تونس تنفذ وصية شاعرها الشابي

أحمد الهواس

أحمد الهواس

[email protected]

أخيرا نفذ الشعب التونسي وصية الشابي , وقرر أن الحياة بيد الشعب موقوفة على إرادته فقط, وليس على إرادة الطغاة , أو على رغبة المعارضين , فلم يكن الشعب  يجهل ما تمارسه السلطة من  فساد وصفته وثائق ويكيلكس (أن الحكم في تونس أشبه بالمافيا ).

في تونس كان كل شيء يوحي أن الشعب استكان لإرادة الحاكم الذي كان لا ُيري الناس إلا ما يرى ..! فقد بدت المعارضة مهمشة وضعيفة , والشعب يمضي بإرادة الحاكم نحو الفساد , والتغريب , وضياع الهوية , حروب متعددة شنها النظام مستكملا مسيرة تغريب تونس التي بدأت مع سلفه بورقيبة , فحرب ضد هوية تونس الإسلامية , وأخرى ضد العروبة , وحرب ضد الصوت الآخر من صحافة وإعلام ونقابات ..ولكن الحقيقة أوضحت أن نظام الطغاة أوهن من بيت العنكبوت .

إن كل ما مرّ في تونس  جعل لدى الحاكم قناعة مطلقة أن البلاد والعباد باتت مطواعة لإرادته , بل ولإرادة المفسدين المقربين من أسرته وأصهاره , وكل من بايعه زعيما مطلقا من أنصار حزبه التجمع الدستوري الديمقراطي , فتمخض المشهد عن حقيقة أخرى لا دستور ولا ديمقراطية .

 فاخر وافتخر بما أسماه المعجزة الاقتصادية التونسية (كما وصفها جاك شيراك) , وإذ تنتهي الأمور إلى تسلط ثلاث أسر باقتصاد تونس , أدعى التغيير حين أطاح بكبيره الذي علمه السحر , وإذ به يمضي نحو تغيير أصالة تونس نحو الخلاعة والمجون وتعطيل الحياة السياسية ... وجعل تونس القيروان وجامع الزيتونة مجموعة من حانات وشواطئ سياحية تجذب شذاذ الآفاق من كل حدب وصوب , وغره ما كان يطريه عليه ساسة الغرب من انفتاح على الدول الغربية , والمضي بتونس لجعلها أنموذجا في  التخلي عن القيم والعادات والتقاليد ..

لم يصمد الحاكم المطلق لشهر واحد منذ أن أحرق الشاب بوعزيزي نفسه احتجاجا على الظلم والبطالة , والفساد وانسداد آفاق المستقبل ليس أمامه فحسب بل أمام أجيال تعاني ما عانى بوعزيزي .. فكانت شرارة الحرية التي لم يطلقها حزب معارض , ولم يُنظر لها مفكر هارب من بطش النظام , ولم يقم بها الجيش رافعا شعارات طنانة .. كانت رغبة جامحة تمور في أنفس الناس , وهكذا صنع البوعزيزي عزة تونس , ولم يغمض عينيه قبل أن يلقي نظرة وداع على رئيس باتت أيامه معدودة , فبين مودع للحياة بات رمزا لكل أحرار تونس , وبين مودع للحكم نبذته الجماهير ..! وهكذا توسعت شرارة الحرية من سيدي بو زيد إلى بقية مدن تونس لتصل إلى العاصمة , وحين بدأت الاحتجاجات كان زين العابدين يراها أعمالا إرهابية , ولكنه حين شعر أن النار بدأت تقترب منه , راح يعزل المستشارين ووزير داخليته ليس تنازلا أمام رغبة الثائرين والمحتجين بل أن السيناريو الذي نفذه بسلفه وهو على رأس هذه الوزارة – وزارة الرعب – كما تعرف في تونس , قبل أن يصبح الوزير الأول وفي شهر واحد أقال بورقيبة , كان هذا السيناريو يمر أمام عينيه فقال بنفسه : بيدي لا بيد عمرو ! ولكن الشعب طلب الحياة واستمر بالعصيان واستخدام الحجارة , متحملا الرصاص الحي والهراوات والإهانات , وبدأ قبل الهروب يستعطف الناس مبشرا بالقادم الأجمل وبصرف خمسة مليارات للتنمية , وأنه لن يكون رئيسا أبديا , وقد ادعى قبل ذلك أنه خُدع من مستشاريه والآن فهم التونسيين..! مؤكدا على حقيقة مفادها أنه يعيش في قصره العاجي غير مكترث أو غير مبال بالناس لثلاثة وعشرين عاما..!

وجاءت الجمعة الرابعة على بدء الاحتجاج والعصيان , ووقف تسعة ألاف أمام وزارة الداخلية , رمز الظلم والعبودية في تونس فانهار الرئيس , وفرّ خارج البلاد كما توقعت النيويورك تايمز قبل أيام أن بن علي جهز أربع مروحيات للفرار خارج البلاد ..؟

وانشغل الناس بين ظهور الوزير الأول محمد الغنوشي معلنا أنه سيتولى مؤقتا سلطات الرئيس , وبين مصير بن علي , وإذ تضيق الأرض عليه بما رحبت , فلم تستقبله أية دولة أوربية , وتضاربت الأنباء حول نهاية رحلته  قبل أن تحط أخيرا في جدة , بعد أن رحب العالم أجمع بما قام به الشعب التونسي , فقد أطاح بدكتاتور دون حاجة لأحد ودون أن يبيع بلده وحضارته .. وهاهم مداحو الأمس يرفضون استقباله ويرونه ديكتاتورا أطاح به شعب عظيم , بل وصل الأمر بأوباما أن يشيد بما فعل التونسيون ..

ماذا كان لو أن مدعي التغيير والعهد الجديد في إعلان السابع من نوفمبر 1987 بأن جعل من تونس دولة مؤسسات , وأقر مبدأ تداول السلطة , وقضى فترة أو فترتين للرئاسة , وخرج من السلطة ليترك المكان لمن تختاره الجماهير عبر إرادة حرة بين أحزابها ونخبها , هل كان يحتاج لأمن دولة أخرى حتى يخرجه من البلاد , وهل كان سيبقى في الجو لساعات يجوب سماء أوربا ولا أحدا من حلفاء الأمس يرضى بأن يقبله لاجئا وهو في الخامسة والسبعين من العمر..؟

الشعب التونسي لم يرض بأن تنتهي السلطة لرمز من رموز النظام , سواء كان الانتقال دستوريا أم مخالفا للدستور , فهو يرغب بنهاية النظام ككل وانبعاث تونس من جديد , ولأن الثورة يصنعها المفكرون ويخوضها الأبطال ويحصد نتائجها الجبناء , فقد استمرت المظاهرات , حتى لا يصادر النجاح الذي حققوه , ليظهر مشهد رعب جديد انتشار مليشيات صنعها النظام لحمايته وإرهاب الشعب  تنشر الرعب بين الناس وتنهب الممتلكات في محاولة لإغراق تونس في فوضى تجعل الشعب الذي صنع المعجزة يتباكى على أيام الديكتاتور , أو أن يقبل بمن جاء بعده من مؤسسة فاسدة , وهنا يقع العبء الأكبر على مؤسسات المجتمع المدني في حماية تونس شعبا ومؤسسات , وأن يلعب الجيش دوره الوطني في السيطرة على الانفلات الأمني وعودة الاستقرار للمدن التونسية .

نهاية بن علي لم يكن يتوقعها أحد , بل لم تكن تخطر على بال أحد من الموالين أو المعارضة , ولكن ما حدث في تونس هو زلزال أسقط عرش طاغية في محور الزلزال, ولكن التداعيات التي تتخطى تونس ربما ستكون أكبر ..