فزّاعة الصراع المسلّح مع النظام

د.محمد بسام يوسف

لا تُرهِبنا فزّاعاتهم:

د.محمد بسام يوسف*

[email protected]

من الأمور التي أصبحت حقيقةً تفرض نفسها في منطقتنا العربية وبلدنا سورية خاصةً.. هذه التحوّلات السياسية التي بدأت تتضح وتظهر ملامحها، في طريقها إلى التبلور، ولم يكن ذلك كله، إلا نتيجةً من نتائج الهجمة التي يشنّها أصحاب المشروعات المشبوهة على منطقتنا العربية الإسلامية، بكل أبعادها الحضارية والتاريخية والأخلاقية والدينية والسياسية، لإعادة تشكيل المنطقة بما يخدم كل عدوٍ للأمة. وقد عانى شعبنا السوريّ الأمرّين -وما يزال- طوال أكثر من أربعين عاماً، بسبب الاستبداد والظلم والجور والقهر، على نحوٍ لم يسبق له مثيل في تاريخه، ويندر وجود مثيلٍ له عند أي شعبٍ من الشعوب في الأرض، ولقد كان للقوى السياسية الوطنية الحقة الفاعلة في سورية.. دورها المشرّف، في مقاومة الطغيان ومقارعة الظلم والاستبداد، بكل الوسائل الممكنة، وكان للحركة الإسلامية دورها الطليعيّ الرائد في تلك المقاومة والمنازلة، وما يزال هذا الدور متوهّجاً فاعلاً ريادياً، وفق نهجٍ قديمٍ-جديدٍ متطوّر، جاء عُصارةً لتجارب العقود الماضية في العمل والدعوة والكفاح، وقد بدأ هذا النهج بالرسوخ والاستقرار، اقتناعاً بأنه الطريق المجدي باتجاه إحقاق الحق وإبطال الباطل، والعودة بالوطن والأمة إلى حقيقة دورهما وأَلَقِهِما، ضمن لُحمةٍ وطنيةٍ راقية، يتسامى فيها أبناؤها على جراح الماضي وآلامه وفجائعه.. فالوطن مستهدَف، والمصير مشترك واحد، والعدوّ على أبوابه وعند أعتابه، يكاد يُطبق عليه من كل الاتجاهات!..

 لم يَرُقْ سعي الشرفاء لإرساء معالم وطنٍ حرٍ عزيزٍ منيعٍ كريم.. لبعض ضعاف النفوس، أو للمنتفعين من استمرار الأوضاع الشاذة، أو للحاقدين.. الذين لا يظهرون إلا لإطفاء شمعةٍ بدأ نورها يُشعّ في نفقٍ مظلم، أو لتأجيج نار فتنةٍ أخمدها العاقلون المخلصون لوطنهم وأمّتهم، أو لاجتثاث بذور لُحمةٍ وطنيةٍ واعدةٍ بدأت تتشكّل، أو لغير ذلك من قَطْعٍ لدابر الخير الذي سينعكس ازدهاراً وبرداً وسلاماً على الوطن كله.. لم يَرُقْ كل ذلك للنظام الجائر المتسلّط، ولا لأولئك الناس من ذوي الأفق الضيّق، أو للذين يمارسون دورهم المشبوه في خدمة مخططات العدو، من غير حياءٍ أو رادعٍ من خُلُقٍ أو ضمير!..

أمر لافت ظهر مؤخراً، هو نشر بعض المقالات التحريضية، التي تنال من الحركة الإسلامية السورية، وتُشكِّك بتوجّهاتها ونهجها وسياساتها، وفيها تم عرض بعض التساؤلات المهمة، بعضها على سبيل الاستفسار، وليس على سبيل التشكيك والتحريض الذي يقوم به بعض الناس، من الذين تستهويهم مهنة زراعة الفتنة لحاجةٍ في نفوسهم!..

إننا حين نتحرّك على الساحة الوطنية لرصّ الصفوف بوجه الظلم والاستبداد وأهله.. إنما نتحرّك بوازع التزامنا الإيمانيّ والوطنيّ والأخلاقيّ، بهدف تحقيق المصلحة الوطنية العليا لوطننا وشعبنا وأمّتنا، ساعين لطيّ صفحات الماضي وجراحاته، وناظرين إلى المستقبل بعينٍ كريمةٍ عادلةٍ لا تفرّق بين أبناء الوطن الواحد على أساس منابتهم وأصولهم ومذاهبهم واتجاهاتهم السياسية أو الدينية!..

لقد دأب النظام الأسديّ الدكتاتوريّ في حربه الظالمة التي يشنّها علينا.. على نشر فزّاعاته الكرتونية متعدّدة الأشكال والألوان!.. فمن فزّاعة المواجهة المسلّحة مع هذا النظام، إلى فزّاعة الطائفية، مروراً بفزّاعات التحريض على العنف، وسلوك منهج التكفير، و.. وغير ذلك من الأمور واضحة الأهداف والمقاصد.. فما مقدار الحقيقة في ما حملته تلك الفزّاعات من افتراءاتٍ وتحريضٍ وتزوير؟!.. لنناقش كل ذلك بشكلٍ مباشرٍ وبصراحةٍ تامة، من غير مواربةٍ أو مجاملة، أو قفزٍ على حقائق التاريخ والجغرافية والديموغرافية، كما يفعل أصحاب الفزّاعات المتهافتة!..

*     *     *

الحركة الإسلامية السورية ليست تنظيماً مُسَلَّحاً، والمواجهة المسلّحة مع خصومها ليست من منهجها، فهي حركة دعوية مسلمة، ترى أنّ الحوار هو الوسيلة الأساس لتحقيق الأهداف، التي تنشد من تحقيقها خير الفرد والمجتمع والوطن والدولة.. لكنّ النظام أوصد كل منافذ الحوار، وقبل ذلك بأكثر من عقدٍ من الزمن قام بخطواتٍ منهجيةٍ استئصالية ضد أبنائها وضد كل مَن يخالفه من الإسلاميين أو غيرهم من الوطنيين، مستخدماً في ذلك أساليب القمع والسحق والإقصاء والتمييز الطائفيّ العنصريّ، ووضَع الشعبَ كله -ومعهم أبناء الحركة الإسلامية- أمام خيارٍ صعب: إما الإذعان للظلم والخضوع للطغيان، وإما الرفض وتحمّل تبعاته، وقد كانت غطرسة النظام وولعه في إهدار الدماء والأرواح.. أضخم عائقٍ في طريق حقن الدماء ودَفْعِ عواقب الاضطهاد والكراهية والحقد الطائفيّ الأعمى، وعندما اختار الشعب المقهور مقاومة الاستبداد والاضطهاد بعد أكثر من عقدٍ من ممارسات النظام القمعية، كانت جماعة الإخوان المسلمين جزءاً من الانتفاضة الشعبية العارمة التي وقفت في وجه الطغيان والتمييز الطائفيّ دفاعاً عن أبناء الشعب كله!..

لقد قامت تلك الانتفاضة في وجه الطغاة دفاعاً عن النفس، ومقاومةً لإرهاب النظام الذي مارس سياسة القتل البطيء والسريع ضد أبناء الشعب كلهم، وقد مارس قمعه وسحقه قبل أن تُطلَقَ طلقة واحدة في وجهه بسنواتٍ طويلة، وكانت مجازره العلنية التي اقترفها في الثمانينيات، كمجازر تدمر وحماة وجسر الشغور وحلب وحمص ودمشق وسرمدا و.. كانت الصفحة الأخرى لمجازره السرّية الصامتة التي ارتكبها في الستينيات والسبعينيات، إذ كان يُصَنِّف خصومَه السياسيين، في خانة الثورة المضادة التي ينبغي استئصالها، وما خطاب الضابط (حافظ الأسد) في ثكنة (الشرفة) بحماة عام 1964م، إلا الدليل الواضح على ما نقول، فقد قال وقتئذٍ: (سنصفّي خصومنا جسدياً)، وذلك قبل أن يقفز إلى السلطة بسنوات!.. فبدأت حملات التصفية، وفُتحت المعتقلات لأبناء الحركة الإسلامية والإسلاميين، وقد كانت حالة الطوارئ والأحكام العُرفية المفروضة على البلاد حتى الآن منذ أكثر من أربعة عقود، وأساليب القمع ومحاولات استئصال الآخر التي اتبعها النظام.. هي الخطيئة الكبرى التي أسّست للصراع بين الطرفين.. كما أنّ الحرب المعلنة التي شنّها هذا النظام، وتهديداته لأبناء الحركة الإسلامية والإسلاميين بالتصفية، والشروع في تنفيذ هذه التهديدات بحقهم، واتهامهم اتهاماتٍ باطلة، وتحميلهم مسؤولية أحداثٍ واعتداءاتٍ لا علاقة لهم بها، واستمرار الاعتقالات والتصفيات في السجون، والإعدامات الظالمة من غير محاكمات، ثم فرض القانون رقم (49) لعام 1980م، الذي يحكم بالإعدام على كل من ينتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين (مجرد الانتماء)، واستمرار الملاحقات داخل الوطن وخارجه، وتنفيذ المجازر الجماعية العديدة التي باتت معروفةً للناس أجمعين.. كل ذلك قاد إلى حالة الاحتقان القصوى، ثم إلى تفجّر الصراع المسلّح الدمويّ الذي اكتوى بناره أبناء الوطن كلهم!..

مع ذلك، فقد دأبت الجماعة في كل مرحلة، على أن تعثرَ على مخرجٍ للأزمة بالحوار البنّاء المسؤول، الذي يضع مصلحة الوطن والشعب فوق كل اعتبار، لكنّ صدى الكلمات كان يضيع أمام تعنّت النظام الدكتاتوريّ وحقده، الذي أغلق -وما يزال- كل منفذٍ للحوار الوطنيّ المسؤول!..

*     *     *

هل بعد كل ذلك، يمكن لمنصفٍ أو عاقلٍ أو شريفٍ أن يُحَمِّل الجماعة تبعات ذلك التاريخ الأسود، الذي كان النظام، وما يزال، وسيبقى.. مسؤولاً عنه وعن صناعته وإنتاج مآسيه.. مسؤوليةً كاملة؟!.. فالجماعة لم تكن في ذلك، إلا الضحية التي ما تزال تعاني من طغيان النظام وجبروته واضطهاده المتعدد الأشكال، على نحوٍ لم يسبق له مثيل، لا في وطننا سورية، ولا في أي وطنٍ آخر على وجه الأرض!..

بعد كل هذا، يتجاهل بعض مَن يظنّون في أنفسهم المكر والدهاء -عمداً- الحقائق التاريخية، ويرتدون عباءات الأوصياء على الحركة الإسلامية، بل على كل الأحزاب الوطنية في سورية، ويقومون بإطلاق  تحريضاتهم غير المسؤولة!.. فلماذا يتجاهل هؤلاء مذابح النظام ومجازره وسجونه التي ما تزال مستمرة، وينقضّون على الضحية لتحميلها مسؤولية الذبح الطائفيّ، الذي هو من مسؤولية النظام أولاً وآخراً؟!..

الجماعة لم تقترف عملاً تندم عليه أو تتوب منه، ولم تفرّط في جنب الله عز وجل.. فالذي اعتدى على حقوق العباد، وسبّب كارثةً وطنية، وفرّط بالأرض، وبدّد الثروة، وأهلك الحرث والنسل.. أَوْلى بمراجعة سياساته، وإدانة نهجه وما اقترفت يداه!.. والنظام نفسه يعرف مَن هو الذي أعلن الحرب على الآخر، ومَن هو الذي حمل السلاح بوجه الوطن وشعبه، إلى درجةٍ أصبح فيها احتلال حماة أولى من تحرير الجولان!.. كما يعرف تماماً، مَن الذي كان في موقف الدفاع المشروع عن النفس!.. والذين ظلموا واعتدوا واقترفوا ونكّلوا وقمعوا واضطهدوا وطغوا وصادروا كل نسمة حرية.. هم أَوْلى بالتوبة والندم.. بل بالإدانة والمحاسبة!..

               

*عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام