معزة النيجر .. ومفاوضات السلام
معزة النيجر .. ومفاوضات السلام ؟!
أ.د. حلمي محمد القاعود
لا بأس أحيانا أن نضحك وسط معمعات الحزن والأسى والخيبات الثقيلة التي تحط على رأس الأمة بسبب قصورها وتقصيرها ، في حق ربها ، وحق نفسها !
ذهب المنتخب القومي لكرة القدم ، إلى نيامي عاصمة النيجر ليلعب مع فريقها القومي في بطولة أفريقية . منتخبنا القومي مشهور باكتساح البطولة الإفريقية على مدى سنوات طويلة ، وفريق النيجر متواضع المستوى بالنسبة له ، ولكن نتيجة المباراة كانت خسارة فريق مصر القومي أمام فريق النيجر ، وعاد اللاعبون المصريون من نيامي بخفي حنين !
إلى هنا والأمور عادية ، وليس فيها ما يثير ، فمن الطبيعي جدا أن ينهزم فريق أمام فريق ، وأن يتمكن فريق كفر البلاص الذي يلعب الكرة الشراب من هزيمة الأهلي أو الزمالك على أرضه وبين جمهوره إذا أخذ المسألة مأخذ الجد وبذل جهدا مناسبا في المباراة ، والكرة أجوال على رأي المعلق الظريف محمد لطيف – رحمه الله - على عهد جيلنا الذي بلغ أرذل العمر !
لكن الغريب والعجيب والمثير أن السادة الأشاوس والنشامي من معلقي الكرة في بعض القنوات الفضائية المصرية ، جلسوا أكثر من ساعتين يتحدثون عن سبب هزيمة فريقنا القومي . وهذا السبب يكمن في معزة . أي والله معزة كما قال الأشاوس والنشامي من ذوي الحناجر البشعة والأصوات المنكرة والتعبيرات الهابطة والفكر السطحي التجاري ..
وإليكم تفاصيل خبر المعزة الذي تحدث عنه المعلقون : أهل النيجر أرادوا هزيمة فريقنا القومي ، فاتوا بساحر إفريقي ، صنع لهم سحرا من خلال معزة ! وقبل المباراة دخل الساحر بمعزته إلى الملعب والمعزة أمامه ، ودار بها على ساحة الملعب ، وسمح لها أن تقضي حاجتها فوق النجيل الأخضر ، ثم صعد بها إلى مقاعد المتفرجين ، وجلس ليشاهد المباراة مع المعزة المسحورة أو الساحرة ..
انطلقت صفارة البداية ، وبدأ الفريقان اللعب ، الفريق النيجري راح يجري يمينا وشمالا ، وخلفا وقداما ، ويسدد قذائفه نحو المرمى المصري ، أما الفريق القومي المصري بطل الأبطال ، فقد كان لا عبوه يتحركون بصعوبة وبطء شديدين ، الوحيد الذي كان ينطلق مثل الصاروخ كان اللاعب الأشهر محمد أبوتريكة ، ولكنه وحده لا يستطيع أن ينتصر في مباراة يواجهه فيها أحد عشر لاعبا ، وانتهت المباراة بهزيمة مصر هزيمة منكرة !
كانت التفسيرات الأولية تتكلم عن ارتفاع درجة الحرارة إلى ما فوق الأربعين ووصولها إلى الخمسين أحيانا في نيامي عاصمة النيجر ، ثم كانت هناك تفسيرات تعزو الهزيمة إلى وجود نسبة رطوبة عالية تسببت في تفكيك أعصاب اللاعبين المصريين الذين الذي لم يتعودوا على هذا الجو وتحمل أجسامهم نسبة كبيرة من الماء ، أما النياجرة ، فأجسامهم جافة أو ناشفة ، ولذا لا يتأثرون بالرطوبة أيا كانت نسبتها . ثم كان هناك تفسير ثالث يقول إن سبب الهزيمة هو إرهاق اللاعبين في السفر من مطار القاهرة إلى مطار نيامي ، فقد سافروا على طائرات عادية ليست خاصة بهم عبر مرحلتين ، قضوا فيهما خمسة عشرة ساعة بين السماء والأرض ، فكانوا منهكين لدرجة أنهم لم يستطيعوا مجاراة لاعبي النيجر !
التفسير الذي حظي بالاهتمام الأعظم والوقت الأكبر كان تفسير المعزة الساحرة أو المسحورة ، فقد أيقن جميع الأشاوس والنشامى أن الهزيمة بسبب السحر .. وتساءل بعضهم : أليس السحر مذكورا في القران الكريم ؟ وقد قيل لماذا كان أبو تريكة يجري وينطلق بلا قيود ولم يتأثر بالسحر . فقيل لمَ لمْ يتأثر بالسحر ؟ قيل : لأنه كان يصلي وكان يقرأ القرآن باستمرار! والسؤال هو : إذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يصل الفريق ومدربه ؟ ولماذا لم يقرءوا القرآن مثلما فعل أبوتريكه ؟
كل هذه التفسيرات بائسة ، وغير مقبولة ، والسبب الأساسي هو القصور والتقصير . ويجب الاعتذار لمعزة النيجر وصاحبها ، فلو أن أهل نيامي ملأوا الملعب بالمعيز فإنهم لا يستطيعون هزيمة فريق مجتهد ، ويبذل أفراده جهدا متناغما ، وفقا خطة جيدة وإصرار على الفوز !
الابن محمد البنهاوي – زميل نجلي محمد – غطى في جريدة الشروق تفاصيل المباراة مذ تحرك اللاعبون المصريون ، بل قبل أن يتحركوا حتى عودتهم إلي القاهرة ، وكشف لنا عن الاهتمام الكير الذي حظي به اللاعبون والمدربون والإداريون في القاهرة وطرابلس ونيامي نفسها ؛ حيث استقبلهم الشعب هناك استقبالا حافلا حبا في مصر وأهلها ، وخرج السفير المصري إلى مطار نيامي مع طاقم السفارة لاستقبال الفريق ، وتوفير كل الإمكانات التي تريحه وتساعده على النصر ، ولكن النتيجة كانت خيبة ثقيلة !
بعض الناس - وخاصة في السلطة – يظنون أن التفوق والتحضر ، هو في الحصول على الدوري وكأس إفريقية ، ولكن الأصح هو التفوق في الرياضة التي تؤسس للعقول العلمية التي تبحث وتكد وتبدع وتخترع . القوم في بلادنا يتصورون أن الإنفاق الذي يصل إلى حد السفاهة على مباريات الدوري والكأس هو الرياضة ، وهو العلم ، وهو التفوق !
أليس من المفارقات أن يكون أستاذ الجامعة – باستثناء المقربين من السلطة وأصحاب المكاتب والعيادات والصيدليات – مستحقا للزكاة ، وأن مرتب أستاذ الجامعة يقل أحيانا عن مرتب فراش في بعض البنوك الاستثمارية ؟
إن محنة الكرة في مصر أو البلاد العربية تنبع من الرؤية المعكوسة لطبيعة الرياضة والترفيه الرياضي . الرياضة وسيلة للنمو العقلي والبدني ، والترفيه الرياضي تجديد للعقل والبدن ، من أجل العمل والإنتاج والبحث ، ولكن بعض القوى المتسلطة على مقادير الغرب والمسلمين ، تجد في الهوس الرياضي – وليس الرياضة – وسيلة لإلهاء الشعوب عن الخيبات الثقيلة التي يعيشونها ، وعن التخلف المريع الذي يتراكم يوميا ، وينفقون الأموال الكثيرة لشراء لاعب بعشرات الملايين ، أو يمنحونها لمدرب أجنبي من أجل كسب مباراة لاتسمن ولا تغني من جوع !
كيان العدو النازي اليهودي في فلسطين المحتلة يحقق انتصارات موجعة لكل العرب والمسلمين ، ويفرض عليهم الذل والهوان ، دون أن ينساق للبحث عن كأس إفريقي أو آسيوي أو عالمي !
وهاهو اليوم يفرض شروطه المذلة والمهينة على العرب والمسلمين فيما يسمى مفاوضات السلام الذي لا وجود له أبدا على أرض الواقع .
يوم كان العرب والمسلمون يرفضون الاعتراف بالعدو ، ولا يتفاوضون معه ، ولا يفتحون له بلادهم ومدنهم وقراهم ، وكان لديهم استعداد للمقاومة والتضحيات ؛ كان العدو يتمنى لو يكلمه مواطن عربي أو مسلم .. أما اليوم بعد أن قوي ، وتقدم وتفوق ، فهو يرفض الالتزام بأية قيمة إنسانية أو قانونية ، أو دينية ، وبعد أن تطوع العرب واعترفوا وتفاوضوا معه وقبلوا بشروطه ، وتخلوا عن الجهاد والمقاومة والتضحية ؛ فإنه يتفنن يوميا في إذلالهم ، ويرفض التفاوض معهم بالمعني الحقيقي ، ولا يقبل بأية مرجعية دولية أو إقليمية ، ولا يتنازل أبدا عن مطلب من مطالبه الشريرة ، ولو كان العالم كله لا يقره عليها . ومازلنا مشغولين بالمباريات الرياضية في كرة القدم ومعزة النيجر التي سحرت لاعبينا ، وحرمتهم الفوز .. وفي الوقت نفسه نخترع كثيرا من المعيز الساحرة والمسحورة في مواجهة العدو النازي اليهودي ، دون أن نواجه الأمور مواجهة الرجال ، ونعمل ما يوجبه الحق والضمير تجاه بلادنا وأمتنا .. هل توجد أمة تفاوض عدوها المجرم الشرس دون أن يكون في يدها ورقة قوة أو ضغط واحدة ؟
بالأمس أعلن السفاح النازي اليهودي أنه على استعداد لوقف الاستيطان لمدة شهر واحد في أثناء مفاوضات الذل والاستسلام مع العرب ؛ إذا اعترفوا بيهودية كيانه الغازي الغاصب ؟ أرأيتم إلى أي مدى انحدرنا ذلا وهوانا ؟
لقد نقلت صحيفة هاآرتس الإسرائيلية علي موقعها الالكتروني عن نيتانياهو قوله في افتتاح الدورة الثامنة عشرة للكنيست الصهيوني: " إنه إذا قامت القيادة الفلسطينية بالاعتراف صراحة وعلي نحو لا لبس فيه أمام الشعب الفلسطيني بالكيان الغاصب وطنا قوميا لليهود ، فإنه علي استعداد للاجتماع بحكومته وطلب تجميد البناء في المستوطنات ؟
الرجل يريد اعترافا صريحا لا لبس فيه من أصحاب الوطن السليب بعنصرية الكيان الغاصب في مخالفة صريحة للقوانين الدولية والإنسانية ، وإلا فإنه سيواصل مسيرته الإجرامية بالمزيد من اغتصاب الأرض ، واستعمارها على حساب أهلها الأصليين . ولم يكتف السفاح بذلك بل إنه يذكر العرب بأنه منحهم عشرة شهور تجميدا للاستيطان ولكنهم لم يستمعوا إليه .إنه هو الذي يعطي ويمنح ، وهو أيضا القادر على المنع إذا شاء !
لا ندري كيف يفكر بعض القادة العرب الذين انبطحوا تماما أما العدو النازي اليهودي ، وما زالوا يبحثون عن معزة ساحرة أو مسحورة تسوغ نكوصهم ، وفرارهم من أداء واجبهم في مواجهة العدو وإيلامه حتى يرضخ للحقوق المشروعة ؟
بسبب معجزة النيجر قام أحد الأولاد في بيت أعرفه بالانتقال من غرفة إلى غرفة أخرى ينام فيها لأن سيرة المعزة ، وارتباطها بالعفاريت قد أخافته ! وهكذا يتواصل التفكير الخرافي في تحقيق انتصارات على أبنائنا وشعوبنا وقادتنا . ونسينا قوله تعالى : " وجاهدوا " ، وقوله تعالى : " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " ، ورمينا كل مشكلاتنا ومتاعبنا على المعزة إياها !

