حجُّ العقول العربية الجميلة

أدباء الشام

حجُّ العقول العربية الجميلة

عندما رأيتُ، رؤيا القلب لا العين، أبناء ثلاثة أجيال من عقول عربية جميلة يطوفون بين الصفا والمروة، بكيتُ. منير نايفه، أستاذ الفيزياء في جامعة "إيلينوي" بالولايات المتحدة، وأبناؤه الثلاثة؛ حسن (دكتور علوم الكومبيوتر في شركة "آي بي إم")، وعمّار (دكتور هندسة كهربائية من جامعة "ستانفورد")، وأسامة (دكتور تكنولوجيا النانو في "معهد ماساشوستس للتكنولوجيا")، والأم، والشقيقات، والزوجات، والأحفاد. وسبحان الذي جعل ذرية مُزارع فلسطيني ترفع راية البلد المحتل من حافة العدم إلى قمة العلوم العالمية. أعمام الأسرة؛ علي (أستاذ متميز في الهندسة الآلية بجامعة فرجينيا)، وعدنان (أستاذ الهندسة الفضائية بجامعة "سنسناتي")، وتيسير (رئيس مركز الفضاء في ولاية كليفلاند)، ومعظم أبناء العم علماء، بينهم طارق علي نايفه الذي يحمل شهادتي دكتوراه في الطب وبالهندسة الآلية.

و"هات يا بو الهيهات"، كما يقول الفلسطينيون. فالطريق الطويل إلى قمة العلوم العالمية نزحته أسرة نايفه بحثاً عن عمل، وسكن، ومدرسة في طولكرم، ورام الله، والبيرة، وجنين، واللد، والمنارة، والقدس، وعلى امتداد نهر الأردن، وحتى مدينة إربد، وقرية "صبحه وصبيحه" على الحدود الأردنية السورية. وكان يمكن لهفوة أو صدفة في سنوات الاضطراب والقحط منتصف القرن الماضي أن تقضي على سلالة علماء من قرية "شويكة" المغمورة التي قطّع الاحتلال أوصالها. عبقرية الابن البكر علي، الذي شق طريق الأسرة إلى العلوم، كانت ستضيع في تدبير عيش أشقائه السبعة، لولا إصرار الأب على الكدح رغم فقدان أرضه، وعطل يده اليمنى بسبب حادث، وكان علي سينتهي إلى السجن كآلاف الشباب الفلسطينيين الموهوبين، لولا شجاعة الأم في خداع المخابرات.

قصص توجع القلب ظرافتها في مذكرات منير نايفه بالإنجليزية، "رحلة عبر العلوم والتكنولوجيا إلى عالم النانو". وقعت حادثة المخابرات في البيرة عندما طرقوا باب المنزل، ومعهم قائمقام البلدة، وهو صديق للأسرة اعتذر للأم، وكانت وحدها وابنها منير، بأنهم يبحثون عن منشورات محظورة، ومعهم إذن قضائي بذلك. فتشوا داخل الخزانات والأدراج والصناديق، وكان القائمقام يدردش مع الأم، فيما كانت ترقب كل حركة يقوم بها مستخدمو المخابرات، وعندما اقتربوا من دُرج معين حثتهم بلهجة واثقة على مواصلة البحث، فأدراج كثيرة تنتظرهم كهذا الدُرج. واعتذر القائمقام من "الحاجة" وطلب منهم الاكتفاء، وحالما غادروا انهارت على الأرض، وأوشك منير المتعلق بأمه أن ينهار معها لولا طلبها، وهي توشك على الإغماء التأكد من ابتعادهم عن الدار، مشيرة إلى الدُرج الذي توقفوا عنده "المنشورات هناك يا ابني"!

وسعي النازحين لأجل العلم حج دائم، ليس بحركته الروحية فحسب، بل بالحركة البدنية أيضاً. فيه ندرك قول الرسول صلى الله عليه وسلّم: "قليل العلم خير من كثير العبادة". وقد كان أبناء نايفه يلوذ بعضهم ببعض، متطلعين على امتداد القرى والمدن والدول التي نزحوا عبرها، إلى جذوة شقيقهم علي الذي نال خلال أربع سنوات من التحاقه بجامعة "ستانفورد" شهادات البكالوريوس، والماجستير، والدكتوراه في العلوم الهندسية؛ محققاً رقماً قياسياً لم يبلغه أحد في الجامعات الأميركية التي تحتل الأولوية في العالم. وبعد عقدين شق علي الطريق بالاتجاه المعاكس جاعلاً من هجرة الأدمغة العربية كسب الأدمغة. ساهم في ثمانينيات القرن الماضي بتأسيس ورئاسة جامعة اليرموك بالأردن، وأصبح أبناء الأسرة الذين تابعوا مثاله نجوماً في ظاهرة "شبكات الأدمغة العربية العابرة للحدود". عدنان، أستاذ هندسة الفضاء في "جامعة سنسناتي"، عمل سنوات عدة في جامعات "اليرموك"، و"قطر"، و"الهاشمية"، وترأس "جامعة الزرقاء" بالأردن. ومنير لا يقيم بالعالم العربي، لكن العالم العربي يقيم به جمعيات ومؤسسات علمية ومؤتمرات وبرامج أبحاث مشتركة عربية ودولية، وكان من أول الذين نبهوا المجتمع الأكاديمي العالمي إلى الأداء المتميز لجامعتي "الملك سعود" و"الملك فهد" اللتين دخلتا أخيراً تصنيف الجامعات العالمية.

ومنير مختص في "فيزياء النانو" حيث "حقيقة المادة ليس في مكوناتها، بل في ما يحدث لها". وقد حدث له الكثير منذ اختار الفيزياء عملاً بنصيحة أنطوان زحلان، رئيس قسم الفيزياء بالجامعة الأميركية في بيروت، فتخلى عن الهندسة التي يعتبرها معظم العرب ضمان الحصول على دخل وعمل محترمين. وكان يدهش بنفسه كيف تكوُّنه أحداث مستحيلة انتهت به إلى الصفوف المتقدمة من البحث عن أخطر الأسئلة العملية للفيزياء النظرية. "تحطيم الذرات أنتج الطاقة النووية والقنابل الذرية، ماذا يمكن أن يحدث لو استطعنا بدلاً من تفجير الذرات التحكم بحركتها وتغيير مواقعها وإعادة ترتيبها؟". طرح السؤال عام 1959 ريتشارد فاينمان، أحد أشهر عباقرة الفيزياء في القرن الماضي، ورجّح إيجاد طريقة لذلك في مستقبل بعيد. وبعد عقد تقريباً كان منير من أول العلماء في التاريخ الذين التقطوا ذرات منفردة، وحركوها، وأعادوا ترتبيها. وهكذا بدأت ثورة "تكنولوجيا النانو" التي تستثمر فيها حالياً مليارات الدولارات. "المبادرة العربية في تكنولوجيا النانو" عنوان بحث نايفه في مشروع "استراتيجية البحث العلمي والتطوير التكنولوجي" الذي تصدره قريباً "جامعة الدول العربية". يعرض البحث تفاصيل استثمارات الإمارات والسعودية ومصر في مشاريع "تكنولوجيا النانو"، وينبه إلى أن هذه التكنولوجيا التي ستعيد تشكيل العالم في القرن الحالي، لم تطرح بعد منتجاتها، إلاّ أنّ استراتيجية "التتبع السريع" اليابانية تضمن وجودنا في الحقل عندما تنضج الثمار.

ويحق للفلسطينيين ما لا يحق لغيرهم في فلسطين التي يخصها نايفه بأبحاث ومشاريع ومؤتمرات يدمي قلوب العرب عدم حضورها. ويؤلمني جداً الاعتذار عن حضور ورشة عمل "تكنولوجيا النانو" التي ينظمها في طولكرم العام المقبل. فالورشة تُعقد في "جامعة فلسطين التكنولوجية" التي تأسست بأموال ثري بغدادي أوصى عام 1933 بتركته لمشاريع التعليم في العراق وفلسطين. وتحايل وايزمان، مؤسس إسرائيل، للاستيلاء على التركة لأن صاحبها "الياس خضوري" من أسرة يهودية، لكن الوصية المسجلة في لندن كانت صريحة، و"خضوري" الذي كوّن ثروته الطائلة في شنغهاي بالصين ودفن فيها، من الأسر البغدادية العريقة من مختلف الأديان والمذاهب، والتي يعيش بعضها في المهجر منذ أكثر من قرن، لكن عندما يُسألون "من أين"؟ يجيبون: "بغداد". لقد استولى الصهاينة على حصة بغداد من تركة "خضوري"، لكن طولكرم أفلحت في وضع يدها على حصتها، وأنشأت الجامعة التي تحمل اسم "خضوري". والفلسطينيون يقولون: "عكا ما بتخاف من هدير البحر"!