النظام السوري يخوض جولة المفاوضات الأخيرة

عبيدة نحاس

النظام السوري يخوض جولة المفاوضات الأخيرة

حول دوره في "الشرق الأوسط الجديد"

عبيدة نحاس*

دخل التفاوض حول النظام السوري، وحول دور سورية في الشرق الأوسط الجديد، مرحلته النهائية. في ختام هذه المرحلة سنكون أمام أحد خيارين: تجديد دور نظام بشار الأسد في المنطقة وبالتالي ضمان عدم المسّ به (أي عدم العمل فعلياً على إزالته) لسنوات قادمة، أو انتهاء دور النظام وبالتالي التخلّي عنه عربياً وإقليمياً ودولياً وتركه لمواجهة مصيره بنفسه.

نناقش هنا مسألة استنفاد نظام الأسد دوره بالنسبة للخارج، الذي أداه على مدى ربع قرن في لبنان والمنطقة. فهذا النظام ليس عزيزاً على قلب أحد في المنطقة أو العالم اليوم، باستثناء إسرائيل التي ترى فيه "صديقاً لدوداً" حافظ على وعوده واحترم مواثيقه تجاهها، منذ اتفاق وقف إطلاق النار عام 1974.

ويبقى في الحالتين احتمال حصول تغيير داخلي للنظام قائماً، إذا تمكنت القوى الداخلية، معارِضة كانت، أم ناقمة من داخل السلطة، من إسقاطه.

وفي الوقت الذي يحاول فيه بشار الأسد وأجهزته إجهاض أي حراك داخلي، سياسي أو أمني، من خلال السيطرة المطلقة على مقاليد الأمور؛ يركز على التفاوض مع "الخارج" الإقليمي (ممثلاً في إسرائيل بشكل أساسي) والدولي (ممثلاً في الولايات المتحدة، وفرنسا، ومن ورائهما أوروبا)، لأنه يعتقد أن العامل الخارجي لا يخضع لسيطرته، فلا بد من اتقاء شره.

والتفاوض الذي نعنيه في هذا المقام ليس محادثات مباشرة بين فرقاء عدة وبين النظام السوري حول دوره. إنما هو سلسلة من الأفعال والأقوال واللقاءات والمحادثات غير المباشرة، في ملفات لا تمتّ بصلة مباشرة إلى مسألة "بقاء النظام"، بقدر ما تتعلق بدور سورية في المنطقة، بغض النظر عمّن يقود هذا الدور، ولا سيما في الساحات الثلاث الأهم إقليمياً للسياسة العالمية في هذه المرحلة: العراق، ولبنان، وفلسطين.

ككما أن عملية التفاوض هذه شاقة، يستخدم فيها كل طرف الأوراق التي بيديه، ويحاول مخادعة الآخر، وشراء الوقت إن لم يتمكن من فرض مراده في الوقت الحاضر، منتظراً ظرفاً أفضل. وأدوات التفاوض، وما يتم التفاوض حوله، هو في الواقع شعوب المنطقة، ولا سيما في الساحات الثلاث التي ذكرت. والبعد العربي في التفاوض ليس مهماً - في نظر دمشق التي أبدت قدراً لا يستهان به من الاستخفاف بالدول العربية وبقادتها - إلا بقدر ما يعكس التحسن في الموقف الأمريكي بالتحديد منها.

مبادرات حسن النية:

أدت سنوات من القطيعة والضغوط المتواصلة إلى إطلاق العملية التفاوضية مؤخراً، بعد مخاض عسير، وهذا تطور طبيعي في العلاقات الدولية.

في هذا الإطار قدم الطرفان الرئيسيان (النظام السوري، والتحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة) مبادرات حسن نية مؤخراً.

لذا نشهد اليوم هدوءاً نسبياً في العراق طال انتظاره وعودة ملفتة لكثير من اللاجئن العراقيين إلى بلادهم على سبيل الاستكشاف المفضي إلى إعادة التوطين.

مشاركة النظام في مؤتمر أنابوليس جعلت من "التغطية" التي وفّرتها المشاركة العربية "كاملة"، على الرغم من أن موضوع الجولان لم يُطرَح على الطاولة بشكل رسمي كبند على الأجندة، وتُرك لسورية حق طرحه من جهتها.

وبالتوازي مع أنابوليس كانت التهدئة في لبنان. وشهدت الأزمة اللبنانية "حلحلة" ظاهرة، من خلال ترديد اسم قائد الجيش العماد ميشيل سليمان كمرشح لرئاسة الجمهورية.

أما على الصعيد الفلسطيني، فقد أسهمت سورية في "عزل" حماس مؤخراً من خلال منع الفصائل الفلسطينية في دمشق من عقد مؤتمر "ممانعة" جديد "موحّد" ضد أنابوليس. فعندما انتقل المؤتمر إلى غزة، تبدّت العزلة في ظل التوتر على الأرض بين الفصائل - "المتلاحمة" قياداتها إلى حد ما في دمشق - وانكشف ضعف موقف المعسكر الفلسطيني "الممانع للتسوية بلا ثمن مع إسرائيل"، لأن المؤتمر أصبح مؤتمرين. أي دفعت دمشق - خفية - إلى عزل حماس بين الفصائل الفلسطينية التي تقيم قياداتها على أرضها، وأهمها الجبهتان الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين؛ بعيداً عنها بالطبع.

حركة "حماس" تشعر بالمرارة من تصرفات النظام السوري المشارك في أنابوليس، وهو ما عبّر رئيس الوزراء في حكومة حماس بغزة إسماعيل هنية عنه عندما عرّض بالقوى العربية التي تراجعت عن "ممانعتها".

إيران من جهتها تشي تصرفاتها ببعض الغضب من الابتعاد التكتيكي السوري عنها. ولم تنجح تطمينات النظام السوري الكثيرة في إزالة غضبها تماماً. وشملت هذه التطمينات زيارة للمعلم إلى طهران بينما لم يذهب إلى أنابوليس بنفسه واكتفى بإيفاد نائبه فيصل المقداد على رأس الوفد السوري. كما حصلت اتصالات أهمها بين الرئيسين السوري والإيراني أعلنا فيه أن أنابوليس محكوم بالفشل مسبقاً، حسب قول الجانب الإيراني، بينما لم يعلن الجانب السوري شيئاً! وللمرة الأولى منذ زمن طويل سمعت العاصمة الإيرانية هتافات مضادة لسورية في مظاهرة مضادة لأنابوليس.

يضع النظام السوري قدماً هنا وقدماً هناك. لم يقطع شعرة معاوية مع الفصائل الفلسطينية، ولا مع إيران. لقد سحب قسطاً من الدعم السياسي للفلسطينيين حلفاء ما يُسمى نهج "الممانعة" سابقاً، وامتنع مؤقتاً عن تقديم الدعم اللوجستي للمشروع الإيراني في العراق بمنع تسلل المقاتلين إليه، وهو ما شهد به قائد القوات الأمريكية في العراق بقوله إن العمليات التي ينفذها متسللون من سورية انخفضت، الأمر الذي ساعد في تحقق الهدوء الحالي.

في المقابل تمثلت مبادرة الطرف الأمريكي - الفرنسي في: الاعتراف - المرحلي، وقد يصبح دائماً - بـ "دور سوري مؤقت" في لبنان من خلال الموفدين والاتصالات، وأهمها اتصال الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بنظيره السوري بشار الأسد؛ وفي الاعتراف بأهمية سورية لعملية السلام من خلال دعوتها إلى أنابوليس.

أوراق التفاوض:

للحفاظ على المواقع التفاوضية، يمسك المفاوضون بالأوراق فيستخدمونها أو يُمسكون عن تفعيلها على مراحل، حسب التقدم الذي يتم إحرازه في الجولة التفاوضية.

أوراق النظام السوري في لبنان: وضع الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة الذي يمكن أن يثير الأزمة في أي وقت (تتهمها المعارضة بأنها لا دستورية ولا ميثاقية)، وهذا يؤثر على الاستحقاق الرئاسي الذي قد يقتضي تعديل الدستور (لانتخاب العماد ميشيل سليمان المرشح التوافقي الأوفر حظاً كما يبدو). فإذا مرّ هذا الاستحقاق وتجاوب حلفاء سورية (المعارضة) مع الحكومة وصولاً إلى انتخاب رئيس الجمهورية، يأتي استحقاق تشكيل الحكومة الجديدة. وفي كل مرحلة، يرتبط التأزم والانفراج بتقدم التفاوض حول النظام السوري.

وفي العراق، يمكن استئناف العنف في أي وقت. أما في الموضوع الفلسطيني، فقادة الفصائل الفلسطينية ما زالوا في دمشق، وإعادة بناء الثقة معهم لا تحتاج إلى كثير جهد، فليس لهم ملجأ آخر ملائم.

استراتيجية نظام بشار الأسد هي البقاء. وتكتيكه يقوم على شراء الوقت. والتخلي عن الأوراق ليس سهلاً، لا سيما أن مفاوضيه الدوليين بأيديهم أوراقهم أيضاً.

الاعتراف بـ "دور مؤقت" في لبنان، وبإمكانية قيامه بدور إيجابي في فلسطين، والسكوت على احتمال فتح ملف المفاوضات السورية - الإسرائيلية من جديد كما يطالب منذ شهور (واجهت هذه الرغبة رفضاً أمريكياً قاطعاً من قبل، على الرغم من الرغبة الإسرائيلية الواضحة في التجاوب مع السوريين)، ليست أكثر من تمهيد.

أما ما يريده النظام حقاً، فهو بالضبط الأوراق التي بيد مفاوضيه: إبعاد شبح المحكمة الدولية في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري، وعودة نفوذه الكامل إلى لبنان (دور دائم مسيطر، وليس مؤقتاً)، والاعتراف بمصالحه عند إعادة تشكيل العراق الجديد. وبعد هذا وذاك يتوقع النظام من خصومه أن يكفوا عن التفكير (مجرد التفكير) في دعم جهود تغييره، ومن ذلك عدم التوجه نحو عقد أي لقاءات أو تقديم دعم سياسي في المستقبل للمعارضة السورية، وللقوى اللبنانية الرافضة له.

الأمريكيون (والفرنسيون) من جهتهم، لا يريدون التخلي عن هذه الأوراق بسهولة. بل إنهم ينزعون إلى إطالة أمد التفاوض، بحيث يشمل "مرحلة اختبار"، قد تمتد على مدى الشهور القليلة الأولى من عام 2008.

إنشاء المحكمة الدولية في كانون الثاني/ يناير 2008 سيتم على الأرجح. ولكن مسار المحكمة، مع مجيء محقق دولي جديد لا نعرف توجهاته بعد (وسيقوم بدور الادعاء في المحكمة أيضاً)، قد يتحدد في ضوء نتائج الاختبار، إما بالاكتفاء بأكباش الفداء على غرار قضية لوكربي، أو بالتصعيد وصولاً إلى اتهام رؤوس كبيرة في النظام.

إذا حصل التصعيد، فالخيار العسكري ضد النظام غير قائم، ولا سيما في ظل التجربة العراقية، ورفض أي قوة سورية وطنية لعب دور في مثل هذا الخيار. ولكن التصعيد يمكن أن يؤدي إلى التخلي عن النظام، بمعنى عدم الاكتراث بمصيره، وهي ورقة قوية أخرى يلوح بها الأمريكيون، الذين أوحوا للنظام أنهم لا يكترثون لتهديده ببديل إسلامي له إذا رحل. وفي هذه المرحلة يتم الإمعان في إضعاف النظام بالعزلة الدولية والعقوبات ومحاصرة شخصياته، ويُترك ليواجه غضباً داخلياً دفيناً قد ينفجر، بل ويتم في الوقت نفسه كشفه إعلامياً وسياسياً، وهو ما تسميه المعارضة السورية "رفع الغطاء العربي والدولي عن النظام". وهذا سيكون أهم مؤشر على فشل المفاوضات. وثمة نماذج لهذا السيناريو حصلت مؤخراً في بورما (ميانمار) وباكستان، وقبلهما في دول أخرى مثل أوكرانيا وجورجيا. ولكن لنعترف بأنه ليس واضحاً بعد ما إذا كان النموذج السوري - إن وصل إلى هذه المرحلة - سيكون على غرار هذه النماذج، أو النموذج الموريتاني (انقلاب عسكري فتغيير سياسي)، أم سيقوم نموذج سوري فريد، وجديد في المنطقة العربية.

عندما يقترب موعد القمة العربية المقررة في دمشق في آذار/ مارس 2008؛ ستكون اللوحة أوضح. فإما تمضي القمة بنجاح في مكانها المقرر، أو تفشل بانخفاض التمثيل على مستوى رؤساء الوفود أو يتم تحويل مكان انعقادها إلى القاهرة - مقر الجامعة العربية وملجأ القمة الدائم في الأزمات - كمؤشر على أزمة النظام المستحكمة.

الجولة الأخيرة:

هذه الجولة ستكون الأخيرة في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش، أو في عهد الرئيس السوري بشار الأسد، أو في عهدي كليهما.

ستستغرق الجولة بعض الوقت. وحسب الجدول الزمني في أذهان قادة النظام السوري (عبّر بشار الأسد عن ذلك منتصف العام الجاري)، يمكن أن تنتهي الجولة بنهاية العام الحالي.

نظام بشار الأسد يقدم مبادرات حسن النية، على أساس أنه مضطر لذلك مؤقتاً. فبعد تجاوز مرحلة الاختبار، أي بعد ربيع 2008، ستكون الإدارة الأمريكية عاجزة عن التلويح للنظام بالعصا وهي تدخل شهورها الأخيرة، وبالتالي يفقد الفرنسيون أيضاً قدرتهم على الضغط.

وفي تقدير سدنة النظام، أنهم بعد تجاوز المرحلة يمكن أن يفعلوا ما يحلو لهم، لأنهم لن يتخلوا عن الأوراق التي بأيديهم فعلياً، بل سيمتنعون عن استخدامها في الوقت الراهن، كما يعتقدون. وهم لا يملكون تقديم شيء في الواقع، سوى الامتناع عن فعل شيء، أي يفاوضون على "عدم تخريب" مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، ليس لأنهم يرغبون في "ممانعته" أو "مقاومته" كما يزعمون، ولكن لأنهم يريدون أن يجدوا مكاناً لهم فيه. وبالتالي لن يتخلوا نهائياً عن سياسة "العنف"، التي يمكن استئنافها لتحقيق المآرب السياسية في المنطقة، سواء ضد المواطنين العراقيين (ليس المقاومة، لأن الاتهامات للنظام السوري متعلقة بمسؤوليته عن منفذي الهجمات على المدنيين العراقيين، أما المقاومة العراقية فلا صلة لها به)، أو اللبنانيين (عودة الاغتيالات). أما التحالف السوري - الإيراني، فنشك أصلاً في إمكانية فكّه بسهولة على المدى المنظور، حتى لو أراد النظام ذلك، فالفتور فيه لا يمكن أن يكون إلا مؤقتاً.

قد تختلط كل الأوراق، ويعود النظام السوري إلى المربع الأول، إذا حدثت مفاجأة في الداخل، تقلب الطاولة عليه. وهذا سره لدى المعارضة السورية، التي يتساءل المراقبون عن حدود قدرتها وقوتها وهي الغائبة - أو المغيَّبة - إعلامياً؛ ولكن صمتها ليس كله مريحاً للنظام السوري، حتى لو حاول التظاهر بالعكس.

               

* باحث سوري، مدير معهد الشرق العربي في لندن