعد التلاقي على أهداف مشتركة تفرضها المصالح العليا المشتركة وتخضع لها التطلّعات الذاتية والاجتهادات المتباينة لدى الأحزاب والتنظيمات والجماعات والتيارات وما يشابهها على امتداد الأرض العربية والإسلامية.

الآن.. وليس بعد أن تسبق عامةُ الشعوب جميعَ النخب، موعد التخلّي عن تشبث القادة التقليديين بمواقعهم على حساب جيل من الشبيبة أقدر منهم على تحقيق الأهداف الكريمة المشروعة، وموعد التخلّي عن الأنانيات الضيقة المفرّقة، وعن إعطاء الأولوية لمواطن الاختلاف والنزاع إزاء مواطن الالتقاء والتفاهم عبر حدود الانتماءات والتنظيمات والتصورات المتعددة.

الآن.. يستطيع الصادقون المخلصون ممّن يعتبرون أنفسهم "معارضة" في نطاق أنظمة استبدادية، أن يرتفعوا بمستوى أنفسهم ومستوى تنظيماتهم ومستوى مواقفهم وقراراتهم ومستوى جهودهم وتضحياتهم إلى مستوى الشعوب وتطلعاتها، ومستوى الأوطان ومصالحها، ومستوى العصر ومتطلباته، كيلا يجدوا أنفسهم في مؤخرة الصفوف في يوم قريب، تهدر فيه الجموع الشعبية هدير التغيير: الشعب يريد إسقاط النظام. 

عسكرة الثورات

سادت المخاوف أثناء ثورة شعب مصر أكثر ممّا ساد في تونس –لأسباب لا تستدعي التفصيل فيها هنا- من أن يتمّ الالتفاف على ثورة الشعب عبر قيادات القوات العسكرية، وأن يتحوّل مسار الأحداث والتطوّرات وفق ما تصنعه "صفقةٌ" ما بين بقايا استبدادٍ يتهاوى وقوة الجيش العسكرية، التي لم تكن من قبل في الواجهة، إنّما لم تسلم صناعةُ قياداتها تخصيصا من مخطّطات حكم استبدادي أراد أن يضمن لنفسه الهيمنة، فسعى أن يشمل ذلك توظيف ركيزة الدفاع عن الأوطان لتصبح ركيزة الدفاع عن الاستبداد بالأوطان، بما في ذلك ربطها بهيمنة استبداد دولي.

لا تنطلق هذه المخاوف من بقايا موروثة من حقبة انقلابات طالما لبست زوراً لباس الثورات وتحوّلت إلى محاضن للاستبداد في كثير من البلدان العربية والإسلامية.. فعصر الانقلابات اندثر، إنّما تنطلق المخاوف من حصيلة الفصل بين الشعب وبين تكوين الجيش من أفراد الشعب نفسه، واستخدام وسائل الفساد والإفساد في تطويعه للاستبداد أو مشاركته في الاستبداد.

لا بدّ من التركيز على أنّ الجندي أو الضابط في أيّ جيش من الجيوش ليس إلاّ مواطنا في بزة عسكرية يؤدّي مهمّة نبيلة، يرتبط بها مصيره هو.. ومصير كل فرد من أفراد شعبه.. ومصير كل ذرة من تراب الوطن.. ومصير كل جانب من جوانب صناعة المستقبل.. فإما أن يؤدّي هذه المهمة أو يتحوّل إلى أداة فاسدة في نظام استبدادي فاسد.. زائل آجلا أو عاجلا، وآنذاك يمكن أن يفقد قيمة انتسابه إلى الشعب نفسه.

هذا ما ينبغي على كلّ جندي فرد أو ضابط فرد في أي قطر من الأقطار العربية والإسلامية، أن يضعه نصب عينيه.. الآن، وهو يتابع ككلّ إنسان فرد على امتداد الأرض العربية والإسلامية ما جرى ويجري في تونس ومصر، فهو معرّض الآن، كما سيتعرّض آجلا أو عاجلا على وقع هدير الثورة للسؤال الحاسم أيضا: 

هل ينتمي إلى الشعب أم ينتمي إلى الاستبداد، هل يريد البقاء مع الشعب وهو باقٍ دون ريب، أم يريد السقوط مع الاستبداد وهو ساقطٌ لا محالة.

إن تونس ومصر ترفعان الصوت عاليا ليصل إلى آذان القيادات العسكرية في كل قطر عربي وإسلامي آخر: 

يا أيّها الضباط كونوا جزءا من نسيج الشعب في وطنه، ودرعا لحمايته من أعدائه، ولا تكونوا أداة في يدٍ أقرب أعدائه إليكم: الاستبداد القاتل لمستقبل الشعوب والأوطان.. والجيوش أيضا.

كونوا الآن على مستوى أمانة الموقع الذي تشغلونه، قبل أن ينالكم نصيب من زعزعة أركان ذلك الصرح الواهي من الاستبداد الذي يريد أن يستخدمكم.. ولو ببعض فتات معيشة مرفّهة بديلا عن رسالة الدفاع عن الشعب والأرض، ولا تنتظروا ساعة الامتحان الأكبر يوم يحين أجل الاستبداد في بلادكم.

يا أيها الضباط والقادة العسكريون في كل بلد وقطر عربي وإسلامي يعاني من الاستبداد.. كونوا على يقين وأبصروا ما تشهدون بأعينكم بين أيديكم، الآن.. قبل أن تجدوا أنفسكم في خضمّ أحداث ثورة حاسمة مشابهة في قادم الأيام:

ليس الشعب في مصر –أو تونس أو سواهما- هو المعرّض للامتحان الأكبر ساعة الثورة، أن يواجه قوة عسكرية داخل بلده، بل القوة العسكرية هي المعرّضة للامتحان الأكبر، ما بين أن توظف نفسها لتكون جزءا من إرادة الشعب الذي انبثقت عنه.. أو أن تكون جزءا من الاستبداد الذي يهدر الشعب في وجهه هديرا لا لبس فيه ولا غموض: الشعب يريد إسقاط النظام. 

المساعدات الأمريكية

لم ينقطع خلال البحث في الغرب عن سبيل لإنقاذ بقايا نظام استبدادي منهار في مصر –كما كان من قبل في تونس- ذلك الربط المشين بين ما يسمّى المساعدات المالية الأمريكية المخصّصة لقوات مصر العسكرية منذ نكبة كامب ديفيد السياسية، وبين ما يمكن الاعتماد عليه من قيادات عسكرية في مصر للسيطرة على الأوضاع قبل أن تحقّق الثورة هدفها، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من "ولاء الدولة" للاستبداد الدولي، حتى وإن أعطيت مسحة "ديمقراطية واقتصادية" لامتصاص ما بقي الغرب يعتبره مجرّد غضبة شعبية على أوضاع معيشية بائسة. 

ربط مشين مهين للكرامة الفردية والجماعية للقوات المسلحة في مصر، قيادات وجنودا..

هم يقولون ببساطة مذهلة لكل كريم: 

المال الأمريكي هو ثمن الشرف العسكري، والكرامة في الفرد العسكري، ووطنية المواطن في بزة عسكرية، وإنسانية الإنسان في القوات المسلّحة في مصر.

يلوّحون علناً بوقف "المساعدات المالية".. ثم يؤجّلون التلويح والتصريح إلى ما بعد ظهور نتائج الثورة، وسيّان لديهم ماذا يكون عليه موقف القوات المسلحة في مصر وتصرّف قادتها وجنودها إزاء شعب مصر بسائر طوائفه وأطيافه، وإزاء شرفها وكرامتها واستقلالها وحريتها وسيادتها على قراراتها اليومية وعلاقاتها بقضايا أمتها المصيرية.. فلسوف تتجدّد محاولات لابتزاز الضباط والجنود في مصر بالمال الأمريكي.

إنّ الذي وضع القوات المسلّحة في مصر في هذا الموضع هو الاستبداد الذي حكم شعب مصر وقوّاتها المسلّحة، من قبل نكبة كامب ديفيد إلى يوم الثورة على الاستبداد.

وإنّ سقوط الاستبداد لا يكتمل قطعا إلا بسقوط الابتزاز الذي فتح أبوابه على مصراعيها لتحويل الدور العسكري المشرّف في كل أمّة من الأمم، إلى دور مخزٍ مهين لكل من يمارسه بحق الأمّة.

لا ينتهي الاستبداد.. ولا ينتهي الابتزاز.. ولا ينتهي الدور المخزي المهين من خلالهما، إلا بأن يعلن قادة القوات المسلّحة في مصر وجنودها إعلانا صريحا واضحا وقاطعا: 

شعب مصر وجيشها يرفضان المال الأمريكي وجميع ما يتصل به من شروط وقيود على أرض الواقع أو في اتفاقات مزرية غير مشروعة جملة وتفصيلا.. 

آنذاك فقط يمكن القول إن جيش مصر يعلن مع شعب مصر بهدير الثورة التاريخي بمضمونه ونتائجه: الشعب والجيش يريدان إسقاط الاستبداد.

وما يسري على مصر يسري على كل قطر عربي وإسلامي يأبى أهله مدنيين وعسكريين، العبودية وقيود العبودية وأغلال العبودية للمال الأمريكي على حساب الشعوب والأوطان والقضايا المصيرية، قبل أن يسقط من يرتضي العبودية مع الاستبداد أمام هدير الشعب: الشعب يريد إسقاط النظام. 

كلمة الإعلام

كان من أغرب التعليقات على الأحداث الجارية وهي جارية في مصر قول أحدهم: "لسنا في أزمة.. ليس حزبنا الوطني في أزمة" بينما كان هو وحزبه وسيّدهم في "خبر كان" أو أوشكوا على ذلك.. وقول آخر: "الوضع مستقر وأجهزة الأمن مسيطرة على أحداث الشغب" وكان وزيره قد أصدر أوامره ونُفّذت بالانسحاب الكامل –المقصود بأمل نشر الفوضى- من مدن مصر وقراها وشوارعها النابضة بالثورة.. 

يبدو أنّ مهمة التضليل الإعلامي قد نالت من هؤلاء ولم تنل من الشعوب الثائرة!..

كما كان من المفارقات أن يدور حوار بين مذيعة تلفاز محلي في مصر وبين امرأة تشكو من "البلطجية" على الهاتف: لا تصدّقي هذه الأباطيل التي تبثها قناة الجزيرة الفضائية، بينما كانت الجزيرة تنشر مشهدا مصوّرا مباشرا من ساحة التحرير في قلب القاهرة وآخر من الاسكندرية يبث فيه ذوو الشهداء شكواهم ويعلنون تصميمهم أمام عدسة التصوير..

يبدو أن ممارسة التزوير الإعلامي لا تنقطع حتى بعد انقطاع حباله جميعا ساعة الحقيقة!..

وكان من النوادر المرّة التي عُرف عنها أهل مصر الأباة في ساعات المحن الاستبدادية، أن ينسبوا إلى وزير الإعلام المقال أو المستقيل عندما أصدر تعليماته بقطع بث فضائية الجزيرة ومصادرة تراخيص عمل مراسليها، أنّه أرفق ذلك بطلبه الاستبقاء عليها في تلفازه ليطلع على حقيقة ما يجري!..

يبدو أن الجهل بتطوّر الإعلام ووسائله ودوره وثورته قد تفاقم إلى درجة إعطاء الدليل القاطع على أن الاستبداد لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم!..

سيّان ما يقال بحق وباطل عن الجزيرة ونشأتها ودورها وأنشطتها أو عن قطر والوجود العسكري الأمريكي فيها، فلا ريب أنّ ثورة الإعلام التي أحدثتها خلال أكثر من عقد مضى، هي جزء من الثورة الشاملة في المنطقة العربية والإسلامية على أكثر من صعيد، والتي وصلت إلى أركان الاستبداد القائم في أكثر من بلد.

ولكنّ الجزيرة نفسها كانت من نتائج تطوّر تاريخي تدور عجلته عالميا وتشمل البلدان العربية والإسلامية قطعا، ولم تكن هي صانعة ذلك التطوّر، إنما كان لها فضل استيعاب مقتضياته، فليست هي الطرف الذي يمكن توجيه أصابع الاتهام إليه بالإعلام عن الحقائق، المكشوف منها والمستور، إنّما توجّه أصابع الاتهام إلى من لا يزال يعمل على طمس الحقائق، يعيش عل ى فتات الماضي المزري إعلاميا وسياسيا، وقد بات المكشوف من تلك الحقائق أضعافَ اضعافِ المستور، فلا ينفع في محاولة تغييبها غربال الاستبداد ولا تعميم صورة القرود الثلاثة الأعمى والأصمّ والأخرس!..

الإعلام –سواء بمعيار المهنية أو معيار الوطنية أو معيار الرسالة الإنسانية التي يحملها- هو متابعة الأحداث وتغطيتها إعلاميا ليطلع عليها القاصي والداني.. وما صنعت فضائية الجزيرة –ولا يمكن أن تصنع- ثورةً في تونس أو ثورة في مصر، كما لم تصنع سقوطا مريعا في المفاوضات على حساب فلسطين وأهلها وأرضها، إنّما كانت "أداة إعلامية مهنية" حول ثورة صنعها أهل تونس وأهل مصر، وكانت أداة إعلامية مهنية حول جريمة يرتكبها من يرتكبها على حساب فلسطين. 

وما برز دور الجزيرة.. ولا حازت على مكانة متقدّمة لدى الشعوب.. لأنها تصنع إعلاميا ما لم يصنع سواها، بل كان ذلك لأنّ سواها لم يصنع إعلاميا ما ينبغي أن يصنعه، مثلها أو بصورة أفضل منها.

هي فضائية واحدة بين مئات الفضائيات.. لو كان فيها بعض ما تقتضيه الرسالة الإعلامية، لوجدت الجزيرة نفسها واحدة من وسائل الإعلام المعاصرة.. إنّما عندما تتحول غالبية وسائل الإعلام إلى أدوات استبداد أو أدوات انحلال، فإنها هي بذلك التي تمدّ الجزيرة بقوة إضافية تجعلها "منفردة" في الميدان بلا منافس. 

لئن لم "تتعلّم" الجزيرة من دروس الاستبداد وهو يلاحقها دوليا بالقذائف والاغتيالات، ومحليّا بالحَجْر والمنع وقطع تقنيات الاتصال.. فإن الصورة المقابلة الأخطر بحق الإعلام والشعوب هي أن الاستبداد لم يتعلّم على المستوى الدولي والمحلي، أنّ قهر الكلمة بالقذائف والحصار مستحيل.

ليست المشكلة في أن ما تقدّمه الجزيرة قابل للتصديق والمتابعة على مستوى الشعوب، بل هي مشكلة أنّ ما يقدّمه سواها قد سقط في وحل الانحلال فلا يهمّ ما يقدّمه غالبيةَ الشعوب وهي تتابع نبض الأحداث والثورات والقضايا المصيرية، أو سقط في وحل الاستبداد ففقد مصداقيته.

وليست المشكلة في أنّ الجزيرة تجد طريقا لإثارة الشعوب، بل المشكلة في أن الاستبداد صنع بإجرامه من الاحتقان ما وضع الشعوب على طريق الثورة.

وليست المشكلة في أنّ الجزيرة تشارك إعلاميا في صناعة أحداث تتجاوب معها الشعوب، بل المشكلة في أنّ الاستبداد يريد أن يحتكر صناعة الأحداث على حساب الشعوب.

وليست المشكلة في أنّ الجزيرة "تفضح" الأسرار، بل المشكلة في أن تلك "الأسرار" وخيمة وذاك ما يجعل الكشف عنها "فضيحة" للمتورّطين في الإجرام على حساب القضايا المصيرية والشعوب والأوطان. 

وليست المشكلة في عجز المستبدين عن إسكات الإعلام نتيجة معطيات التطوّر الحديث عن الحيلولة دون وصول الكلمة الإعلامية إلى البشر، بل هي مشكلة المستبدين الذين لا يريدون أن يرتفعوا بأنفسهم إلى مستوى البشر الواعين بعالمهم وعصرهم والواقع من حولهم، ليدركوا ما يعنيه تطوّر وسائل الاتصال من استحالة منع الإعلام عن الوصول إلى البشر.

ولا يشين الجزيرة.. ولا يشين المدوّنات الفردية المنتشرة عبر الشبكة العالمية.. ولا يشين الشباب القادرين على التعامل مع وسائل الاتصال الحديثة لكسر حواجز الاستبداد بالشعوب والأوطان والإعلام.. لا يشين من يستخدم الإعلام ووسائله للغسهام في صناعة الثورة على الظلم والاستبداد والفساد والتضليل، إنّما يشين مَن يمارسون الظلم والاستبداد والفساد والتضليل.. أنّهم لا يزالون يقبلون لأنفسهم بهذا الموقع ويتشبّثون به.

إن إعلام المستقبل في عصر الثورات الشعبية، العربية والإسلامية، في تونس ومصر وسواهما، هو الإعلام الذي ينتقل من البلاط الملوّث بين أيدي المستبدين، إلى الساحات الطاهرة بنداء الثائرين، ليعلن على الملأ في وجه المستبدّين من كل صنف وفي كل ميدان، هدير الشعوب الذي أصبحت ساحة التحرير في القاهرة رمزا تاريخيا شاهدا عليه: الشعب يريد إسقاط النظام. 

رعب الاستبداد من العدالة

لقد عرف تاريخ العالم من الثورات ما كان دمويا بصورة شوّهت كثيرا من معالم تلك الثورات إلى جانب بعض ما حققته في المسيرة الإنسانية التاريخية لترسيخ بعض الحقوق والحريات على الأقل في الواقع البشري. إنّما لم يعرف تاريخ العالم ثورة "شعبية" بمعنى الكلمة، صدرت عن الشعوب، وقادتها الشعوب، ورسمت معالمها وحدّدت تضاريس وجهها الشعوب، كثورة شعب تونس وثورة شعب مصر.. وإنّ من العسير على مَن لا يعرف طبيعة التكوين العقدي والحضاري والمعرفي لشعوب البلدان العربية والإسلامية، أن يستوعب ما أعطاه شعب تونس وشعب مصر عليه من مثال نموذجي مضيء غير مسبوق في تاريخ الأمم. 

تعرّض الثائرون للقمع والبطش.. فلم ينتقموا!..

تعرّضوا للفتك الإجرامي اعتداءً على الآمنين وعلى الثروات وقد أفلتهم العاجزون عن متابعة المواجهة القمعية فلم تتحوّل الثورة إلى "فوضى إجرامية".. 

وانفردت بالثائرين الشوارع والساحات فلم تتحوّل الجموع –التي وصفت بالغاضبة- إلى جموع هائجة تجرف ما حولها!..

ولئن استهدف بعض الجموع حصونَ الإجرام القمعي، فما سجّلت أيام "الغضب" هجوما "غاضبا" على إنسان أو منشأة، بل كان من الثوار "الغاضبين" من جعلوا من أجسادهم دروعا بشرية لحماية المنشآت والثروات، وجعلوا من أنفسهم حماة للبيوت من هجمات فلول من مارسوا القمع بحق الشعوب وحاولوا إجهاض الثورة بوسائل العصابات الإجرامية ليلاً عبر هجماتهم على الآمنين من السكان داخل أحيائهم السكنية.

وكان من هتافات الثائرين ومن كلماتهم عبر ما أتيح لهم من وسائل الإعلام، أنّ على المستبد وأعوانه الرحيل، وكان أقصى الأهداف التي طرحوها لمحاسبة المستبدّين والفاسدين أن يمثلوا أمام القضاء.. أي أمام ما حرمهم الاستبداد والفساد منه، وأمام أجهزة القضاء التي تعرّضت مع الشعوب للاستبداد وعبثه الإجرامي. 

يتخيّل المستبدّون أنهم سيتعرّضون لوسائل التعذيب في أقبية المخابرات ووراء جدران أبنية "الأمن المركزي" وسواه ممّا صنعوه للبطش والتنكيل..

يتخيّلون أن يمثلوا أمام أناسٍ لا يفهمون من القضاء سوى كلمة "حالة طوارئ مزمنة" تبيح الإجرام للمستبد بلا حساب..

يتخيّلون أن الثورة على الاستبداد ستفضي بهم إلى حيث وضعوا الشرفاء على مرّ سنوات الاستبداد..

وزاد من مخاوفهم –لا سيما في مصر- ما سبق أن عايشوه من تخلّي الاستبداد الدولي عنهم وقد فقدوا قيمتهم بفقدان دورهم الآثم عبر تلاقي استبدادهم مع استبداده، ثم لم يجدوا –كما كان مع طاغية تونس- رقعة على عتبة من الأعتاب التي طالما وجدوا فيها من قبل ما كانوا يحسبونه صورة من صور "التكريم"، طوال فترة سطوتهم وتسلّطهم على الشعوب.

ليس مستغربا ما يصيب المستبدين من رعب أمام الثورة وما يتخيّلون لأنفسهم من مصير عبر انتصار الثائرين على استبداهم.

إنّ من أشد مصادر خوف المستبدّين من السقوط وأسباب المضيّ الأرعن على طريق البطش والقمع حتى نهايتهم هم، جاثين على ركبهم أمام الشعوب، أنّهم يخشون على أنفسهم من "انتقام" يوازي بصورة من الصور بعض ما صنعوه ويصنعونه من خلال استبدادهم. 

من يفكّر بأسلوب همجي، يحسب ضحاياه لا يفكّرون إلا بمثل أسلوبه..

ومن يمارس الإجرام يظنّ ضحاياه مجرمين مثله..

ومن فقد الوجدان لا يدرك أن سواه لم يفقد الوجدان..

ومن يقضِ عمره دون أن يفسح المجال يوما لقرارٍ قائمٍ على الحقّ والشورى والعدالة لا يستوعب أنّ سواه ينطلق من الحق والشورى والعدالة في تعامله مع المجرمين من مستبدّين وفاسدين وأمثالهم..

ليس هذا من شيم الكرام الصابرين والثائرين، وأنّى للاستبداد أن يستوعب ما تعنيه شيم الكرام، ولو استوعب ذلك المستبدّون قبل سقوطهم في بلدان أخرى، فلربما ينجون بأنفسهم في الوقت المناسب، قبل أن يسمعوا ما سمعه السابقون إلى السقوط من هدير الثورة: الشعب يريد إسقاط النظام.  

الاستبداد كله مرفوض زائل

من أخطر المغريات في ممارسة الاستبداد أن يكون بعض ما يصنعه مقبولا لدى الشعب وبالمقاييس الوطنية أو القومية أو المصلحة العليا للقضايا المصيرية. 

كان في تونس بعض النموّ الاقتصادي كما زعم الاستبداد لنفسه رغم البطالة والفساد والفقر والترف.. وسقط الاستبداد، وكان في مصر بعض النمو الاقتصادي كما زعم الاستبداد لنفسه رغم الانهيار والديون والبطالة والفساد والفقر والترف.. وسقط الاستبداد.

ارتباط نظام الاستبداد في تونس بفرنسا سبب من أسباب سقوط الاستبداد، وليس وحده السبب، وتبعية نظام الاستبداد في مصر للعدوّ الصهيوأمريكي سبب من أسباب سقوط الاستبداد، وليس وحده السبب.

ومن الوهم الانتحاري القاتل أن تحسب أنظمة مستبدة أخرى أنّ تعرّضها للعداء الغربي الصريح، يعني زوال مفعول أسباب السقوط الأخرى بين يدي الثورة على الاستبداد.

لقد كان في مقدمة أسباب الثورة على الاستبداد في تونس ومصر وجود حزب مستبدّ يحمل على ظهره الحاكم المستبدّ الفرد، ووجود فئةٍ من المترفين المنتفعين الفاسدين المهيمنين على ثروات الشعب، تستنزف مقدّرات الوطن وثرواته ولا تأبه بالبطالة والفقر، وإنّ أسباب الثورة كافية فعّالة في كل قطر من الأقطار العربية والإسلامية، يقوم الاستبداد فيه على حزبٍ يحتكر السلطة، وفردٍ يستند باستبداده إلى فئة من الفاسدين المنتفعين المترفين المهيمنين على ثروات الشعب.

وكان في مقدّمة أسباب الثورة على الاستبداد في تونس ومصر، مظالم حكم الطوارئ، واعتقالات القمع الوحشية، وممارسات الأجهزة الاستبدادية، وجميع ذلك يصنع الثورة بنفسه، آجلا أو عاجلا، مهما جرت التغطية عليه بادّعاءات ومزاعم أنّ "الاستقرار على الجماجم" هنا غير "الاستقرار على الجماجم" الذي كان في تونس أو مصر، وكذلك مهما جرت التغطية عليه بأنّ الإجرام الاستبدادي على المستوى الداخلي لا يقترن بإجرام "كبير" على مستوى التعامل مع القضايا المصيرية وفي مقدّمتها قضية فلسطين.

ليس في الممانعة والصمود إزاء تصفية قضية فلسطين، ومحاصرة مقاومة الهيمنة الصهيوأمريكية، ورفض "تطبيع" ما لا يمكن تطبيعه من علاقات مع عدوّ مغتصب.. ما يحمي الأقنعة الأخرى على الوجوه القبيحة المسبّبة للثورة على استبداد داخلي، جاثمٍ على مرّ العقود على أركان مهترئة، من دستور فقد قيمته، وحزب احتكر الاستبداد لنفسه، وقضاء انتُزعت شرعيته، واعتقالات ومظالم وحرمان وبطالة وفقر وترف.

الثورة على الاستبداد هي الثورة على جوهر الاستبداد المتمثل أولا وأخيرا في احتكار السيادة على صنع القرار في أيّ ميدان من الميادين، سواء شمل ميادين "السياسات الخارجية" أم لم يشمل، بأيدي فئةٍ من الفئات، سواء شاركت في الاستبداد مَن يسير في ركابها خوفا وطمعا أم لم تفعل، أو فردٍ من الأفراد، سواء اعتبر نفسه زعيما ملهما أو قائدا فذا أو كائنا من غير البشر.. 

الثورة على الاستبداد قادمة، عاجلا، من حيث لا يحسب حسابها من يطمئنون إلى ما أشاعوه عن أنفسهم وردّدوه حتى صدّقوه، الآمنون من الثورات على استبدادهم مثلما كان السابقون إلى السقوط من أقرانهم آمنين على أنفسهم.. بزعمهم.

وإنّ انتصار ثورة الشعب في تونس ومصر، سيصبّ في حصيلته في طريق سقوط نهج كامب ديفيد بكل إفرازاته، ونهج مدريد بكل تجلّياته، ونهج أوسلو بكل موبقاته.. ولن يصبّ في صالح مَن يميّزون أنفسهم بتردّدهم أو ممانعتهم واقعا أو كلاما، وبنجاح جزئي حقيقي أو موهوم، تجاه تلك الإفرازات والتجليات والموبقات، ما دامت هوة الاستبداد عميقة بينهم وبين الشعوب، قد امتلأت بآلام المعتقلين والمعذبين والمحرومين داخل الحدود، وفي هذه الهوّة سيسقطون، ما لم يستغلّوا الفرصة السانحة قبل حلول موعد الثورة على غير انتظار، فيتخلّوا عن كلّ شكل من أشكال الاستبداد.. إذا استوعبوا أن هدير الثورة لم يكن يقتصر على: الشعب يريد إسقاط كامب ديفيد، أو على: الشعب يريد إسقاط الجدار الفولاذي، أو على: الشعب يريد إسقاط التبعية الأجنبية، بل كان هديرا واضحا عاليا صريحا: الشعب يريد إسقاط النظام.. وما كان هذا الهدير إلا لأنّ الاستبداد بحد ذاته وبمختلف تجلياته وموبقاته جريمة بحقّ الشعوب والأوطان، وإنّ كلّ جريمة بحقّ الشعوب والأوطان هي جريمة بحقّ القضايا المصيرية كقضية فلسطين وقضية تحرير سيادة الشعوب على صناعة القرار.