حدائق الشيطان

أدباء الشام

عاد نتنياهو عن وعده بتجميد الاستيطان بمناسبة إطلاق المفاوضات المباشرة، واعتبر أن التجميد المؤقت والجزئي قد استوفى حوائجه، معلناً عن استئناف زرع المستوطنات من جديد في مزيد من الأرض.

وكثيرا ما كانت قضية المستوطنات الإسرائيلية مثار جدل واسع في الخارج، حتى عند أصدقاء إسرائيل وحلفائها، فقد برزت في التسعينيات دعوات في واشنطن لإعادة النظر في المنح والقروض الأميركية التي يذهب بعضها أو فوائد بعضها لبناء مستوطنات، وفي أوروبا تُهَاجَم مسألة المستوطنات بشدة.

في بريطانيا، أعلنت اتحادات النقابات العمالية بإجماع مقاطعة بضائع إسرائيلية، وسحب استثمارات الشركات التي تنتفع من الاحتلال والجدار والمستوطنات.

أما نحن، فقد اعتدنا رسميين وأهليين ونشطاء و(متأملين) أن نركن إلى قضية المستوطنات كمُسَلّمَات لا نجرؤ على البحث فيها حتى.. واعتبرناها، أو هكذا سوّل لنا ائتلاف الآلة الإعلامية الإسرائيلية والغربية، قضية محكوما في أمرها سلفاً، لتظل عالقة على السطح بقايا رتوش تجيب على أسئلة كافية لتعليق أي حوار أو مفاوضات، تماما مثل التوسع والتمدد والتوقف المرهون بشروط او المؤقت لأجل، أو حتى في قضايا جزمنا أنها مستحيلة مثل العودة واللاجئين والسيادة والأرض.

وأتساءل وأنا أرقب في كل فرصة أزور بها البحر الميت تلك الأنوار المضاءة بمبالغة مدروسة فوق ذلك الجبل المقابل لنا، والتي أعرف أنها أنوار أكبر مستوطنة في الضفة اُقتطعت من أراضي القدس.."معاليه ادوميم"، أحد الأسماء الذي أخافتنا به إسرائيل لسنين، أتساءل مَن منا دخل بقراءةٍ أو دراسة إلى داخل هذه المستوطنة أو غيرها، كم مرة رأينا بأعيننا إن كان هذا البعبع مخيفا حقاً، أم أنه مجرد غول خرافي على طريقة "حدائق الشيطان" صنعته آلة اعلامٍ لدولة قامت أصلاً على كذبة الجيش (البعبع) والتفوق (البعبع)؟!

في خضم هذه التساؤلات، وأثناء متابعتي للقرار البريطاني التاريخي بالمقاطعة، ولأخبار آتية من تلك المستعمرة الرابضة على جبل القدس وعلى صدر أهلها.."معاليه ادوميم" يتبين أن المستوطنة ترفع شعارا لافتاً على بواباتها بأن "الأردن للفلسطينيين"، قرأت باهتمام شديد ما كتبه المحلل السياسي الإسرائيلي، ليفي جدعون، في هاآرتس يُفند فيه الرواية الإسرائيلية التاريخية المُمعنة في الخداع والالتفاف، التي صدقناها بتسليم المذعنين الضعفاء، فكبرت لتسكننا وهماً يستوطن دواخلنا، ويثبط هممنا كلما فكرنا بالحل، وعلى أي طريقة كانت.

جدعون، هو أحد أصحاب الرأي الذين يُعتد برؤيتهم، كما هي حال كثيرين في الصحافة الإسرائيلية، لا يرى في المستوطنات أكثر من "أزهار بلاستيكية" مغروسة في أرض ليست لها، "ولم تنبت شيئاً سوى قبحها"، ليصل إلى أن المستوطنات اليوم ما هي إلا "مدن سبات"، لا دور لها سوى تبديد أي فرصة تلوح لسلامٍ مع الفلسطينيين.

هذا الكيان الخاوي في داخله والمحكوم بهواجس (الشيك) الذي يلتف حوله، ويذكره بسجنه الكبير الذي قدم إليه طوعاً من بلاد كانت نوافذها أوسع وآفاقها أرحب، هو اليوم مجرد احلام إسرائيلية آيلةٌ للسقوط، كيانات مكتظة بالسكان لكنها فارغة، ما يبرهن حتماً على عدم قدرتها على البقاء طويلاً وعلى سقوطها تلقاءَ نفسها كما يرى المحلل الإسرائيلي.

ثم ما لهؤلاء المستوطنين الذين وصفهم جدعون "بالشخصيات المحتالة والمتطرفة والهوجاء وعقيمة الإنتاج الثقافي والحضاري والإنساني".. ومطالبتهم بأن يكون الأردن وطناً للفلسطينيين؟! وهم صنوفٌ من قوميات مختلفة جل اهتمامها ملاحقة تنزيلات (الكينيون) او المولات، والتفنن في الاحتيال على يوم السبت بتشغيل أجهزتهم عبر المُوَقتات، وابتياع الشموع ليعودوا إلى غرف السبات والشراشف المثقوبة ويتكاثروا.

يافطة معاليه ادوميم تشي بأكثر من ذلك.. هي تقول لنا وللإسرائيليين أنفسهم إن من يلعب الأدوار ما هم الا عصبة من المخططين الضالعين بالكذبة القديمة..

علينا، إذن، وقبل أن نتورط بكذبات تفاوضية جديدة، النظر بعين الاعتبار لحقيقة هذه الكذبة التي اسمها المستوطنات، وعدم المشاركة في تضخيم دورها في الضغط والمطالب المشروعة والقدرات التفاوضية، لأنه حتى يأتي اليوم الذي تَضُجُّ فيه المستوطنات وتلفظ مَن فيها من الناقمين على دولتهم وعلى الشيك وعلى اليوم الذي أتوا فيه الى هنا.. سنكون قد تورطنا بكذبة أخرى أو غول آخر..