مبارك: أنا أو الطوفان

د. ياسر سعد

د. ياسر سعد

[email protected]

ما يحدث في مصر الحبيبة والعزيزة أمور تبكي العين وتدمي القلب، فقاهرة المعز ومدن أخرى تتعرض لعمليات نهب وحرق تبدو وكأنها مبرمجة، فيما ردد بعض المسؤولين المصريين كالببغاوات اتهامات للإخوان المسلمين بالوقوف وراء عمليات النهب والحرق والتدمير. غير أن ما يخشاه الكثيرون وقد عايشوا المدن المصرية وهي خالية من عناصر الجيش وقوى الآمن من أن يكون النظام قد تعمد إيجاد فراغ أمني حتى يوجه رسالة للشعب المصري: إما أنا أو الطوفان.

نفس الأمر تكرر في تونس الخضراء حين قامت عناصر مسلحة ومن ضمنها مرتزقة أوربيين بعمليات تخريب واسعة وإجرامية قبيل وبعيد هروب طاغية تونس. حينها اتهم مندوب تونس في اليونسكو مزري حداد،  بن علي بـ "بتعمد إشاعة الفوضى قبل رحيله" و "إدارة العمليات عن بعد". و "باختيار سياسة الأرض المحروقة"، موضحا "لقد أعطى أسلحة وأموالا كثيرة لحراسه الشخصيين ولأتباعه حتى يشعلوا الحرب الأهلية بمجرد رحيله من تونس"، وأضاف أن "هذا المخطط الإجرامي المكيافيللي لم يكن له سوى هدف واحد: استعادة السلطة"، متهما بن علي بتوجيه العمليات عن بعد والإيحاء بأن جرائمه هي من فعل الإسلاميين والمعارضة اليسارية.

إنها نفس المدرسة، مدرسة الطغيان والقمع والنهب والفساد، والتي تتعامل مع الوطن كمزرعة ومع المواطن كرقم وتابع دون اعتبار لحقوقه وكرامته واحتياجاته الإنسانية والأساسية. ومن هذا المنطلق فإن هولاء الطغاة مستعدون تماما للتدمير الوطن وإشعال الحرائق في جنباته وإغراقه في الفوضى -كما أغرقوه في الديون وقيدوا أجياله بالتزاماتها- إذا كان هذا هو السبيل بحسب فهمهم القاصر للبقاء على عرش السلطة والتحكم بالبلاد والعباد.

إن ما حدث في تونس ويحدث في القاهرة وسيحدث في عواصم عربية أخرى ومهما كان الثمن فادحا، لهو أقل كلفة وبكثير من بقاء أصنام الجهل والقهر والتبعية تحكم وتتحكم في بلادنا. لا بل إن الأثمان المكلفة والتي قد نسددها الآن هي ضريبة صمت الأجيال عن حقوقها المسلوبة وسلبية بعض منها في مواجهة الطغيان. لقد حارب نظام مبارك المعارضات والتي ارتضت بقوانين اللعبة السياسية الجائرة والتي هي من صنع يديه، وزور الانتخابات البرلمانية بطريقة فاضحة، فضحتها أكثر الجماهير الساخطة في جمعة الغضب، ثم قطع الاتصالات عن البلاد فأدخلها بمرحلة من العمى الالكتروني، وبالتالي فهو يتحمل تماما مسؤولية ما يحدث في الشوارع من تجاوزات غير أخلاقية من نهب وحرق لا يقبل بها عاقل، ولا يرتضيها محب لوطنه.

إن ما حدث في مصر يستوجب تشكيل لجان شعبية – وفي الأمر درس لشعوب عربية تنتظر دورها- تقوم على حفظ النظام وردع الفوضويين واللصوص والذين قد يكونون من أذناب النظام وعملائه. ولعل أكثر من يمكن أن يقوم بهذا الأمر في مصر هم جماعة الأخوان المسلمين مع الحرص الشديد على عدم رفع شعارات حزبية ولا حتى دينية والالتزام بالقيم الوطنية والإنسانية والتي هي من صميم المفاهيم الإسلامية.

لقد أظهر مبارك في خطابه الأخير، غيابا واضحا للحس وانعداما كاملا للمسؤولية وهو في تشبثه بالحكم إنما يدفع بالمتظاهرين لتصعيد مطالبهم من رحيله السلمي إلى محاكمته وحاشيته، خصوصا إذا ثبت أن نظامه تعمد إيجاد فراغ أمني لترهيب المواطنين وبث الرعب في قلوبهم. على الدول الغربية وعلى رأسها واشنطن التوقف عن دعم الطغاة والطغيان في بلادنا، أما كلماتهم الفضفاضة حين تثور الشعوب فهي غير مقنعة وتدل على نفاقهم وانعدام المبدئية عندهم. وإذا كانت الدول الغربية جادة في تجميد أرصدة بن علي وملاحقته، فدعونا نذكرهم بأن الكثير من الأرصدة الموجود الآن عندهم لطغاة عرب هي مثل أموال بن علي، منهوبة ومسروقة. كما إن الكثير من العقود والصفقات والتي تعقد مع أنظمة عربية دكتاتورية وتنبعث منها روائح الرشاوى هي نهب لمقدرات شعوبنا وتعميق للفقر والبؤس في بلادنا، وبالتالي فهي مشاركة غربية فعالة في قهرنا وتدمير مستقبل أجيالنا.

الانتفاضة الشعبية العربية ليست ضد الاستبداد والقهر والفساد فحسب، بل أيضا ضد التبعية والمواقف السياسية المهينة وهي بالتالي توجه رسائل سخط على التدخلات الغربية المرئي منها والمخفي في شئوننا.