التعري قطعة... قطعة

د.عبد الغني حمدو

د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري

[email protected]

[email protected]

إنهم ينزعون ربطة العنق , ثم السترة , لتدور حفلة الرقص , يشترك فيها أبطال الجمهوريات , وسيلحقهم بعد ذلك , أبطال الممالك , في حفلة التعري  الأخيرة

وداعا يا حبيبتي

وداعا يا شعبي

وداعا يا مالي

من أين أتيت , أيها البائس , أيها المشرد والفقير حتى , تجبر أمثال هؤلاء على حفلة التعري تلك ؟؟؟!!!

في الشوارع العربية من مكناس إلى دمشق تعرج بعدها جنوبا لتصل الخليج

تشم رائحة اللحم المشوي , في كل مكان , في الشوارع التي كانت في يوم من الأيام فقيرة

في تلك الزوايا لم تجد فيها بعد الآن , عاطل عن العمل , ولا متسول , وكبار السن تراهم في زينة ما بعدها زينة

تزهو الحياة بهم , زهورها بورودها وأزهارها , الشوارع نظيفة , لامعة تشتاق لقشة من حبة قمع تعكر جمالها , تعزف الأماكن في الليل , سمفونية الهدوء والسكينة والرقة والجمال , تغرد طيور الليل بصوتها المخملي في أماكن متفرقة , كانت تلك الليلة راقية رقي العروس والعريس , فيها أبهى وأغلى أنواع الزينة , والبسمة مرسومة على شفاه الجميع

وصوت آذان الفجر , مع صوت الديك تخرج سوية , تطرق مسامع المؤمنين , لتعلوا أفواههم بالتشهد لله , والخير المنتظر الكثير في اليوم والذي يليه

انتهى فصل الخريف , والذي استمر قرون , ولكن بدأت الفصول تتناوب على أرض الله , متزينة بزينة خالقها وزينة الناس الساكنين , بألبسة كل فصل , لتغطي الأرض زينة وبهاء ومحبة بين الجميع

وعلى الجانب الآخر عند أبطال الجمهوريات

تشع من عيونهم أشعة حمراء , ووجوه زرقاء , وغضب

حيرة وقشعريرة وخوف

عبوس قمطريرا , رسمت لكل واحد منهم خريطة جينية , اختفت الجينات المسببة   للضحك أو الابتسام حتى , ولم يعد يشغلهم إلا شيء واحد

في قاعة تضمهم جميعا

في حفلة بسيطة , يفترشون الأرض العارية , يغمسون قطعا من خبز يابس في ماء فيه قليل من السكر , ويأكلون طعامهم البسيط هذا

سيكون هذا طعامنا وإن رزقنا ببعض من حبات التمر يتصدق علينا فيها , تكون نعمة كبيرة قد جاءتنا

ويقول أحدهم احمدوا الله على هذا النعمة

فيقابله الجميع بالحمد والثناء

ذلك هي مهمتنا , على خطى الفاروق سنقول لمعداتنا:

 لن تذوقي ما لذ من الطعام إلا الزائد من فتات أهلنا , ويكفي أزواجنا وأولادنا قطعة قماش تستر عوراتهم , وطعام العدس والخبز , إنها نعمة كبيرة لهم ولنا

يقول كبيرهم , لقد لفحني البرد , وأشعر أن جسمي قد فقد إحساسه من شدته , فقد وهبت كل ما أملك , من مال وعقارات ومدن سياحية وقصور ومدخرات بنكية , والهدايا والتحفيات , والفرو الغالي , ومصوغات النساء والبنات والعربيات كلها , وأخيرا لم يبق عندي إلا البذلة الرسمية فتخليت عنها , من ربطة العنق حتى السروال والتي كانت تساوي عشرات الألوف , واستبدلت ساعتي من الماس , بساعة رملية , ولم يبق عندي إلا كرسي العرش , وسقطت قوائمه كلها ماعدا قائمة واحدة , أجلس عليها

ويجيب أوسطهم , لم يبق عندي إلا مثلك , وأصغرهم يقول لم يبق عندي إلا هذه السلسلة , في عنقي , وأشعر فيها أنها  تكاد تخنقني , وأحاول أن أنزعها, ولكنها تغور أكثر فأكثر

ويقول مفكرهم الواعي العظيم

الحمد لله أننا وجدنا من يوقظنا من غفلتنا

الحمد لله الذي سخر لنا ذلك المسكين البائس في تونس (محمد البو عزيزي) رحمه الله رحمة واسعة , ويردد البقية آمين , كنا غارقين في الترف والظلم ونهب خيرات الوطن ونعري أنفسنا أمام , أبطال الجمهوريات في الشمال , ونستر أنفسنا أمام أهلنا , ونعريهم أمامنا , وأمام أعدائنا

لم نكن نعلم حجم المآسي لولا , لولا شباب تونس

لقد أشعرونا بأخطائنا , وظلمنا وفشلنا , وبخلنا وشحنا , ونفوسنا التي لا تشبع من النهب والسلب والظلم

يا رب لقد ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا بعد أن تنازلنا عن كل ما نملك , وعرينا أنفسنا , ولم يبق ما نستر فيه إلا عوراتنا , حتى يرضى الناس عنا بعد رضائك أنت

يا رب أنسهم مآسي الماضي , وأنسهم الانتقام منا , لقد تبنا يا رب , ولن يبق عندنا إلا رجل العرش

ويؤمن الجمع على دعائه

ويدخل القاعة مجموعة من الأطفال

فيدخل الرعب في قلوب الجميع , وبدأ الأطفال يضحكون عليهم , ويرمونهم بحبات من الحمص كانت موجودة في جيوبهم , ويهتفون:

 مجانين ... مجانين

فهرب الجمع واتجهوا هائمين

ووصلوا لمكان في بلاد الحجاز

فقال مفكرهم , علينا أن نغسل ذنوبنا بالحج لبيت الله الحرام

فوافقه الجميع ومشوا خطوات

ثم توقفوا

فقال لهم لماذا وقفتم

قال الجمع بصوت واحد

وهل نستطيع أن نخرج من صداقة الشيطان ليكون عدوا لنا ؟

فقال لهم وقد تبتم رأفة بالناس

قالوا تعرينا حتى يبق الخازوق , ولكنهم طمعوا حتى بالخازوق ولم يتركوه لنا

 وقالوا عنا مجانين

سنذهب لعند أبطال المماليك

وتوجهوا لعندهم

وفي الطريق انضم إليهم مجموعة من الأبطال تلاحقهم حصى الأطفال وسخرياتهم , ويقولون:

مجانين.. مجانين