انتخابات العرب

صلاح حميدة

صلاح حميدة

[email protected]

طوّر البشر عبر مراحل تاريخية كثيرة آليات للمشاركة السياسية، والتمثيل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، والتدافع الطبقي والمصلحي، وتوّجوا هذا الحراك بما عرف تاريخياً ب ( العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم) والذي وضع فيه كل شعب آليات محددة للمشاركة السياسية، ولتغيير أنظمة الحكم والحكومات والرؤساء والنواب، وكان طبيعياً أن تصل الكثير من الشّعوب إلى درجات متقدّمة من المشاركة وحرية التعبير والقدرة على التغيير السياسي، فيما غيرها لم يستطع ذلك، وبقي في أسفل أو منتصف الطريق يراوح مكانه لأسباب كثيرة، بعضها ذاتي وآخر خارجي، أو الاثنين معاً.

 الانتخابات هي الآلية المتّفق عليها في بعض الدّول لإحداث التغييرات السياسية وغير السياسية ، وإقرار الدّساتير والقوانين، وكل ما يتعلّق بالرّغبات العامة لجمهور النّاس، ولذلك تنشط مؤسسات الاستطلاع في الدّول التي يحظى مواطنوها بقدر عال من حرية إبداء الرّأي، حتى تتلمّس تقبّل النّاس للسياسيين والسّياسات، وتجد المسؤولين في تلك الدّول يتمتعون بحساسية شديدة تجاه استطلاعات الرّأي التي تظهر المصير السياسي الذي سيلاقونه في الانتخابات المزمع عقدها عندما يحين وقت الحساب والإختيار.

في العالم العربي لم يتم التعامل مع جزئية الانتخابات كحلقة من كل متكامل لإنظمة دستورية تتبنى التغيير والشّفافية والمحاسبة، بل يوجد بعض النّظم العربية التي لم تستخدم هذه الآلية بالمطلق، لسبب بسيط، وهو أنّ هذه النّظم هي نظم ملكية أو ملكية بثوب جمهوري، يجمعها أنّها استبدادية الطّابع، تعتمد التّفرّد و التعيين في كل تفاصيل وحيثيات القرار.

بعض الأنظمة العربية استخدمت الانتخابات، ولكن على طريقة الاستفتاآت لشخص وحيد لا يوجد غيره، فالنّاخب يقف أمام ورقة وصندوق وموظّفين وجوقة من الأمن والاعلاميين، ولا يجد إلا فرصة للاختيار بين الحاكم أو الحاكم، أو الحزب أو الحزب، ولا أحد غيرهما، وهذا ينطبق على المؤسسات الدستورية الأخرى، كمجالس الشعب أو البرلمانات والمجالس البلدية والأقاليم، فلا يوجد إلا لون سياسي واحد هو المسموح باختياره، وبعدها يخرج المنافقون للاحتفال بالفوز الساحق للحزب الحاكم.

في بعض الأنظمة العربية الأخرى، رأى القائمون عليها أنه من الأفضل أن يتم التعامل مع موضوع الانتخابات بطريقة أخرى، فهي تسمح بمعارضة غير فاعلة ومحجّمة، وبعضها تابع للحزب الحاكم بالتمويل أو لمصلحة تقتضي تغييب المنافسين الحقيقيين والبديل الجدّي لهما، فيما يتم تغييب البدائل الحقيقية بعصا الأمن السياسي، وبقوانين ودساتير صمّمت لتمنعها من المشاركة والفعالية و تهمشها جوهرياً من السّاحة، بينما يسمح لها بظهور نخبوي رمزي، ويتم قمع أي محاولة لها لاستثمار أي مساحة مهما كانت محدودة للمشاركة السياسية، حتى تبقى ضمن حلقة التهميش والملاحقة، بينما يظهر المشهد السياسي مشوهاً بنكهة متنوّعة من المرتزقة والمقموعين في نّظام سياسي فاسد، يتحكّم في رقاب وأموال ومصائر النّاس، يستأسد عليهم ويتاجر بمصالحهم ويفرّ هارباً من مواجهة الأخطار الخارجية للأوطان، أو يرضخ لها ذليلاً، ويقف عاجزاً عن حل المشاكل والمستجدّات الدّاخلية، لأنّه ببساطة نظام سياسي يبعد الكفاآت والمخلصين، و يقرّب من يبدعون في النّفاق والتّملّق والانتهازية، ولا يلزمون النّظام الرّسمي إلا في إكمال المسرحية باحتفالات بفوز وهمي على منافس مغيّب قصراً عن المنافسة الحقيقية.

السّلوك الرّسمي العربي مع الانتخابات يتم بطريقة مشوّهة تناقض الهدف الرّئيس للانتخابات نفسها، فالانتخابات هي آلية للتغيير والمشاركة السياسية، ولكنها في العالم العربي إن استخدمت فتستخدم كغطاء لممارسات قمعية تسعى للتفرد في القرار السياسي، تجمّل دولة الاستبداد التي تحكم الشّعوب بالعصا و التّهديد.

هذا يدلل على أنّ ثقافة الحرية و القدرة على التعبير والتّغيير السياسي والخدماتي في العالم العربي لم تنضج بعد، وأنّ ثقافة الاستبعاد والاستئصال والتّغييب والتحكم والاستئثار بالسلطة هي التي تحكم غالبية جمهور السياسيين في العالم العربي، وأنّ أي انتخابات تتم، إنما تتم إما لامتصاص احتقان، أو لكشف قدرات الخصم السياسي ومن ثم تحجيمه و القضاء عليه، أو لتسويق وريث جديد للسلطة من نفس المؤسسة الحاكمة، أو نتيجة لضغوطات لتسويق مشاريع خارجية محددّة لا تتفق مع طموحات الشّعوب، أو نتيجة لضغط آني خارجي يهدف لتغيير واقع معين، وإذا تم التّغيير بالانتخابات الحرة لواقع لا يريده الضّاغطون الخارجيون، يتم حصار هذه التجربة الوليدة ووأدها في مهدها قبل أن تثمر. وقد يصرّ النّظام الرسمي في أحيان أخرى على إجراء انتخابات في واقع مشوّه لا يفوز فيها إلا هو، حتى ولو كانت نتيجتها تمزيق الدولة والشّعب، وما دامت القوى الخارجية موافقة على الانتخابات، فلا يهم حتى لو قاطعها الجميع وبقي الرّئيس، وليذهب الوطن والمواطن بعدها الى الجحيم. وفي أحيان أخرى، يهدد المهزوم باللجوء للفوضى والعنف، إذا لم يتم اعتباره فائزاً كما جرى في الانتخابات العراقية الأخيرة والتي أثبتت الوقائع التفجيرية على الأرض، أنّ هذه التهديدات تمت ترجمتها فوراً !!.

هذه السّلوكيات العوجاء في التّعامل مع الانتخابات، هي التي تفسّر الاقبال الضّعيف على المشاركة في الانتخابات العربية عموماً بالرغم من التّخويف والتّهديد بعصا القوى الخفية وهي التي تفسر أيضاً المشاركة الكبيرة للجماهير في حالات استثنائية، سمح فيها بانتخابات نزيهة، ما لبثت أن أجهضت في مهدها، لأنّها أتت بمن لا يرغب بفوزهم محلياً وإقليمياً ودولياً.

ولكن هذا يطرح تساؤلات مهمة عن ثقافة الجماهير العربية والنّخب والأحزاب والسّياسيين العرب، ونظرتهم للانتخابات والمشاركة السياسية وحرية التعبير، فمن الملاحظ أن الجماهير بشكل عام تعرف ما تريد، وعندما تتاح لها الفرصة للاختيار فهي تختار، وعندما يتم إقصاء الأطراف الفاعلة من الانتخابات وتهميشها، فإنّ الجماهير تلجأ إلى المقاطعة وإهمال التسجيل للانتخابات والمشاركة فيها، ولذلك تكون نسب التّسجيل والانتخاب والأوراق البيضاء والغير محتسبة كبيرة، ولكن لا يوجد ميل عند الجمهور للدّفاع عن خياراته عندما تختطف، مثلما حدث على سبيل المثال في فنزويلا عندما انقلب العسكر على هوجو شافيز، فقد خرج الناس عن بكرة أبيهم دفاعاً عن خيارهم، وأعادوه إلى سدّة الحكم.

تساؤلات كثيرة تتبادر لذهن المراقب للشّأن الانتخابي والواقع السياسي العربي، ولكن المؤكد أن الانتخابات العربية تحمل في جوهرها ميّزة متفق عليها من غالبية الباحثين، وهي أنّها تستخدم كآلية تناقض الهدف الذي أنشئت من أجله، فهي تنظّم لتثبيت أركان و التغطية على الدكتاتورية والاستبداد والتفرد في الحكم، ومنع التغيير والمشاركة وتبادل السلطة بين الفرقاء المختلفين، وليس العكس.