شكرا سيد جالوي
شكرا سيد جالوي
ربى زيدان
وددت لو انني قبلت جبين السيد جورج غالوي بالامس.. وددت لوأنني فقط شددت على أكفه مصافحة كل هذا العز وكل هذه الحماسة علني أمتص جزءا منها.... وودت لو ان كان لي أبناء، آخذهم ولو قسرا الى ندوته ليشتموا فلسطين من ورد كلماته..
فالسيد جالوي..والذي هز بكلماته النارية الصريحة جدران قاعة الرشيد في مجمع النقابات المهنية مساء أمس كان يتفجر القا ويتفجر حبا ويتفجر عروبة..نعم، عروبة.. فهو في كلمته التي لم تتجاوز الاربعين دقيقة ، تلمس جراحاتنا النازفة كلها...بل وعض عليها بأسنانه ..في محاولة منه لايصال الجانب الآخر من الحقيقة لنا، الجانب الذي نعرفه جميعنا جيدا ونتعامى عن رؤيته ونتغاضى عن بشاعته.
والسيد جالوي، الذي استفز بعنفوانه وصراحته القاتلة جميع الحاضرين ، لم يكن يتحدث ليخاطب المشاعر فقط..كما يحلو للبعض ان يدعي ، بل أنه وباستناده للعديد من الحقائق التاريخية كان يخاطب العقول وبشدة. فهو حين يدعونا الى الترفع عن نزاعاتنا الداخلية وفروقاتنا الطائفية والمذهبية ، على الاقل في الوقت الحاضر,,وتوحيد الكلمة لمواجهة خطر أعظم وأشد ، لا يجافي الصواب..وهو عندما يذكرنا بمجازر صبرا وشاتيلا وحرائق جنين وحصار غزة،لا يزور التاريخ ولا يجمله ، وانما يحاول ابقاء دواخلنا حية..واسستجداء آخر ذرة كرامة فينا.
والسيد جالوي ، ذلك المحارب الآتي من الغرب..من بلدان الضباب والامطار، مشرق اكثر منا...ومشتعل غيرة على قضيتنا..وهو اذ يطالبنا بالابقاء على شعلة الامل فينا متقدة، يرجونا بأن نشد من ازر بعضنا البعض ويذكرنا بنماذجنا المشرفة من رجال المقاومة والموقف والذين يحاول الغرب الانتقاص من شأنهم.. وطمس حسناتهم ، فهو اذ يترحم على أرواح ناصر وعرفات وياسين وحسين وحبش، انما ينعى الرجولة فينا.
ورغم انه يفرحني جدا أن أرى رجلا غربيا أت من ثقافة أخرى وعالم آخر يدافع عن حقوقنا بهذا الشكل..الا أنني أشعر أيضا بالألم والعار ...اذ لم أتوقع أن تحمل مثل هذه الملامح الاوروبية والبشرة البيضاء والعيون الزرقاء واللكنة الايرلندية، غضبا أكثر من غضبنا وجراة أكبر من جرأتنا وصراحة تجرح حتى قلوبنا.
بقدر ما افرحتني كلماتك سيدي..بقدر ما أزعجني الواقع، فشخص مثلك يمتلك مفاتيح المتع الحياتية التي حلم بها العديد ، كان لديه الخيار دائما بان يسلك الطريق الاسهل وأن يستمتع بحياته المترفة بين أروقة البرلمان البريطاني دون ان يلتفت ولو لوهلة الى اكف الاطفال المشتعلة في غزة وجنين وبيروت...والمدهش حقا ان السيد جالوي يعرف أكثر منا عنا، فهو قد عاصر العديد من النكبات (لانها ليست نكبة واحدة) والنكسات والمجازر والحروب عن قرب..وهو اذ يتكلم عنها، فكانما يقرأ من كتاب، انه يحفظ تفاصيل تاريخنا بشكل يستفز غيرتي بشدة.
والحاضر في جلسة امس، لا يمكنه الا وأن يحترم نزاهة هذا الرجل،هذا ان استطاع الا يحبه، فهو عندما يتكلم بجرأة عن وضع العراق الدامي، ويعترف بعجز العرب عن مساعدة أشقائهم في البقع النازفة ، انما يقول الحقيقة دون تزييف، وهو عندما يعبر عن اشمئزازه من سياسة بلاده الخارجية المعادية للعرب والمساندة لأسرائيل ومطامعها الاستعمارية انما هو يقول الحقيقة..وهو عندما يصف ردهات البرلمان البريطاني بقاعات جرائم مذكرا ايانا بوعد بلفور واتفاقية سايكس- بيكو وغيرها من المكائد فهو يخبرنا بما نعرف ونحفظ، فهو أيضا يقر بالحقيقة.. وهو ليس بالامر السهل في أيامنا هذه، فالسيد جالوي انما هو تجسيد حقيقي لمعاني العدالة والحق، فما الذي يدفع شخصا مثله لأن يترك بلاده وعمله وامتيازاته الاجتماعية ويجول في الشرق الاوسط متحدثا عن الآم شعب لا ينتمي اليه ومنبها الى ان السكين الاستعمارية مستمرة في الانغراس أكثر وأكثر في الجسد العربي.
ما الذي يدفع السيد جالوي الى فضح حقائق السياسة الغربية وجبن القيادات العربية متحملا جميع التبعات السلبية المترتبة على اقواله ،غير احساس عال بالانسانية والمسؤولية اتجاه أشقائه البشر عربا كانوا او غير عرب,مسلمين وغير مسلمين، سنة كانوا أم شيعة.
ان السيد جالوي والذي أمضى أكثر من ثلاثين عاما مدافعا عن حق الفلسطينيين في الوجود وفي حقهم في العودة ما زال يحمل مشاعل أمل يرجونا أن نبقيها متقدة، فهو لا زال يؤمن بان العرب والذين يمتلكون ثروات مادية وطبيعية وبشرية هائلة قد يفيقون يوما ما ..وقد تأخذهم الحمية والشهامة المفتقدتين الآن لأن يمدوا يدا الى أشقائهم في القدس وفي بغداد وفي بيروت.
أخجلني حقا وجود السيد جالوي بيننا، فهو بمثابة صفعة لكل منا..وانتهاك فاضح لجبننا وتخاذلنا وضيق افقنا. ونحن، اذ توجهنا لمتابعة كلماته بمناسبة الذكرى الستين للنكبة، خرجنا وكلماته تمزق اوردتنا..وصورته لا تفارق مآقينا,,,وأنا اذ أتأمل بعضا من الحضور، اليافعين والذين لا شك ولدوا وعاشوا مجمل حياتهم خارج الارض المقدسة ,,ويحملون دماء الارض المحتلة، عندما أراهم يتأبطون أذرعة أجدادهم وابائهم الذين عاصروا مراحل التهجير والدمار، ويستمعون الى رواياتهم عن عكا وحيفا ويافا..وعن القدس وروابيها، عندما أراهم قادمين لحضور مثل هذه الندوات، تترسخ قناعتي بأن الوطن يمكن أن يتجسد أيقونة تعلق في الأفئدة، وان كان مستلبا،، وان كان جريحا.,وان لم تطأ قدماك ترابه, فان رائحته لا بد تسكن جسدك..
وكما قال السيد جالوي مساء أمس..وكما يقول دائما "كان بأمكان الفلسطينيين الاندثار ودخول التاريخ كشعوب منقرضة، والبقاء في المتاحف كالهنود الحمر، لكنهم أبوا، ومنذ 1948 اختاروا البقاء واعتنقوا الصمود وسيبقى هذا دربهم حتى نهاية التاريخ".
شكرا سيد جالوي، قدومك اشعرنا بالانسان يتحرك في داخلنا من جديد..
شكرا سيد جالوي، فوجودك بيننا في الوقت الذي يحتفل به غيرك بقيام دولة شيطانية على أراضينا زرع الغار على جبهاتنا..
شكرا أيها القادم من ضباب لندن، فقد ازلت بعضا من الصدأ المترسب على قلوبنا.