تصحيح المصطلحات لإيقاف التضليل

مخلص برزق

مخلص برزق*

[email protected]

يعمد الساسة والعلماء والمفكرون وأصحاب الرأي إلى ضبط وتصحيح المصطلحات الخاصة بأي قضية يتم طرحها للتداول إعلامياً أو سياسياً، أو حتى على مستوى القضايا الخاصة والشخصية، كي يتم التعامل معها بطريقة صحيحة تفضي إلى وضع حلول ناجعة لأي مشكلة أو معضلة تواجه تلك القضية. ومن هنا فإن ضبط وتصحيح المصطلحات المتداولة بشأن القضية الفلسطينية هو عمل بالغ الأهمية للتوصل إلى رؤية سليمة للأحداث ومن يقف خلفها، والتعامل معها بإيجابية توصل إلى استنتاجات صحيحة يمكن أن يبنى عليها أعمالاً تسهم في التعامل بشكل صحيح مع الأحداث والأشخاص. ونحن لا نجاوز الحقيقة إن قلنا أن حرب المصطلحات بيننا وبين الاحتلال الصهيوني تأججت منذ اللحظة الأولى للصراع، ولا يزيدها تعاقب الأيام إلا اضطراماً، ومن ذلك مصطلح النكبة والمقاومة والإرهاب وغيرها.

أما الشأن الفلسطيني الداخلي، فقد عصفت به –وما تزال- حروب مصطلحات ضارية، استعر أوارها عقب فوز حركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، وما تلاها من أحداث تدحرجت في غزة انتهاءً بالحسم العسكري الذي يسمى أيضاً بالانقلاب ضمن حرب المصطلحات، ومع ازدياد الاحتقان في الضفة المحتلة وحصول تغيرات دراماتيكية في كل مفاصل الحياة هناك، فإن الحاجة تزداد إلحاحاً لضبط وتصحيح المصطلحات المتداولة، كي تتضح الحقيقة وتنكشف الأضاليل والأكاذيب التي تغلفها وتخفيها كثير من المصطلحات المفبركة والتي سأتناول اثنان منها على أمل أن يتداعى الغيورون على هذه القضية لضبط وتصحيح كافة المصطلحات المتعلقة بها.

مصطلح التنسيق (التعاون) الأمني

عند كل محطة ترتكب فيها جريمة بالغة البشاعة بحق شعبنا ومجاهدينا على يد عملاء الاحتلال في الضفة المحتلة، يخرج علينا إعلام حماس الغاضب بتحميل المسؤولية لما يطلقون عليه اسم سلطة فتح أو سلطة عباس وأجهزته الأمنية، وعندما يطفح الكيل ويتم رفع مستوى الاتهام إلى الذروة، يتم الحديث عن جريمة تدعى التنسيق الأمني أو التعاون الأمني مع الاحتلال الصهيوني!!

وفي المقابل لا يكاد الطرف الآخر يبالي بما ينعت به، كونه لا ينكر تلك الأوصاف ولا يراها تقدح فيه من قريب أو بعيد، بل إنها تشعره أحياناً بالنشوة والفخر، خاصة أنه يستخدم مصطلح التنسيق الأمني ذاته تعبيراً عن خدمة وطنية يدّعي أنه يؤديها للشعب، والتزاماً أدبياً بخارطة طريق يحاجج به العالم على حسن نواياه في مقابل عدو لا يلتزم بتلك الاتفاقات!!

إن ذلك المصطلح لا يعدو كونه كذبة كبيرة يتم تسويقها على شعبنا وأمتنا بقصد أو عن غير قصد، وهو ما يستدعي وقفة جادة وحازمة من كل إنسان صادق مع ربه، مخلص في توجهه، وقّاف عند الحق تبييناً ونصرة له..

أما أولئك الذين تحتضنهم آلة الحرب الصهيونية، وتستخدمهم أدوات رخيصة لتنفيذ مخططاتها القذرة بحق المقاومين والمجاهدين وسائر أبناء شعبنا، فالأمل مقطوع في إمكانية عودتهم إلى الجادة، كونهم أصحاب سوابق وجرائم لا تغتفر، وكونهم لم يتعظوا بما جرى لهم في غزة كنتيجة حتمية للظالمين، وما زادهم نصح الناس لهم إلا غروراً واستكباراً في الأرض وإجراماً وإيغالاً في العمالة والخيانة.

وأما حركة المقاومة الإسلامية حماس وغيرها من فصائل المقاومة والممانعة، فالمسؤولية تطوّق أعناقهم أمام الله تعالى، وأمام شعبهم وأمتهم والتاريخ أن يبيّنوا ويصدحوا بالحق الصراح، ولو تجرعوا الغصص والعذاب والمرارة لأجل ذلك، فإنما ذلك جزء من المستحقات التي تلحق بالسالكين درب العزة والمجد.. وإذا كانت حماس تنأى بنفسها عن ممارسة السياسة بمفهومها الشائع أنها "فن الكذب"، فلا يجوز لها أبداً أن تقبل أن يمارس الآخرون عليها ذلك الفن وتتعامل معه على أنه سياسة لا تقبلها هي ولكنها لا تملك أن تعترض عليها لأن البعض في هذا العالم المتناقض يقبل بها، والأصل في ذلك ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لست بالخب ولا الخب يخدعني".

آن لنا أن نجرّم من يستخدم مصطلح التنسيق الأمني أو التعاون الأمني، كونه يقلب الحقائق أو على الأقل يخفي أكثرها. فإيحاءات ذلك المصطلح خادعة كاذبة ويترتب عليها تزويراً لا نقبل أبداً به، كونه من أكبر الكبائر كما شدد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله "ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور"..

إن الخطورة التي تكمن وراء ذلك المصطلح أنه يعطي إيحاءً أولياً بأن هناك قوتين متكافئتين، كل منهما يملك قراره وسيادته، يقومان بالتعاون والتنسيق في أمور محدودة وبسيطة تجلب المصلحة والمنفعة لكليهما.. وهذا غير صحيح البتة، فالكيان الصهيوني لا يعترف للسلطة الهزيلة بأي سيادة ولا يقر لها بأي تصرف حر، بدليل أن عباس اعترف بنفسه لرئيس وزراء قطر أنه محكوم من قبل الصهاينة، وأنه يأخذ الإذن منهم في كل تحركاته وتنقلاته هو ورئيس حكومته اللاشرعية فياض، كما أن الأجهزة الأمنية المنسوبة لتلك السلطة محكومة بضوابط صارمة من قبل العدو ولا يسمح بتجاوز أي منها مهما تكن الأحوال..

هي سلطة مسخ لا حول لها ولا قوة، ولا سيادة لها، لا على مناطق "أ" ولا على غيرها من المناطق، والدليل على ذلك استباحة جيش العدو لرام الله والخليل ونابلس وجنين لتنفيذ جرائمه بحق أبناء شعبنا، دون أن يملك عباس، أو أحد من قادة الأجهزة الأمنية العميلة أن ينبس ببنت شفة، أو أن يحرك بيدقاً واحداً في وجه عصابات الاحتلال لتحول بينها وبين تنفيذ جرائمها المتكررة بحق شعبنا وأرضنا ومساجدنا ومقدساتنا. سلطة لا تحظى باحترام من تزعم التنسيق معهم، ولا يرى ليبرمان بأساً في وصفها بأنها سلطة غير شرعية لا تمثل الفلسطينيين.

إن مما يوحيه ذلك المصطلح أن هناك "مجرد" تنسيق بسيط لا يشمل كل الأمور الأمنية، وفضلاً عن أن ذلك يجافي الحقيقة بأن هناك تبعية كاملة وولاءً مطلقاً لأجهزة العدو، وتبليغاً دقيق عن كل صغيرة وكبيرة، فإن إطلاق مصطلح التنسيق الأمني يبرّئ تلك الأجهزة الضالعة في ارتكاب جرائم لا تغتفر مع أجهزة العدو.

إنه يعطيها المبرر والعذر بأنها إنما تنسق تنسيقاً جزئياً لا كلياً مع الاحتلال، وليس الأمر كذلك كما سبق ذكره، بل هو عمالة كاملة تصل إلى أبعد من مجرد تلبية أوامر المحتلين بتعدي ذلك إلى القيام بجرائم إضافية إرضاءً للأسياد المحتلين، منها ممارسة أساليب قذرة في البطش والتعذيب والإهانة لا يقوى الاحتلال على استخدامها خشية التعرض لتبعاتها. كالتعذيب المتواصل حتى الموت، وتعرية السجناء فترات طويلة جداً، والحرمان من المصاحف، وتعمد سب الذات الإلهية بشكل متواصل، والقيام باعتقال النساء وتعذيبهن.

إن التساهل في استخدام مصطلح التنسيق الأمني يتسبب في التغرير بالكثير من الشباب الذين لا يجدون غضاضة هم أو أهاليهم في الانتساب لتلك الأجهزة المجرمة، بحجة أنها تمارس دوراً وطنياً خالصاً لا يمكن – بنظرهم – أن يقدح فيه "شيء بسيط" من التنسيق "الاضطراري" مع قوات الاحتلال.. والحقيقة أن أولئك الشباب يتورطون لحظة انتسابهم لتلك الأجهزة بالعمالة للمحتل، وتنفيذ مخططاته وأجندته على أرضنا المحتلة، ويساهمون في تثبيت دعائمه وأركانه ويحمون أمنه ويطيلون عمره. هذا كله "كوم"، وتحمّلهم أوزار الجرائم التي ترتكب بحق المجاهدين والمقاومين بالقتل والاعتقال والتعذيب والتسليم للعدو والتعرض بذلك لدعوات أمهات الشهداء والمعتقلين وآبائهم وأهاليهم ليل نهار "كوم" آخر..

إن التعذر بالتنسيق الأمني يوحي بأن تلك السلطة ليست كياناً مصطنعاً يمارس دوراً وظيفياً يتماثل كثيراً مع سلطة الخائن العميل أنطوان لحد، مع فوارق تجعلها أشد بؤساً وعمالة وخيانة، فهي بالمحصلة ليست سوى جزء من مخطط دولي وإقليمي يفرض عليها فرضاً أدواراً بعينها لا تملك أن تتجاوزها قيد أنملة..

ولذلك فإن من المغالطة الكبيرة تسمية أجهزتها بأجهزة فتح أو أجهزة عباس، وهو ما سأعرض له في المصطلح الآخر.

مصطلح أجهزة فتح أو أجهزة عباس

الأمر لا يخفى على ذي لب، فليس لفتح أي دالة على تلك الأجهزة، وليس لها أي سيطرة عليها وكذلك الحال مع عباس، لأنها ببساطة مجموعة من الأجهزة التي يتم إنتاج وتصنيع أفرادها (الفلسطينيون الجدد) في مصانع خارجية، وبمواصفات دقيقة يشرف على منحها شهادة الجودة (الأيزو) الجنرال الأميركي دايتون وخَلَفه ميلر، وأي اسم آخر تفوّضه الإدارة الأميركية لذلك الغرض، ذلك أننا نخطئ إن نحن اعتبرنا أن تلك الأجهزة هي مشروع شخصي للجنرال الأميركي كيث دايتون، لأنها في حقيقة الأمر تتبع لمخطط أعم وأشمل منه شاركت في صياغته الإدارة الأميركية السابقة واعتمدته الإدارة الحالية وساهمت فيه إلى جانب الكيان الصهيوني دول أوربية وأخرى عربية.. وهو ما يجعل كل تلك الأطراف شريكة شراكة كاملة في إثم الجرائم المرتكبة وفي وزر الدماء الزكية المراقة.

إن وصف تلك الأجهزة بأنها أجهزة فتح يوحي بأن "فتح" مازالت موجودة على أرض الواقع وأن لها أجهزة أمنية خالصة لها تلعب دوراً مؤثراً في صياغة الأحداث!!

وهي توحي بأن فتح لم تمت كما يروج البعض، وأنها ليست ضعيفة أيضاً، بدليل أن خصمها الأقوى حركة حماس تنسب لها أجهزةً أمنية باطشةً تتلاعب بمصائر الملايين في الضفة، تسرح وتمرح كيفما تشاء دون أن يقف في وجهها أحد.

والحقيقة أن حركة فتح ما عاد لها أي وجود مؤثر على أرض الواقع، إلا إذا اعتبرنا أنها تحولت تحولاً كاملاً من حركة تحرر وطني إلى ذلك الكيان الوظيفي البائس الذي يستخدمه الكيان الصهيوني والولايات المتحدة ودول غربية وأخرى عربية لتنفيذ أغراض خاصة.

الأدهى من ذلك أيضاً أن نسبة تلك الأجهزة لعباس تبث رسالة مغلوطة مفادها أن عباس ليس رئيساً ضعيفاً، وأنه ليس "كتكوتاً منتوف الريش" كما وصفه شارون، ولكنه –حسب ذلك المصطلح- صاحب سطوة أمنية قوية، وأنه صاحب قرار نافذ، فبإمكانه أن يصدر قراراً بالإفراج عن المعتقلين ويتم له ذلك على الفور!!

والحق أن تاريخ القضية يشهد بأنه لم يمر عليه مثيل له في ضعفه وإساءته للقضية، وهو الذي اعترف صراحة أنه لا يملك قرار الإفراج عن أحد من المعتقلين في سجون الضفة، وقد تأكد ذلك بعد المسرحية القذرة التي حيكت فصولها مع الاحتلال ليتم تسليم المعتقلين المضربين عن الطعام لقوات الاحتلال بعد ساعات من الإفراج عنهم تلبية لوساطات من أمير قطر والشيخ رائد صلاح حسب ادعاء عباس والأبواق الكاذبة المحيطة به.

ولسنا بحاجة هنا إلى وثائق ويكيليكس لتؤكد لنا أن قادة العدو راضون عن أداء عباس، وأن نتن ياهو يصفه بالرئيس الطيب ذو النوايا الطيبة تجاه "إسرائيل"، فالأمر واضح كالشمس في رابعة النهار وما خفي كان أعظم.

إن التسمية الحقيقية لتلك الأجهزة يكون بربطها بمصدر تلقيها للأوامر، والذي هو قطعاً الأجهزة الأمنية الصهيونية، سواء من الشاباك أو أمان أو الموساد أو جولاني أو القوات المستعربة أو غيرها من جهات القرار النافذة الموجِّهة لها ب"الريموت كنترول"، المتحكمة بها وبكل أعمالها وسجلاتها وتحقيقاتها.. إنها أجهزة عميلة وكفى.

ولنا أن نختم بأن إطلاق اسم المشروبات الروحية على الخمر لا يغير حقيقة كونها خمراً محرمة في الكتاب والسنة وهو ما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: " إن ناسا من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها" ولنا أن نقيس على ذلك بالقول: " إن ناساً ودولاً وإعلاماً يغيّرون مصطلحات العمالة والخيانة إلى تنسيقٍ وتعاونٍ أمني.. يسمونها بغير اسمها وليس لهم ذلك".

                

*  كاتب فلسطيني مقيم في دمشق.