تفكيك دولة العباسية
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
من الطبيعي في أي بلد متحضر عريق مثل مصر ، أن تكون فيه دولة واحدة وسلطة واحدة
وقيادة واحدة ، ولكن أن تكون فيه دولتان وسلطتان وقيادتان ، فهذا أمر غير طبيعي ،
وغير مقبول بأي مقياس . .
يعترف العالم من خلال الأمم المتحدة والعواصم المختلفة بدولة مصر العربية ،
وحكومتها ، ورئيسها ، ويتعاملون مع المصريين على هذا الأساس .. وحين يفاجأ العالم
أن مصر فيها دولة أخرى موازية ، لها حكومتها وقيادتها ، ترفض دستور مصر العربية ،
وتمسح بقانونها البلاط ، لأن الإنجيل – كما يعتقد المتمردون الطائفيون - فوق
الدستور والقانون ولن تستطيع قوة في الأرض أن ترغم الكنيسة أو رئيسها على تنفيذ حكم
القضاء في درجته النهائية ، حتى لو كان تفسيره للإنجيل تفسيرا شخصيا لا يقره عليه
بقية الأساقفة .. فمعنى ذلك أن الدولة الموازية أقوى من الدولة الأصلية أو
المفترضة ، مما يشير إلى انقراض سلطة هذه الدولة الأصلية ، وتآكلها ، وأن الدولة
الموازية خرجت على السياق الشعبي والوطني ، وأنها كيان خارج على الدستور والقانون ،
له قدراته وإمكاناته وقوته التي يحتمي بها ، ويعتمد عليها في مواجهة الدولة الأصلية
أو المفترضة .
الذين يحاولون التدليس وإقناع الناس أن ما يسمى الاحتقان الطائفي هو بسبب الوهابية
التي جاءت مع العائدين من صحراء الجزيرة العربية ، ومن الغزو البدوي المعاصر للعقل
المصري ، وبسبب التطرف الإسلامي المتخلف ، يتجاهلون أن التمرد الطائفي ( وليس
الاحتقان الطائفي أو التوتر الطائفي أو الفتنة الطائفية ) بدأ مع مجيء رئيس الكنيسة
الحالي ، مع أوائل عهد الرئيس السادات – رحمه الله - وبعثه لثقافة الاستشهاد أو
لاهوت التحرير الذي روجت له جماعة الأمة القبطية الإرهابية ، ومدارس الأحد المتعصبة
التي كان رئيس الكنيسة أبرز روادها ونجومها . ولذا لم يكن حديث الكهنة المتمردين عن
ضيافة المسلمين في بلدهم على المواطنين الأصليين النصارى أصحاب البلد ، وضرورة أن
يرحل الضيف المسلم الذي تم احتماله أربعة عشر قرنا من الزمان مجرد كلام جرى على
لسان كاهن متمرد ، أيضا فلم تكون المقولات الفجة التي شككت في صدق القرآن الكريم
والرسالة الإسلامية بالتبعية ، وإضافة آيات حول وفاة المسيح عليه السلام في عهد
عثمان بن عفان رضي الله عنه ، بالإضافة إلي مقولات الخونة عن إحساسهم بالعار من
العروبة واللغة العربية ، وكلامهم عن الغزاة العرب الصحراويين البدو .. إلخ ، مجرد
ثرثرة تصدر عن متمرد هنا ومتمرد هناك ، فهي فلسفة تمرد عميق الوعي بما يخطط له
وينفذه . ويعبر عن غاية لاهوت التحرير ..
ثم إن لاهوت التحرير امتد إلى فكرة التفوق البيولوجي ( السكاني ) والهيمنة على
أعصاب الدولة الاقتصادية والإعلامية والثقافية والتعليمية ، ومواجهة الأغلبية
بالصلافة والعنجهية لإلغاء الإسلام في الحياة العامة ، والتعليم والإعلام والثقافة
، مع التشهير الذي لا يتوقف بالسلطة الأصلية التي منحتهم فوق ما يحلمون ، وأقامت
لهم كنائس لدرجة أن بعضها لا يجد من يشغلها ، والإلحاح الكاذب والآثم على اضطهاد
الأغلبية للأقلية ، ومطاردة الكتاب والمفكرين المسلمين الذين يدعون إلى التعقل
ولاستقامة الطائفية ، وحرمان عقلاء النصارى الذين يرون الكنيسة تلعب بالنار وهي
تنطلق من مفاهيم لا هوت التحرير ..
إن التمرد الطائفي يتصور أن نجاح الصليبيين الهمج في قتل المسلمين وطردهم من
الأندلس ، وتمكن اليهود النازيين من اغتصاب فلسطين ، وطرد أهلها وتشريدهم ، يمكن
أن يكون تجربة قابلة للتحقق في مصر العربية المسلمة ، في ظل التأييد الاستعماري
الصليبي الغربي الذي يكاد ينجح في تمزيق السودان المسلم ، وإقامة دولة في جنوبه
تقودها أقلية نصرانية خانت بلادها ، وتحالفت مع المستعمر الصليبي والنازي اليهودي .
إن السياق العام الذي يتحرك فيه التمرد الطائفي من خلال لاهوت التحرير ، ليس متعلقا
بكاهن هنا أو كاهن هناك ، وليس مرتبطا بحادث مفتعل أو إسلام فتاة أو زوجة أحد
الكهنة ، ولكنه سياق يؤسس لإقامة كيان إداري واجتماعي يستغني عن الدولة الأم ،
ويتفرغ للشغب عليها ، وإرباكها ، ووضع ظهرها إلى الحائط ، خاصة في تحالف التمرد
الطائفي مع جناح في السلطة يبدي عداوته للإسلام جهارا نهارا ، ويعمل على استئصاله
في شتى الميادين من خلال مجموعات المرتزقة والخدم في أجهزة الإعلام والصحافة
والثقافة ؟
ومع احترامنا لأصحاب العواطف الطيبة ممن يرون المسألة محدودة في بعض الأحداث ، وأن
المعالجة تكمن في حظر تناول الموضوع ، أو إصدار بيان من شيخ الأزهر والمسئول عن
الكنيسة يتحدث عن الوحدة الوطنية ، أو تشكيل لجان لتنقية مناهج التعليم من موضوعات
ما يسمى بالتمييز، أو إعلان قرار من الكنيسة بحظر التظاهر النصراني في داخلها ، ..
فهذا كله لا علاقة له بالخطر الذي يمثله لاهوت التحرير ركيزة التمرد الطائفي ،
ويشيع من أجله ثقافة الدم والاستشهاد والانفصال !
إن حظر تناول الموضوع ، وما يستتبع ذلك من وقف بث القنوات الفضائية الإسلامية
ومصادرة الكتب والمجلات والصحف ، كما يدعو إلى ذلك المأجورون من المرتزقة
والشيوعيين الحكوميين وخدام الغرب واليهود ، ليس حلا طبيعيا ، لأن تكميم الأفواه
وحظر القنوات الإسلامية دون النصرانية والطائفية سيؤدي إلى مضاعفات أخطر.
ثم إن البيان الذي صدر أو يصدر عن فضيلة الإمام الأكبر مع ممثل الكنيسة ، لن يؤثر
في الأحداث ، ولن يغير من منهج لا هوت التحرير ، ولن يخضع الكهنة لروح المحبة
وتعاليم المسيح عليه السلام .
أما اللعب في المناهج التعليمية ، وتحريم تدريس القرآن والإسلام ، فهو أمر مقيت ،
وخاصة إذا جاء استجابة للمتمردين الخونة ، الذين يعلنون استعدادهم للاستشهاد من أجل
الإنجيل ، وفي الوقت ذاته لا يجدون غضاضة أن يتوقحوا ويطالبوا بإلغاء اٌلإسلام عن
طريق المرتزقة تحت دعوى تنقية المناهج من موضوعات التمييز ، بالمناسبة أتحدى أي
متمرد خائن أو مرتزق يعمل لحساب المتمردين الخونة ؛ أن يقدم موضوعا إسلاميا أو آية
قرآنية فيها تمييز أو دعوة إلى التمييز !
لقد صاغ وزير في السلطة ؛ يطارد الإسلام ويؤمم المساجد ، قانون عدم التظاهر في دور
العبادة ، وتم تطبيق القانون على المسلمين ، أي الأغلبية وحدها ، ومُنع المسلمون من
التظاهر تضامنا مع غزة أو فلسطين ، أو دفاعا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ،
ولم يطبق القانون على المتمردين النصارى أبدا ، بل سمع العالم مظاهراتهم تتحدى
المسئولين الكبار والصغار ، وتستنجد بشارون وليبرمان ، وتدعو أميركا والغرب
الاستعماري للتدخل وإنقاذ الطائفة المضطهدة حسب أكاذيبهم وادعاءاتهم ، بل إن
المفارقة أن المتظاهرين النصارى ضربوا الضبط والجنود، وأصابوهم إصابات بالغة أيام
الأزمة المفتعلة حول الكاهن المشلوح برسوم المحروقي الذي قيل إنه زني بإحدى النساء
! ولم ينصف أحد ضباط مصر العربية وجنودها الجرحى حتى اليوم !
وحين تصدر الكنيسة اليوم قرار بمنع التظاهر في الكنائس ، وتدعو وزير الأوقاف لمنع
التظاهر في المساجد من أجل عيون زعيم التمرد الذي توجعه هتافات المتظاهرين المسلمين
بإطلاق سراح الأسيرات المسلمات ، فهذا أمر يدعو إلى الضحك . لأنه يستغفل أصحاب
العقول السليمة . ما معنى أن تصدر الكنيسة قرارا في موضوع صدر له قانون من قبل ولم
تنفذه ، بل خالفته ، وتحدت به الدولة الأصلية وحكومتها على ملأ من العالمين ؟!
هل معنى ذلك أن الدولة الأصلية تصدر القرارات ولكن دولة العباسية لا تنفذها ؟ أو
تنفذها عندما تضطرها الظروف ، وتصدر قرارا بمعرفتها يتجاهل القانون الذي صدر عن
الدولة الأصلية ؟!
إن استمرار دولة العباسية في إشاعة ثقافة لا هوت التحرير ، والتعبير عنها عمليا من
خلال عزل الطائفة عن المجتمع ، وتوفير احتياجاتها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية
والثقافية بعيدا عن سلطة الدولة الأصلية ينذر بكارثة كبرى ، لا تتوقف آثارها على
الكيان المسمى جمهورية مصر العربية ، ولكن على الطائفة نفسها التي صارت أسيرة
لثقافة لا هوت التحرير ، ومقولاتها الإجرامية تجاه الإسلام والمسلمين واللغة
العربية والنسيج الاجتماعي ..
وأعتقد أن خطورة التمرد الطائفي ، تفرض على الفور تفكيك دولة العباسية ، وإعادتها
إلى كنيسة تنشر المحبة وتزرع التواصل بين أبناء المجتمع على اختلاف معتقداتهم
ومذاهبهم وثقافتهم ، ويتطلب ذلك عدة أمور منها :
* محاكمة من أساء إلى الإسلام والمسلمين ، وعدهم ضيوفا على الطائفة الأرثوذكسية ،
ورفض تنفيذ القانون ، وبسط سلطة الدولة وقانونها على جميع رعاياها ومؤسساتها ، وهدد
بالاستشهاد والدم لو تم تنفيذ القانون .
* القبض على أذرع التمرد الطائفي في الداخل والخارج ، وهم معروفون بالاسم فيما أظن
للسلطة ، وتقديمهم إلى محاكمة علنية تذاع على الهواء ، وتطبيق القانون عليهم مهما
كانت مكانتهم .
* محاسبة الأبواق الكاذبة والصحف والقنوات التي روجت لأكاذيب التمرد الطائفي ،
وفضحها على الملأ حتى يكونوا عبرة لمن يبيعون دينهم ووطنهم من أجل مكاسب رخيصة ،
وخاصة من كانوا ينتمون إلى اليسار المتأمرك !
* تحرير الأفراد الذين تنتقم منهم دولة العباسية ، وتخضعهم للحبس أو العزل بغير سند
من القانون والقضاء العادل ، ومعاقبة كل من شارك في هذه الجريمة النكراء ..
* تطبيق القانون على الأفراد والمؤسسات في الطائفة في صورة تحقق هيمنة الدولة
الأصلية ، وتجعلهم جميعا يخضعون لها .
* طرح مقولات لاهوت التحرير الشريرة على الإعلام والصحافة ومناقشتها من خلال علماء
مشهود لهم بالحياد والكفاءة ، لكشف التزوير والتزييف والادعاءات الباطلة وخاصة ما
يتعلق بالضيافة وأصحاب البلد الأصليين ، وإعجاز القرآن الكريم .
* تصفية الإمبراطورية الإعلامية الطائفية التي صارت تتحكم في معظم الصحف والقنوات
الخاصة ، مع إتاحة الفرصة لصحافة إسلامية و‘علام إسلامي يعبر عن طبيعة الإسلام
وتسامحه .
* التأكيد على أن الإسلام لا يمكن أن يسيء إلى المسيح أو تعاليمه الحقيقية أو
يزدريها ، لأن الإيمان بالمسيح عليه السلام ، وما نزل عليه من عند الله ، واجب شرعي
لا يكتمل إيمان المسلم إلا به : " كل آمن بالله وملائكته ورسله ، لا نفرق بين احد
من رسله .. " ( البقرة : 227).
* دعم كنيسة المقطم ( مكسيموس ) والاعتراف بها ، ومساندتها في حل مشكلات ثلاثمائة
ألف أسرة أرثوذكسية ، تعيش حياة غير طبيعية ، بسبب الوضع المعلق الذي فرضته
العباسية تعسفا وقهرا .
هذا وبالله التوفيق .