اتفاق التهدئة إذ يكرس ضياع البوصلة
اتفاق التهدئة إذ يكرس ضياع البوصلة
هشام منور
كاتب وباحث فلسطيني
انقسم متابعو ومحللو المشهد السياسي الفلسطيني إزاء ما تمّ إعلانه من اتفاق تهدئة غير مباشر، وبرعاية مصرية، بين حماس وبقية الفصائل الفلسطينية من جهة وبين "إسرائيل". ففيما يرى فريق المتشائمين أن اتفاق التهدئة ما هو إلا حلقة مفرغة جديدة في سلسلة المفاوضات اللانهائية التي نجحت إسرائيل في جرّ حماس والفصائل الفلسطينية المقاومة إليها، بعد أن استنزفت فيها كلاً من حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية قبل ذلك، يعتقد فريق آخر أن الاتفاق سوف يسهم في تبريد أجواء الحرب ونذرها في المنطقة، وسيخفف (لن يلغي) من حالة الحصار التي يعرفها قطاع غزة منذ سيطرة حماس عليه.
وبنظرة سريعة على مضمون وبنود الاتفاق، فإن فرحة "المهللين" بالاعتراف الإسرائيلي الضمني بحماس في الاتفاق بعد أن كانت مصنفة كواحدة من أخطر الحركات "الإرهابية" في نظر إسرائيل، لن تفلح في تغطية عيوب الاتفاق وثغراته الواضحة. هذه المفاوضات التي استغرقت ما يقرب من ستة شهور ظلت دائرة في حركة حماس وقياداتها، دون أن يكون لفريق (أبو مازن) أي دور فيها، مما يعني تسجيل نقطة إسرائيلية بتهميش جزء من الفلسطينيين (بصرف النظر عن الموقف منه) واللعب على ورقة التفتيت والانقسام بين الفلسطينيين وترسيخه فيما بينهم.
وعلى الرغم مما أظهرته "إسرائيل" من "صلف" وعدم مبالاة أصلاً باتفاق التهدئة وتهديدها مراراً بخرقه إذا دعت إلى ذلك ظروف خاصة تقدرها وحدها، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي (إيهود أولمرت) يريد من خلال عقد هذا الاتفاق "شراء" الوقت، أو على الأقل تمريره، من خلال مناورات سياسية وعسكرية هرباً من المشكلات الداخلية الذي يعاني منها ائتلافه الحاكم وحزبه المتداعي من خلال الحديث عن الهدنة، وفي الوقت نفسه، هو يواصل حملة تهديداته لقطاع غزة واستثمار صورته كمدافع عن المستوطنات القريبة من القطاع بغية "شراء" أصوات التأييد لصالحه. وما الحديث عن رغبة أولمرت بالالتزام بالتهدئة سعياً وراء إتمام صفقة تبادل الأسرى مع الجندي الأسير (جلعاد شاليط) لتعزيز موقفه أمام الرأي العام الإسرائيلي إلا ذرّ للرماد في العيون.
بيد أن المتأمل في مفردات هذا الاتفاق سوف يجد فيه تراجعاً كبيراً لمطالب حماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية، فالاتفاق سوف يستمر بداية لثلاثة أيام في اختبار "لحسن النوايا" إن جاز التعبير لنا، ثم يتم افتتاح المعابر التي تربط قطاع غزة بإسرائيل فقط لإدخال المواد الغذائية اللازمة والوقود إلى القطاع، دون التطرق إلى موضوع معبر رفح الحدودي مع مصر. ثم تنطلق في القاهرة، وبوساطة مصرية، بعد أسبوع على الأكثر من بدء سريان اتفاق التهدئة، مباحثات غير مباشرة بين مندوب من حماس ممثلاً للفصائل الآسرة للجندي الإسرائيلي في القطاع ومندوب لإسرائيل؛ من أجل إنجاز صفقة لإطلاق سراحه مقابل الإفراج عن عدد يتفق عليه من الأسرى الفلسطينيين. أي أننا سوف نباشر مفاوضات ماراثونية جديدة من نقطة الصفر لبحث أمور الأسرى الفلسطينيين والأسير الإسرائيلي!!.
ويتضمن الاتفاق أيضاً أنه في حال حدوث تقدم على صعيد مفاوضات تبادل الأسرى، ستزيد إسرائيل من كمية وأنواع السلع التي تسمح بإدخالها إلى القطاع، كما سيتم فتح معبر رفح جزئياً، بمعدل مرتين أو ثلاثة أسبوعياً على الأكثر. وكأن إسرائيل قد أضحت "سجاناً" للقطاع تمنح وتعاقب بناء على ما تراه هي من حسن سلوك أهل القطاع وفصائل المقاومة الفلسطينية؟!، دون أن يكون هناك أي مجال للتفكير بإمكانية عرقلة إسرائيل أو تراخيها عن تنفيذ جميع هذه الالتزامات وقتما تريد؟!.
وفي حال حدوث اتفاق نهائي على تبادل الأسرى بين الطرفين، سيتم فتح معبر رفح بشكل دائم، وفق تفاهمات عام 2005، والتي تتطلب وجود إشراف أوروبي على إدارة المعابر وسيطرة إسرائيلية غير مباشرة عليه، من خلال كاميرات مراقبة، بمعنى آخر: رفع كامل للحصار يلتزم فيه الطرفان في جميع مراحل الاتفاق بوقف إطلاق النار.
لا أحد ينكر ما عاناه الشعب الفلسطيني إبان الفترة الماضية من حصار وتجويع لكامل القطاع، ودون أن يفهم كلامنا على أنه مزاودة على معاناة الجوعى وآلام المرضى المحرومين من أبسط الحقوق الإنسانية، فإن إسرائيل لم تكن لتوافق على عقد اتفاق يتضمن اعترافاً صريحاً بهيمنة حماس على القطاع وتصرفها فيه لولا المكاسب الكبيرة التي سوف تجنيها منه، فجلّ أمل إسرائيل كان يتمثل في إيقاف الهجمات الصاروخية على النقب وجنوبي إسرائيل فضلاً عن المستوطنات القريبة من قطاع غزة، والتي أثبتت مع مراكمتها للخبرة الميدانية نجاعتها في إيلام إسرائيل (لا إزعاجها فحسب)، فيما كان أبسط مطالب حماس ومن والاها هو رفع الحصار عن القطاع والسماح بدخول الأذية وتنقل المرضى للعلاج، وهو مطلب إنساني كانت إسرائيل سوف تضطر للقيام به فيما لو توفر الدعم العربي والدولي، ومورست الضغوطات من قبل المنظمات والهيئات الدولية من أجله، لكن الذي حدث هو الرضوخ للإملاءات الإسرائيلية وترتيب أولوياتها، والتعامل مع المطالب الفلسطينية على مبدأ الثواب والعقاب على الالتزام بما تريد إسرائيل (وهو إيقاف إطلاق الصواريخ) دون أن يكون هناك أي ضمانات عربية أو دولية أو حتى آليات لإلزام إسرائيل بالقيام بما يخصها من بنود الاتفاق.
وهو ما يعيدنا إلى المربع الأول من الصراع مع العدو الصهيوني، والذي نجح حتى الآن في خفض سقف المطالب والحقوق المترتبة عليه إلى حد استجداء أبسط الحقوق الإنسانية (الغذاء والدواء) منه، وهو ما برأيي يشكل نتيجة طبيعية لمحاولاته السابقة والجادة في اختصار وتقزيم طبيعة الصراع معه من صراع وجودي على الأرض والسيادة واستعادة كامل فلسطين، إلى مجرد استجداء مقومات الحياة الأساسية والضرورية.