فزّاعة التكفير وفتوى شيخ الإسلام

د.محمد بسام يوسف

لا تُرهِبنا فزّاعاتهم :

فزّاعة التكفير وفتوى شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله

د.محمد بسام يوسف*

[email protected]

شيخ الإسلام ابن تيمية عالِم من علماء الإسلام الأجلاّء، أفتى في مرحلةٍ زمنيةٍ معيّنة، وتصدّى في تلك المرحلة لفئاتٍ كانت ترتكب المحرَّمات، وتنتهك عقيدة الإسلام بعقائد مستوردةٍ لا يمكن لعالِمٍ مسلمٍ أن يغضّ الطرف عنها، كعقيدة الحلول والاتحاد والتأليه، وتناسخ الأرواح، وإنكار اليوم الآخر والبعث والعقاب والثواب، وتحليل نكاح المحارم، واعتماد التأويل الباطنيّ لركائز أساسيةٍ في الدين، .. وغير ذلك من العقائد الفاسدة الضالة، التي تنسف دين الإسلام نسفاً، وتهدّ أركان الإيمان هدّاً، وتُخرِج المسلمين عن الصراط المستقيم ليصبحوا نهباً للخرافة والشعوذة والانهيار، وتُفقِد أمّةَ الإسلام منعتها ومصدرَ قوّتها وعواملَ عزّتها، بعد أن تُوقِع معتنقيها في الكفر الصريح، وحاشا الإمام (ابن تيمية) أن يسكتَ على أمثال أولئك الضالّين المُضِلّين، وهو العالِم المؤتمَن على عقيدة الأمة، والعارف بنتائج السكوت المدمّرة على الأمة وأجيالها.. فكانت الفتاوي التي أطلقها مُحَذِّرةً، حذّرت أبناءَ الأمة من الوقوع في ذلك الضلال الرهيب الذي كان بعض المنحرفين الضالّين يدعون إليه، وهذا ما يُحسَب لشيخ الإسلام ويُسجَّل له في صحائفه الناصعة عند الله عز وجل.. ولا يُحسَب عليه!.. وهناك فرق كبير بين أن نقول: هذه الطائفة أو الفئة من الناس كافرة، وبين أن نقول: مَن يعتقد -مثلاً- بإلهٍ غير الله، أو مَن ينفي الإيمان بيوم البعث والحساب والثواب والعقاب.. فهو كافر!.. فهذه لا علاقة لها بتلك، لا من قريبٍ ولا من بعيد!.. هذه واحدة..

أما الثانية، فهي: إنّ الفقه الإسلاميّ واسع مرن متجدّد حسب الظروف المكانية والزمانية، والفقيه المسلم من واجبه أن يقرأ النصَّ الشرعيَّ باعتبار الظرف الواقعيّ والزمانيّ، بمعنى، أن يوائمَ بين فقه النص وفقه الواقع، فيكون من ثمرات ذلك: (الاجتهاد)، لاختيار الحكم الفقهيّ المناسب للواقع الكائن، في الفترة الزمنية المُعاشَة.. وعندما يتوقّف الاجتهاد، تبدأ الفجوة تتشكّل، ثم تتّسع، بين الرؤية الشرعية والرؤية الواقعية الحياتية، التي تعترف بتغيّر الزمان والمكان، وبضرورة إيجاد الحلول الشرعية الفقهية العصرية لكل جوانب الحياة. إنّ إقصاء الإسلام عن الحكم قروناً طويلةً، وتوقّف الاجتهاد الفقهيّ لأسبابٍ متعدّدة، منها الاستبداد ومصادرة الرأي والحريات، صنع هذا الجمود الذي نشهده اليوم، وفرض التخلّف عن مواكبة المستجدّات وتطوّرات الواقع الحياتيّ، لذلك نرى أن أمّتنا مطالبة بالسعي لنهضةٍ تجديديةٍ تقوم على أساسٍ شرعيٍ فقهيٍ قويم، لإعادة تنظيم العلاقات في مختلف جوانب الحياة ومناهجها، في ظل رحابة النص الشرعيّ المتنوّر المتجدّد، بما يخدم مصالح الأمة وأبنائها جميعاً في العصر الحاليّ، وبما يردم الهوّة الحالية القائمة، بين النص الفقهيّ الشرعيّ والواقع المعاصر الذي نعيشه.. وانطلاقاً من هذه الرؤية التي نتبنّاها، فإنّ الحركة الإسلامية لا تعمل بموجب فتوى أطلِقَت في ظرفٍ زمانيٍ ومكانيٍ مُحَدَّدَيْن، ومنذ أكثر من سبعة قرون، ولم يسبق لهذه الحركة الوسطية -في كل تاريخها- أن اعتمدت تلك الفتوى وعملت بها.. الذي كان يعمل بتعاليم الاستبداد والقمع والاضطهاد والبغي، فيقتل النفسَ التي حرّمَ الله.. هو ذاك النظام الأسديّ الحاكم.. فقد قتل الأبرياء من شعبنا -نساءً وأطفالاً ورجالاً- على الهوية.. وما يزال يقتل على الهوية ببغيه وفتاويه الاستبدادية الأحادية التسلّطية الخاصة، وبقوانينه الاستثنائية، كقانون العار القاتل المستمرّ رقم 49 لعام 1980م.. إنه نفس النظام الآثم القاتل الذي فتك بعشرات الآلاف من أبناء شعبنا السوريّ.. وهو نفسه النظام المستَنسَخ المتجدِّد، الذي جدّد دماءه عن طريق الوريث غير الشرعيّ بشار بن حافظ أسد.. ونفسه الذي يزوِّر الحقائق، فيخوِّف طائفته من شيخ الإسلام العظيم ابن تيميّة، ومن الحركة الإسلامية الضحية لكل شعوذة هذا النظام السفّاح وألاعيبه اللئيمة الإجرامية الخسيسة.. فهل يَعقِل هذه الحقيقة ويستوعبها.. أولئك المشوَّشين بشعوذة النظام الأسديّ ورئيسه المتسلّط على رقابنا جميعاً؟!..

على ذلك، فنحن لا نكفّر الناس، ولا نسمح لأنفسنا بأن نطلقَ الأحكام جزافاً بحق خَلق الله عز وجل، وقد شدّد إسلامنا علينا في ذلك، بل حذّرنا من تكفير الناس بلا مبرّرٍ أو لتحقيق مصلحةٍ خاصة، والمبدأ الذي تسير عليه الحركة الإسلامية منذ ولادتها هو: إننا دعاة لا قضاة، وإننا لا نحكم على الناس بجريرة بعضهم، وإنّ الحكمة والموعظة الحسنة هي وسيلة دعوتنا، وإن المجادلة بالتي هي أحسن هو الطريق المثمر لهداية الناس وتبصيرهم بحقائق الإسلام العظيم: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125).. وهذا لا علاقة له بفتاوي الشيخ الجليل (ابن تيمية) رحمه الله، شيخ الإسلام، وشيخ الحكمة والبصيرة والتجديد والعلم والفقه.. وشيخ الصبر والمصابرة، وشيخ الجهاد ومقارعة الأعداء، وشيخ مقاومة البغي والاضطهاد والطغيان، وشيخ الواقفين بالمرصاد لكل صاحب ضلالةٍ أو فسادٍ في الأرض أو انحرافٍ أو تحريفٍ لديننا العظيم.. الشيخ الجبل الأشمّ الذي قارع الخرافةَ بالعلم المحض والحجة والبرهان، ووقف شامخاً بوجه الدجل والدجّالين والمنحرفين الضالّين المُضِلّين في عصره!..

*    *     *

لقد أكّدنا في مشروعنا السياسيّ، بأننا نريد سورية بلداً تتحقق فيه الوحدة الوطنية، ويُنبَذ فيه التعصّب الطائفيّ، وتتعايش فيه مختلف الديانات والمذاهب والأعراق، ضمن إطار المصلحة العليا لهذا الوطن.. وبأننا نريد وطناً ينتهي فيه الصراع بين التيار الإسلاميّ والتيارات الوطنية الأخرى، ويتنافس فيه الجميع على تحقيق الخير لسورية، وعلى تثبيت هويّتها العربية والإسلامية، من غير تهميشٍ أو إلغاءٍ أو إقصاءٍ لأحد.. وإننا نؤكّد على أنّ هذا الفكر الذي يحث على التعايش بين السوريين، ينبغي أن يكونَ مادةً أساسيةً تتربى عليها الأجيال، إلى جانب تربيتها على قِيَم الحرية والعدالة وإحقاق الحق وإبطال الباطل، وعلى الدفاع عن حقوق الإنسان، وعلى مبدأ تكافؤ الفرص.. نسير على هذه الخُطى بعزّة المسلم المؤمن، ونُضحّي -تضحية المجاهدين العاملين لخير بلدنا وشعبنا- بكل ثمينٍ لتحقيقها، وندعو الآخرين للعمل لها.. فلا وقت في هذه الظروف الدقيقة العصيبة لهامش الكلام، ولا لجدالاتٍ عقيمة، أوسفسطةٍ تذهب بالجهد والوقت وخط السير الهادف المجُدي، وهي الأمور التي لا يستفيد منها إلا النظام الأسديّ المجرم.. فهذه يد الحركة الإسلامية السورية ممدودةً لكل السوريين الذين يسعون لاقتلاع الظلم والفساد والاستبداد من الجذور.. نفس اليد التي مُدَّت في مرحلة الاستقلال والمراحل المختلفة لمقاومة الاستبداد.. نبسطها دائماً، وقد فعلنا يوم أطلقنا ميثاق الشرف الوطنيّ، ومشروعنا السياسيّ لسورية المستقبل.. وما نزال نفعل، وسنبقى نبسطها إلى أن يرثَ الله الأرض ومن عليها، ليكون ذلك حُجّةً لنا عند مليكٍ مُقتدِر، موقنين أن لا جزاء لذلك إلا الجنة التي عَرضُها عَرْض السماوات والأرض.

 (قُلْ هَذِهِ سَبِيلي أَدْعُو إلى اللهِ عَلَى بَصِيرةٍ أَنَا ومَن اتّبَعَني وَسُبْحانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِين).. (يوسف: الآية 108).

               

*عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام