قانون الطوارئ .. وحادث الزيتون

أ.د. حلمي القاعود

قانون الطوارئ .. وحادث الزيتون !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

كان مراسل الجزيرة اليساري ، ينقل على الشاشة ( 28/5/2008) خبر حادث الزيتون الذي أطلق فيه الرصاص على عدد من النصارى في محل مصوغات مما أسفر عن مصرع أربعة وجرح آخرين . عدّد المراسل بعض الاحتمالات التي دفعت إلى ارتكاب الجريمة ، فذكر منها بسرعة أنها قد تكون جنائية محضة ، ثم توقف طويلاً عند احتمال أن تكون على خلفية طائفية أو تعصب طائفي من جانب الجماعات الإسلامية ، واستعاد بطريقة مريبة ما قيل في حوادث سابقة عن استحلال أموال النصارى ، وأن مراجعات بعض الجماعات الإسلامية مؤخرا استنكرته، وعدته عملا غير إسلامي .. وانتهى التقرير بطريقة غير مباشرة ؛ إلى ترسيخ دموية الجماعات الإسلامية ، وبالتالي دموية المفاهيم الإسلامية في ذهن المشاهد ، مما يعنى أن الجريمة معلقة في رقبة الإسلام والمسلمين !

واستنفر الكتاب العلمانيون واليساريون المتأمركون أقلامهم لإدانة الحركة الإسلامية والإسلام قبل أن تتكلم النيابة أو تكشف عن تحقيقاتها في الحادث المفجع ، وذهب بعضهم من لابسي الكاكى ( سابقاً ) إلى أن استئصال الجماعات الإسلامية هو الذي سيقضى على مثل هذه الحوادث بعد أن قرر بقلب بارد أن الجريمة قام بها إسلاميون أصوليون متعصّبون !

في يوم الجمعة 30 / 5 / 2008م نشرت جريدة " الأهرام " الحكومية في صفحتها الأولى أن تحقيقات النيابة الأولية تشير إلى أن دوافع حادث الزيتون ليست إرهابية أو طائفية ..

وفى اليوم ذاته نشرت جريدة " المصري اليوم " تحقيقاً مطوّلاً حول الحادث أشارت فيه إلى أن صاحب المحل ترك قريته في سوهاج منذ أربعين عاماً ولم يعد إليها أبداً ، مما يعنى احتمال أن يكون الدافع ثأرياً كما هي عادة الصعايدة ، كما أشارت أيضاً إلى أن منطقة الحادث تضم مقاهي يلتقي فيها تجار الآثار ، أي إن صاحب المحل القتيل قد تكون له علاقة بصفقة سرّية أو خلاف مع تجّار الآثار أدى إلى الجريمة ، وأشار التحقيق كذلك إلى احتمال أن القتل قد يكون بدافع التصفية الجسدية ، حيث لم تحدث مسروقات في المحل مع وجود أكثر من خزينة بها أموال ومجوهرات بالإضافة إلى البضاعة المعروفة .

ما نشرته الأهرام والمصري اليوم يرجح بل يؤكد أن العملية جنائية محضة ، لا علاقة لها بالإسلام ولا بالجماعات الإسلامية ، وهو ما يردّ عملياً على من أدمنوا اتهام الإسلام والمسلمين ، من الذين يتمرغون في الأموال الطائفية ويلعبون بالورقة الطائفية ، ويتربصون بالوطن البائس في مثل هذه المناسبات للرقص في حلبة الإجرام وتمزيق الشعب ..

بيد أن الأخطر من كل ذلك ، هو ما نُقل عن مصدر بالمقر البابوي أن البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقصية الموجود في رحلة بالولايات المتحدة الأمريكية حالياً ، كلف الأنبا يوحنا ، سكرتير المقر البابوي بمتابعة تحقيقات الحادث وإبلاغه بالتطورات أولاً بأول في أثناء رحلته ، فيما رفضت الكنيسة التسرع في تصنيف الحادث ، وأكد عدد من القساوسة ثقتهم في أن رجال الأمن لن يناموا حتى القبض على الجناة ! ( المصري اليوم) 30 / 5 / 2008م

وخطورة هذا الخبر ، هو أن البابا شنودة ، يتابع الحادث بوصفه مسئولاً سياسيا – لا كنسيا - عن طائفة متميزة ، ليست ضمن النسيج الشعبي العام ، الذي يحكمه قانون ودستور وقضاء وأجهزة أمن ، تتابع الجريمة بأشكالها كافة وتتعامل معها وفقاً لأصول تواضع عليها المجتمع منذ عرف القانون .

سوف نفترض أن الحادث نفسه وقع لبائع مصوغات مسلم ، فهل يجوز أن يصدر شيخ الأزهر تصريحاً مثل تصريح الأنبا شنودة ويعلن أنه يتابع الحادث بنفسه ، ولا يتسرع في اتهام النصارى بارتكاب الحادث ؟

واضح أن فلسفة التمرد الطائفي هي التي حكمت تصريح الأنبا شنودة الذي سرّبه المقر البابوي ، وكلام رجال الدين الذين تابعوا  منهج الأنبا ، وكأنهم يقولون لأهل السلطة في مصر : إن لم تهتموا بعملكم ، فسنأخذ زمام المبادرة ، ونتخذ الخيار المناسب ، بدءًا من الاعتكاف ، وإطلاق عناصر التظاهر والتهييج في الغرب ، حتى الاستنجاد بقيادة العالم الصليبي الاستعماري !

المفارقة أن حادث الزيتون جاء عقب إعلان تمديد قانون الطوارئ الذي يحكم مصر المحروسة منذ نصف قرن أو يزيد باستثناء سنة واحدة وبضعة شهور ، وكأنه محكوم على الشعب المصري بالعبودية  طول عمره من جانب الغزاة المستعمرين الصليبيين والصهاينة ، أو الغزاة المستعمرين المحليين والوطنيين ، لأنه لا يليق به غير العبودية والذل والهوان ، فقد ارتضى لنفسه أن يصفق لجلاديه وأن ينافق قاهريه وأن يتخلى عن طلائعه الحرّة المكافحة !

والذين يُصرّون على استعباد الشعب بالطوارئ أو القوانين التي تعد أشدّ من الطوارئ ، يُسوّغون موقفهم الشيطاني بمثل حادث الزيتون ، وإذا أضفنا إلى ذلك بعض الحوادث التي تلت هذا الحادث مثل حادث السرقة في الإسكندرية ، وحادث قتل مسلم في ملوي بالمنيا بسلاح قسيس في خلاف على أرض "وضع يد" للمسلمين استولى عليها النصارى بالقوة لضمها إلى دير "أبو فانا " ، ثم تظاهروا بعد قتل أحد المسلمين تظاهرة طائفية شاذة تهتف باسم شنودة وتحرضه على التحدي ؛ فإن الأمر يبدو مريباً ومثيراً للاشتباه ..

صحيح أن السلطة لا ينقصها خلق أسباب إنشائية لاستمرار قانون الطوارئ وخنق الحريات العامة وإذلال الشعب البائس ، ولكن وقوع مثل هذه الحوادث كفيل بطرح ألف علامة استفهام .. ثم محاولة ربطها بالتمرد الطائفي الذي تبدى صريحا في بعضها وغامضاً في بعضها الآخر .

إن استخدام السلاح من جانب رجال دين نصارى في النزاع على أرض "وضع اليد" في ملوي بالمنيا ، يمثل حالة مستفزة خاصة وأنه أدى إلى مقتل مسلم ، كما سبق أن أطلق الطائفيون المتعصّبون النار في أحداث الإسكندرية وحوادث أخرى مما أدى إلى مقتل بعض المسلمين ، دون أن يحاسب أحد من النصارى ؛ وهو ما يعيد إلى الأذهان طرح السؤال القديم  المتجدد عن تخزين السلاح في الكنائس ؟ ولماذا ؟ وهل تظل السلطة صامتة عن معالجة هذا الأمر بالتوضيح أو استخدام القانون ؟

ثم إن ارتكاب بعض الحوادث ونسبتها إلى جماعات إسلامية وهمية ، كما فعل بعض النصارى في مطروح العام الماضي( 2007) ، وانكشاف أمرهم بعد أن وقعوا في يد القانون ، يؤكد أن هناك  خططاً مجرمة وآثمة لا تريد الخير لهذا الوطن ، ولا للنصارى ، لأن نتائج هذه الخطط ستكون وبيلة ، وخاصة إذا انطلق سراح العامة والدهماء واندفعوا بالعاطفة العمياء للانتقام من صنّاع الشرّ والفتنة والأذى !

إن قانون الطوارئ وحادث الزيتون وما تلاه ، من إرهاصات الشرّ المستطير التي يمكن – لا قدر الله – أن تعصف بالجميع ، وتدمر الجميع ، ودعك مما تقوله الأبواق والطبول المأجورة في صحف الحكومة وأجهزة دعايتها عن أهمية الطوارئ وضرورتها لحفظ الأمن ، فهو من الكذب الصراح والنفاق الرخيص الذي لا يستحق الردّ ، فحوادث القتل والذبح والاغتيال وقعت كلها في ظل هذا القانون الفاجر ، والتمرد الطائفي السافر .. وفى السنة وبضعة شهور التي عاشتها مصر أواخر السبعينيات بدون طوارئ وانتهت بحوادث سبتمبر 1980 التي تم فيها اعتقال صفوة مصر ؛ لم تقع حادثة واحدة ، لا إرهابية ولا طائفية . ويا ليت القوم يفقهون .