معركة ميدان التحرير

نوال السباعي

معركة الكرامة والحرية والقدس

نوال السباعي

[email protected]

انكشفت بوادر الثورة المصرية الشعبية ، عن حقيقة صارخة ، أسقطت ورقة التوت الأخيرة عن عورة النظام ، ومن شابهه من أنظمة ، حقيقة تتجلى في أن الجولة الدائرة الآن في ميدان التحرير ، ليست جولة بين طلائع الشعب المصري الأبية ، مع فلول نظام مجرم عميل ، ولكنها جولة الشعب المصري ومن ورائه الأمة مع العدو الإسرائيلي في تل أبيب ، ومن ورائه ولية أمره الولايات المتحدة الأمريكية، وبقية الأنظمة العربية ، ومن يسمون أنفسهم بالمجتمع الدولي، ، ممن فقدوا كل مصداقيتهم في شوارع تونس ، واحترقت شرعيتهم عندما احترق البوعزيزي قهرا.

تكاد تكون متطابقة ، الخطوات التي قام بها الرئيس التونسي بن علي قبل تخليه عن السلطة، مع الخطوات التي اتخذها النظام المصري في وجه الانتفاضة ، التي انقلبت بفعل أساليبه الوحشية والقذرة إلى ثورة شعبية : سحب قوى الأمن من مهامها في حماية البلد والمواطنيين، فتح السجون ليخرج منها آلاف المجرمين ويعيثوا فسادا ، إفلات "عشرات الآلاف" – في الحالة المصرية- من "كلاب السلطة" المسعورة ، لتقوم بأعمال النهب والترويع ، حرق مرافق الدولة وممتلكات الشعب ، إطلاق حرب نفسية إعلامية هائلة ، بهدف إحداث بلبلة في صفوف الشعب ، لعله يؤوب إلى هذا "الأب" الجبار العاتي ، طالبا منه السماح والرضى ، ويدخل تحت عباءته من جديد ، ليقدم له الأمن ! ..إنها خطة حرب ، في ساحة حرب ، إنها استراتيجية الانسحاب والأرض المحروقة ، إنه التعامل مع الشعب على أنه العدو في جبهات القتال!!.

ولكن عن أي أمن نتحدث ؟، الأمن في ظل عصابة السراق القتلة ، الذين تركوا البلاد قاعا صفصفا !، هل هذه العصابة هي التي ستكف كلابها المسعورة المأجورة عن الولوغ في دماء الشعب ، مقابل "الأمن" ؟!، أمن المواطن في بيته –هذا إن وجد بيتا يؤويه-  .. صامت ذليل لايجد رزق يومه ولايحير جوابا على أي تساؤل!! ، أمن الإنسان عندما يعامل معاملة الطفيليات وليس الحيوانات ، فيعيش في المقابر ومقالب الزبالة !!، أمن الشباب الذي لايجد عملا ولازواجا ولامالا ولامستقبلا ، فيهيم على وجهه في الأرض هجرة وعنتا.

فروق مهمة  بين الثورة التونسية والثورة المصرية ، من حيث تركيبة المجتمع ، ومستوى ثقافته ، والتزامه الاخلاقي والتنظيمي ، وعدد السكان ، ونسبة الأمية التعليمية أو الثقافية ، والموقع الجغرافي الاستراتيجي، والدور الإقليمي والتاريخي، وبين النظامين في كل من تونس ومصر ، فالرئيس زين العابدين ، أثبت بحق أنه زين الطغاة العرب،  فلقد خرج يتحدث إلى شعبه ، بلغة الأب المتجبر الذي أدرك بعد فوات الأوان أنه فقد أبناءه بسبب استبداده وبطشه، في محاولة إثر محاولة لاسترداد مكاسبه وموقعه ، كما أنه تمتع ب"فهم" استثنائي !!، فأن تفهم شعبك بعد ثلاثة وعشرين عاما من الاستبداد على الطريقة العربية المعاصرة ، فهذا أكثر مما كنا ننتظر!!، لقد استطاع الرجل أن يفهم أخيرا، وبلهجة أبوية وفي تواضع ، بينما لم يستطع الرئيس المصري غير أن " يعي" -كما قال- مطالب الشعب ، كان يتحدث إلى شعبه حديث المرغم على تقديم التنازلات – ربما لأنه لم يجد بلدا واحدا في العالم يرضى بإيوائه ، لقد سبقه بها بن علي !!- ، ولقد ألقى كلمته تلك ، ووجهه يطفح بالتكبر: غمط الحقوق واحتقار الشعوب!!، ولاتختلف المشاعر المرسومة على وجهه عن تلك المرسومة على وجه "النتن- ياهو" الصهيوني ، كلاهما انتابتهما نفس المشاعر تجاه الشعب المصري وثورته، ولاعجب ، إذن ، أن تبادر "إسرائيل" الصديقة ، بإرسال الطائرات المدججة بأسلحة محاربة الشغب ، شيء طبيعي! ، فمكافحة الشعب المصري وقمعه وسحله ، تعني بالنسبة لإسرائيل مقاومة الشعب الفلسطيني وقمعه وسحله! ، الحرب واحدة ، وساحات المعركة مختلفة ، وجولة الشعب المصري في ميدان التحرير في القاهرة ،هي جولة الأمة في معركة القدس الشريف والحقوق الفلسطينية السليبة .

تلك هي مصر ، أم الدنيا ، التي جعل منها نظام الحكم أم الكوارث ، الأبنية التي كانت تنهار على رؤس أصحابها ، العبّارات التي كانت تغرق ، الطائرات التي كانت تسقط ، والحكومة ماضية في غيّها ، وعصابة السراق لاتلوي على شيء ، لم تشبع من دمائنا ، ولامن أموالنا، لم تشبع من حرق الأخضر واليابس ، والقضاء على الزراعة والصناعة ، والتعليم ، والجامعات ، والإنسان ، " السفارة في العمارة"ماهو بفيلم مصري تنقصه كثير من المواصفات الفنية ، إنه صرخة ذئاب جريحة في وجه السياسات الحكومية ، وانبطاحها أمام العدو وأربابه، "قضية صفية" لم يكن مسلسلا مصريا سيء الإخراج ، كان قضية وطنية مصرية بامتياز ، كشف وفضح مالم يعد مستورا ، "عايزة أتجوز" ليس مسلسلا استثنائيا مع درجة الشرف ، لقد كان صيحة مجتمع يئن بكل مافيه ومن فيه ، من الفساد السياسي ، إلى العفن الاجتماعي ، إلى الانهيار الاقتصادي ، إلى الألم الإنساني ، كانت تلك نفثات أمة ، أمة لم تسكت طويلا ، ولكنها قُمعت طويلا، قُمعت بالتجويع ، قمعت بالتطبيع، قمعت بمحاولات التركيع ، ولكن الشعب المصري لم يركع ، وهاهو في ميدان التحرير يقول لنا أنه لم يركع و، لقد خابت كل توقعاتنا ، ولم يخيب الشعب المصري أمل الأمة فيه!.

لم يبلغ حجم الفساد في مصر درجة سرقة أموال الشعب والدولة ، لتكون في جيوب رجال اعمال باعوا ضمائرهم ودنياهم وآخرتهم بالمليارات التي سرقوها فحسب ، لقد وصل الفساد درجة لم يعد فيها بوسع الدولة نفسها أن تقتني أدنى مايمكن لدولة أن تقتنيه ، كانت سيارات الشرطة وقوى الأمن توحي بأنها تنتمي إلى العصر الحجري ، واضطر بعض المجندين إلى النزول لدفع عربات الجيش المصفحة لدى دخولها القاهرة ،  وقد علاها الصدأ والأعطال! ، وبلغ الترهل من هذه الدولة الناهبة المنهوبة ،أن رجال أمنها السريين كانوا يُعرفون وهم المندسون بين المتظاهرين ب"كروشهم"  المدلاة أمامهم، وبحقدهم الأعمى على أبناء شعبهم ، إلى الدرجة التي كانوا يقومون فيها بقتل رؤوس المظاهرات بدم بارد وبطلقة في الرأس ومباشرة !.

لم يبلغ الأمر بالرئيس التونسي المتخلي عن السلطة ، أن أرسل طائراته الحربية لتخترق حاجز الصوت فوق رؤوس المتظاهرين ، لم يفعل ذلك على مانعلم إلا النظام السوري الذي أرسل طائراته الحربية إلى مدينة حماة لدى ثورة أهلها عام 1981 ليقصف المدينة ويدمرها فوق رؤوس أهلها ، حتى بلغ عدد القتلى على ذمة الإحصائيات وأكثرها مصداقية عشرين ألف شهيد! ، الرئيس المصري قطع شبكة الانترنيت والهواتف الجوالة ، و نسي وأعوانه أن الثورة الفرنسية  قامت قبل ثلاثمئة عام ، يوم لم يكن في العالم أي وسيلة حديثة من وسائل الاتصال!،  وماذا تبقى ياريس؟! أن توقف حركة التنفس ، وتقطع عن شعبك مياه الشرب ، وأن تحرق القاهرة والاسكندرية ، كما فعل نيرون ؟!!.

تبدو مضحكة مؤلمة تصرفات النظام وهو يلفظ انفاسه ، ولعمري أن " الكبير" كان قد أعدّ العدة للخروج من مصر يوم الجمعة ليلا ، ولكن الولايات المتحدة وفرنسة وبريطانيا والاتحاد الاوربي من جهة ، وإسرائيل من جهة أخرى ، وجميع الانظمة العربية المتعفنة من جهة ثالثة ، قاموا بإرغامه على الاستمرار، وهذا هو التفسير الوحيد لتأخره سبعة ساعات في الخروج للقاء شعبه الغاضب ، ولعله يدرك أنه حائط الصد الأخير في وجه هذه الحالة الاستبدادية الانسدادية الرهيبة التي تعيشها المنطقة العربية ، إنه رمز القهر والعمالة ،وساعِد النظام الدولي الأيمن، في قهر ثلث سكان المنطقة العربية ، وتدمير الدولة المصرية ، وتفسخ هياكلها الأساسية الاقتصادية ، وضرب الشبيبة ودفعها نحو اليأس والشعور بالإهانة ، كل ذلك مقابل البقاء في السلطة ، هذه السلطة التي هي وجه البؤس والعار العربيين اليوم ، السلطة التي يستخدمها الغرب متى شاء وكيف شاء ، للحفاظ على مكتسباته في منطقتنا التي تورد له البترول كما اليد العاملة .

لقد قام النظام الدولي الحالي على أنقاض الحربين العالميتين ، و استند بكل قدراته الاستعمارية ، على منطقتنا ، مستفيدا من الثروة الموجودة فيها ، ومن عمالة الأنظمة الحاكمة ، ومن عجز المجتمعات والإنسان عن الخروج من قمقم القهر والتخلف ، إن استمرار النظام السياسي العربي على النهج الذي هو فيه اليوم يعتبر صمام الأمان الأخير لاستمرار النظام العالمي في جبروته وقيامه على جماجم وآلام الآخرين ، واستعباد الشعوب هو الطريقة الأمثل للاستمرار في امتصاص خيراتها ، والاستهتار بإرادتها . من أجل ذلك لم يستطع التوانسة حتى اليوم إزاحة الغنوشي نائب بن علي ، أزيح الرأس وبقي الغنوشي متمسكا بالكرسي تمسك الروح بالجسد ، لأن أربابه منعوه من تسليم الحكم !، ومن أجل ذلك قابلت أجهزة النظام التونسي المتظاهرين بكل قسوة ، ولكنها على الرغم من ذلك لم تصل إلى الدرجة التي عاناها الشارع المصري من هذه الأجهزة المتفسخة ، لاشرف ولاوطنية ولاإنسانية، لقد أجج قمعها  الانتفاضة ، فصارت ثورة ، وسيكون من اولى أولويات المجتمع المصري بعد رحيل "الريس" امتصاص"أدوات" السلطة المهترئة هذه لكي لاتصيب المجتمع الجديد بالتلوث، إن الأنظمة التي تتعامل مع مواطنيها بمثل هذا العنف المتوحش لهي الأنظمة التي تحفر قبرها بيدها .

حتى ساعة كتابة هذه الكلمات مازال النظام المصري متعنتا بفعل الضغط الغربي والعربي الرسمي والإسرائيلي عليه ، وإن هذه الحكومة التي شكلها استجابة لمطالب "كلينتون" التي تخطب ودّ الشعب ، لاتلبي مطالب الشعب ، وهو يراهن الآن على أمرين، الأول خوف الغرب من ان يؤدي التغيير الآتي والمحتمل في مصر إلى سقوط النظام الغربي بأكمله ، بدءا من إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل ، التي ترتع في دمائنا وأعراضنا وأرضنا دون أن تجد من يوقفها عند حد، والثاني المراهنة على قدرة الجماهير على الصبر. كما أنه لم يترك اللعب بورقته التي كانت رابحة حتى الآن ، فيم تعلق بموضوع التخويف من قوة الإسلام ، داخليا وخارجيا ! ، أنا لاأستطيع ان أفهم ولاأن أعي ، كيف يمكن للأنظمة السياسية في بلادنا أن تكون بهذا القدر من الخيانة والعمالة!.

وبينما يتجمع مئات الآلاف في ميدان التحرير في القاهرة ، منادين بحريتهم وكرامتهم ، وحقهم وحق بلدهم في العيش الشريف ، يمضي النظام ، باللعب في الوقت المستقطع على المحاور الدولية والإقليمية ، عن طريق تغيير أحجار الشطرنج التي كانت بيده ، وعن طريق إعلام قميء كذّاب متآمر ، يشوه الصورة ويخرس الصوت ويجعل الباطل حقا والحق باطل ، وتقوم أجهزة قمعه أثناء ذلك ، بقمع الرأي الآخر والكاميرا الأخرى والصوت الآخر ، فتعتقل طاقم الجزيرة ، وكأن الجزيرة هي هيئة دولية كبرى ، وليست وسيلة إعلام كغيرها من القنوات التي تنقل بمهنية ومصداقية  مايجري على أرض مصر، في زمن الثورات الطاهرة الكبرى هذه ، زمن الحرية والكرامة العائدة إلى هذه المنطقة ، من أوسع أبوابها ، باب الحرية الذي يُدق بأيدي هؤلاء الشباب الطاهرة النظيفة ، والتي باتت أنسام فجرها تداعب اليوم كل سكان المنطقة ، من المحيط إلى الخليج ، من القهر إلى القهر ، كائنة ماكانت النتائج التي ستسفر عنها معركة الشعب المصري اليوم مع كل رموز الظلم والتجبر في هذا العالم التعيس.