يا مبارك ... اذكر قبرك

أ.د/ جابر قميحة

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

يا مبارك ... يا رئيس جمهورية مصر العربية ، إليك كلمات أوجهها من قلبي وضميري وشعوري ... وأنت في الهزيع الأخير من العمر ؛ لأذكرك بدليل الله الصامت ... الذي ينفذ ولا يتكلم ، وهو الحتمية التي لا ينكرها لا مؤمن ولا كافر... إنه الموت يا مبارك ، فأذكرك بهذه الحتمية الحاسمة في العرض القرآني المعجز :

 يقول تعالى : " أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ..... ) النساء 78 .

 ويقول تعالى : " وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ " آل عمران (145)

 ويقول تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهو أكرم الخلق من إنس وجن : " وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ( 34)كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ " الأنبياء ( 34 و35)

 ويقول تعالى : " إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ " الزمر ( 30 و 31)

 ويقول تعالى : " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ " آل عمران (144)

 ويقول تعالى " إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) " الانفطار .

**********

وإليك بعض ملامح عهدك  بل عهودك المتتالية  يا مبارك  نمر بها مرور الكرام ونقول :

 ما أبلغ الإمام علي كرم الله وجهه إذ يقول : إذا كنت في إدبار والموت في إقبال فما أسرع الملتقى .

 ويقول  وما أبلغ ما يقول : ضعْ فخرك ، واحطط كِبرك ، واذكر قبْرك .

 وأنت يا سيدي يا مبارك  في هذا الهزيع الأخير من العمر  أنت أولى الناس بهذا التوجيه الرباني الصادق : نعم يا مبارك لم يعد هناك مجال لأن تفخر ، وتعلي صوتك ب " أنا " ..." أنا " ... أو " نحن " ... " نحن " . فلا مجال  يا مبارك  ولا وقت للفخر والتعالي .

 وإن أخذك الكِبر والخُيلاء والتعالي على عباد الله وعلى الآخرين ، فعليك  في هذا الهزيع الأخير من العمر  أن تعلن تخليك عن هذا المنزع البشري غير السوي ؛ فالكبرياء لله يا مبارك

 " وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الجاثية (37) .

 واذكر قبرك يا مبارك ... اذكر أنك صائر إلى عالم آخر ... وبيت آخر

 يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ " لقمان (33 ) .

 ومما جاء في ذكر القبر من الأحاديث والحكم ما يأتي :

 أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «القبر أول منازل الآخرة، فإن يُنج منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه. ثم قال « ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه » ( أحمد والترمزي وحسنه الألباني )

وجاء في البخاري ومسلم والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله تعالى بقوله: “اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال”.

 وفي سنن الترمذي عن هانئ مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: “كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي عند وقوفك على القبر؟

 **********

 وأعتقد أنك لم تقرأ يا مبارك  ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ويل لديان من في الأرض من ديان من في السماء ، يوم يلقونه إلا من أمر بالعدل ، وقضى بالحق ، ولم يقض على هوى ولا قرابة ، ولا رغب ولا رهب ، وجعل كتاب الله مرآة بين عينيه .

 ولم تقرأ يا مبارك  قوله : أشقى الولاة من شقيت به رعيته .

وهو متأثر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن شر الرعاة الحُطمة " أي الذي يظلم ويعذب ، ويحطم ، ويخرب .

 وذكر القبر  يا مبارك  يعني أن عليك أن تسير على الجادة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، فتتوب إلى الله توبة نصوحا ، وتأخذ نفسك بالعدل ، وتصلح ما وقعت فيه من مظالم ومآثم : وتطلق السجناء ، وترد الحقوق لأصحابها ، وتحكم شرعة الحق والعدل بعيدا عن الهوى ، ولا شك أن التاريخ قد سجل لك جناية غريبة هي : إيجاد أطفال يتامى مع أن آباءهم أحياء :

 فبعد أن جُردت كثيرين جدا من المواطنين من آدميتهم، ومن حقوقهم، ومن مكانتهم في وطنهم، فأصبحوا رهناء السجون، والبوابات السوداء، وحوكموا أمام القضاء العسكري بتهم لا وجود لها في الواقع ... بعد كل ذلك، يطلب منهم أن يحملوا الولاء للوطن وللحاكم ، وأن يكونوا نموذجًا للإخلاص الدائم الذي لا ينقض.

 وإن القلب لينزف دمًا وهو يرى الأطفال الصغار يتجهون إلى مقر المحكمة العسكرية، ليشهدوا آباءهم وهم يقدمون لهذه المحاكمات، وذنبهم أنهم عاشوا أطهارًا مخلصين للدين وللوطن، فلفقت لهم التهم، وجردوا من حقوقهم الطبيعية في التمثيل أمام القضاء العادي، وحكامنا يقولون بلسان الحال عن هؤلاء الأشراف (....أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ).(النمل 56) . ويعيش هؤلاء الأطفال محرومين من متع الحياة ، بل ضروراتها ، فبينهم وبين آبائهم سدود سوداء كجدران القبور ، فحياة الأب وموته سواء . وبعض هؤلاء الأطفال بلغوا سن الرشد ، وما زال آباؤهم يعيشون في غيابة الجب . وأصبح من الأمور العادية جدا أن يحكم القاضي حكما نهائيا بالبراءة ، ومع ذلك يصدر وزير داخليتك أمرا باعتقاله تنفيذا لقانون الطوارئ ، أي أن حكم الداخلية  وهو ظلم فاحش  أصبح أقوى من حكم القضاء . ومن البديهيات الإحصائية أن عدد أسرى الحكم المباركي يفوق عدد أسرى العرب والفلسطينين في سجون إسرائيل .

 وذكر القبر قد يدفعك إلى الاكتفاء بالسنين المديدة التى حكمت فيها مصر بقبضة من حديد ... خمس مدد كاملة ، وأن تتهيأ للسادسة ... هذا حرام .

 وذكرك للقبر قد يذكرك بقول عمر رضي الله عنه : اللهم أخرجني منها كفافا لا لي ولا علي .

 **********

 يا مبارك أنت صاحب ميزانية شهرية من أموال الشعب ، ومحظور ألف محظور أن تناقش ميزانية رئيس الجمهورية ، أتذكر  يا مبارك  أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أسقط دولتي الجبروت والظلم : الفرس والروم ، كان دائما يدعو : اللهم أخرجني منها كفافا لا لي ولا عليّ . ومات فقيرا بل مدينا ، يخدم رعيته ، ويطعم الجائع ، ويكسو العاري ، ويشتد على ولاته ، ويحاسبهم حسابا عسيرا .

 وأنت تعلم  يا مبارك  أن كبار الموظفين ، وكثيرين من كبار أعضاء الحزب الوطني يعيشون على الحرام : تهليبا ، وتهريبا ، وسرقات ، وفضائح ؛ لأنهم يعلمون أنه ليس هناك من يحاسبهم .

 يا مبارك ، معذرة أن آخذ بيدك لنرى كيف كان عمر يحاسب الولاة : كان إذا استعمل عاملا وخصوصا الولاة ،( وهم في مقام المحافظين الآن ) لا يسمح بدخولهم المدينة إلا نهار ، ولا يدخلوا ليلا ؛ كي لا يحجبوا شيئا من الأموال ، وكثيرا ما صادر أموال بعضهم كمصادرته أموال عامله باليمن ومصادرة أموال أبي موسى الأشعري عامله على البصرة ، ومصادرة أموال أبي هريرة عامله على البحرين ، وكان يرسل محمد بن مسلمة ليحاسب العمال ( المحافظين ) في البلاد التي يتولون أمرها .

 أما محافظوك  يا مبارك  فهم أحرار يفعلون ما يشاءون ، ولا يحاسبهم أحد ، فهم في محافظاتهم : الدستور ، والقانون ، والإرادة ، والأمر والنهي ، ولم لا وأنت  يا مبارك  لا يملك أحد أن يحاسبك .

 يا مبارك ، هل تعلم أن رسول كسرى حضر إلى المدينة لمقابلة عمر ... لم يكن له قصر كقصرك  يا مبارك  في شرم الشيخ ، ولكنه وجده ينام تحت شجرة . وعبر عن ذلك حافظ إبراهيم بأبيات جاء فيها :

وراع صاحب كسرى أن رأى عمرا
وعـهـده بـمـلوك الفرس أن iiلها
رآه مـسـتـغـرقا في نومه iiفرأى
فـقـال قـولـة حق أصبحت iiمثلا
أمـنـت  لـما أقمت العدل iiبينهمو




بـيـن  الـرعية عُطلا وهو iiراعيه
سـورا  من الجند والأحراس iiيحميه
فـيـه الـجـلالة في أسمى iiمعانيها
واصـبـح الجيل بعد الجيل iiيرويها
فـنـمـت نـوم قرير العين iiهانيها

 لقد كتبت من بضع سنين مقالا بعنوان " يا مبارك هل تنام " ومما قلت فيه :

 " ... فكيف تنام -يا مبارك ؟ وهل يهنأ لك منام في قصورك, ومنتجعاتك, واستراحاتك ؟ ألم يؤرقك ضمير, وتصرخ فيك نفس لوامة ؟ ألم تقل لك: إن أسراك  وهم عشرات من الألوف  هؤلاء إما أبرياء ، فيجب أن تطلقهم فورًا, وتعوضهم - من مالك الخاص - عن زهرة عمرهم التي أُهدرت وديست في معتقلاتك ، وإما مذنبون فيجب تقديمهم فورًا لمحاكمات علنية عادلة؟!

 هذا عمر رضي الله عنه أما قصرك ، وقد أجمع من زاروك في قصرك في شرم الشيخ  من أجانب ومصريين  على أنهم لم يشهدوا له مثيلا في الأرض .

 **********

 وفي عهدك  يا مبارك  ارتفع لهيب الغلاء ، وكأنما كان حافظ إبراهيم بقصدك بقوله :

أيها المصلحون ضاق بنا العي
عـزت  الـسلعة الذليلة iiحتى
وغدا القوت في يد الناس iiكاليا
ويخال الرغيف في البعد iiبدرا



ش ولـم تـحسنوا عليه iiالقياما
بات  مسح الحذاء خطبا iiجُساما
قوت  حتى نوى الفقير الصياما
ويـظـن  اللحوم صيدا iiحراما

 **********

 وأذكرك  يا مبارك  بأن الكفار حينما حاصروا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في انتظار خروجه ليقتلوه ، واستطاع بقدرة الله أن يفلت منهم ويهاجر إلى المدينة . فلما اكتشف الكفار ذلك ، اقترح بعضهم أن يقتحموا البيت ، ويعتدوا على من فيه من النساء . فقال أبو جهل : " لا  واللات والعزى  لا نفعلها أبدا ، فيلتصق بنا عار الدهر ، ويقول الناس أنهم اقتحموا البيت على النساء " .

 ولكن رجالك  يا مبارك  يقتحمون مساكن كل ذي رأي وعقيدة ، ويهتكون حرمة النساء ، ويفزعون الأطفال في الفجر ، وينهبون كل ما في المسكن ، من مال ، وملابس ، وحلي للنساء ، ثم يخربون المسكن بعد القبض على بريء جريمته أنه صاحب رأي وعقيدة ، ولسان حاله يقول :

أنا لم أسرق القروض من البن
لم  أبع ذمتي ، ولا خنتُ iiيوما
أنـا لـم أقتحم بيوتًا مع iiالفج
لا, وما زورت انتخابًا ولا iiكن
إنـمـا  عشت شامخا iiبيقيني
أنـا مـا بعت أمتي iiبرخيص
ما اتخذت الإرهاب دينًا ونهجًا
فـلـماذا  أصير رهن اعتقال
وأعـاني  لهيب شوقي iiلطفلي








ك,  ولـم أختلس جهارًا iiنهارًا
أو لـبـست الرياء ثوبًا iiمعارًا
ر،  وأفـزع أطفالها iiوالعذاري
تُ  دعـيـا أسـاير iiالأشرارا
رافـع الـرأس عزة.. iiوفخارًا
أو  بـغـال, ولم أخرب iiديارًا
لا ولا حـتـي فكرة أو iiحوارًا
وأعـانـي القيود والأسوارا ii؟
وبـناتي للحزن عشن iiأساري؟

 نعم  يا مبارك  اذكر ، وتذكر ، وخذ نفسك ، بقول على بن أبي طالب كرم الله وجهه : ضعْ فخرك ، واحطط كِبرك ، واذكر قبْرك .