كلمات دخلت التاريخ
كلمات دخلت التاريخ
أ.د/
جابر قميحةفي سجل حياتنا كلمات وعبارات دخلت التاريخ ، وما زالت تعيش في أذهان الناس ، وتفرض وجودها ، وتجري مجرى الأمثال ، على اختلاف في الشهرة ودرجة التمكن . وأقدم للقارئ في السطور الآتية أربعا منها :
(1) القلم ... وعام الكف
معروف أن العرب يؤرخون بالأحداث المشهورة, ويطلقون علي العام اسم الحدث الذي وقع فيه. فهناك «عام الفيل» سنة 571م, وهو العام الذي توجه فيه أبرهة بالفيل لهدم الكعبة.
وهناك «عام الفجار» في المحرم بعد ميلاد النبي صلي الله عليه وسلم بأربعة عشر عاما. وهي معركة وقعت بين قريش ومن معهم من كنانة, وبين قيس عيلان.
وهناك عام الهجرة.. وهناك عام «الرمادة» أي عام الهلاك. وكان عام مجاعة قاتلة سنة 18 ه في عهد عمر بن الخطاب.
وهناك عام «الجماعة» سنة 41ه, وفيه تصالح الحسن بن علي ومعاوية بن أبي سفيان, وحقنت الدماء.
وفي أيام الثورة «أعوام» مشهورة. منها: عام النكسة سنة 1967, وعام «الحسم» الذي تغير توقيته عدة مرات. وهناك عام «الرخاء» الذي جاء علي هيئة وعد متجدد علي لسان السادات, ولم يتحقق حتي الآن.
كل هذه الأعوام يعرفها أغلب القراء, ولكني أعتقد أن أغلبهم لا يعرفون, ولم يقرءوا عن «عام الكف». لذلك سأتطوع - مخلصا - في تعريف هذا العام. والخلاصة أن «عام الكف» هو عام 1902. والكف هنا ليس معناها «المنع» ولكن معناها «اللطمة» . والعامة يقولون «القلم» ويقال: ضربته بالقلم, أو ضربته قلما.. وضربته بالكف, أو ضربته كفا. والضرب بالكف يعد إهانة بالغة للمضروب, بصرف النظر عن الأثر الحسي, الذي يتركه «الكف» علي وجه المضروب, لأن الضرب بالكف عدوان علي الوجه, و هو أشرف ما في الإنسان, فهو يمثل إهانة عاتية علي الكرامة والرجولة.
وعام الكف هو عام 1902, واطلق عليه هذا الاسم لأن شابا اسمه " محمد نشأت" دخل علي كبير مشهور هو «محمد إبراهيم المويلحي بك», صاحب جريدة مصباح الشرق, فتفوه المويلحي بكلمات اعتبرها الشاب «الوسيم» تجريحا لشرفه وكرامته, فصفعه صفعة قوية, وتركه وخرج. واشتهرت الصفعة في المجتمع المصري, واتخذ منها الأدباء, والشعراء مادة للسخرية من المويلحي. حتي إن أحمد شوقي نظم ثماني مقطوعات مختلفة في عام الكف هذا, وفي إحداها يخاطب «المويلحي قائلاً:
ولقد ظننتك يا محمد في فن الكتابة حاذقا فَهِما
وطفقتُ أسأل كل ذي ثقةٍ حتي نظرت بصدغِك القلما
وخاطبه في مقطوعة أخري يقول فيها:
يا باذلا وجنتيه إن كنتَ للغيظ كاظمْ
بذلت خدا لنشأت فجُدْ بخدّ لكاظمْ
ونعيش عهود الكفوف !!
لقد حفظ التاريخ لنا هذه الحادثة الفردية, ولكنه حفظ أيضا أن شعوبنا - في العهود الثورية - عاشت - ومازالت تعيش - لا عام كف واحدة, ولكن عشرات من سنين «الكفوف» الموجهة من حكامها إلي أصداغها, وعيونها وأقفائها, مع أنها لم تخدش لحاكم كرامة ولا بكلمة واحدة, بل استجابت واستسلمت, وشدت الأحزمة علي البطون, والألسنة والأقلام والعيون. فمتي يكون للشعوب «كفوف», إن لم تضرب بها, فلا أقل من أن تحمي بها وجوهها من «كفوف» الظلم والقهر والعدوان ؟.
**********
(2).... يا برديسي
انتهت الحملة الفرنسية على مصر سنة 1801م بوصول القوات العثمانية-الإنجليزية إلى مصر، وهزيمة الجيش الفرنسي في أكثر من موقعة، مما دعا الجنرال الفرنسي "بليار" إلى طلب التفاوض للجلاء عن مصر . وتم توقيع اتفاقية الانسحاب الكامل من مصر في 31 أغسطس سنة 1801م..
ومن هذا التاريخ وحتى سنة 1805م -حين تولى "محمد علي" حكم مصر- كانت الحالة السياسية في مصر مضطربة للغاية، فكان حكم مصر متنازع عليه بين الدولة العثمانية والإنجليز وبقايا المماليك، والقوى الشعبية بقيادة السيد "عمر مكرم" ، كل هذا و"محمد علي" يحرك الأحداث بذكاء وينتظر اللحظة المناسبة التي انتظرها طويلاً..
وعادحكم مصر بعد كثير من النزاعات والحروب الصغيرة إلى أيدي المماليك، وتحديداً إلى "عثمان بك البرديسي".. تلميذ "مراد بك"..
ومع عودة حكم المماليك، عادت كل شرورهم وطغيانهم، وعادوا إلى سياستهم بفرض الضرائب الباهظة على أهل مصر ، فاشتد تذمر الأهالي وخاصة أن فيضان النيل قد نقص في تلك السنة (أغسطس 1803م) نقصاً شديداً، فأثر ذلك النقص في حالة الزراعة، واستولى الذعر على أهل القاهرة، وأقبلوا على شراء الغلال خوفاً من حدوث مجاعة، فارتفعت الأسعار، وشح الخبز في الأسواق، واشتدت الأزمة الاقتصادية على أغلب الشعب، وازداد الأمر سوءا مع تكرار اعتداءات المماليك والجنود الألبانيين على ما في أيدي الناس من الأموال والغلال، وفي ، فذهب السيد "عمر مكرم" وعدد من كبار شيوخ الأزهر إلى البكوات المماليك وطلبوا منهم منع اعتداء العساكر على الناس، فوعدوهم بذلك ، ولكن الجند والمماليك استمروافي اعتدائهم على الأهالي، وأخذ جو القاهرة يكفهر منذراً بالثورة..
بدأت أحداث الثورة عندما تجمهر الجنود (بتحريض من "محمد علي") عند دار "عثمان بك البرديسي" مطالبين برواتبهم المتأخرة، فاستنجد "البرديسي" (بصديقه) "محمد علي" الذي تدخل مشكوراً وقام بتهدئة الجنود في مقابل وعد من "البرديسي" بأن يدبر في بضعة أيام المال اللازم لدفع رواتبهم المتأخرة..
كانت خزانة الحكومة خالية من المال بسبب سوء الإدارة وتلف الأراضي الزراعية وتعاقب الفتن والقلاقل، ففرض "البرديسي" ضريبة جديدة على تجار القاهرة، لكنه مع ذلك لم يحصل على المال الكافي لسد حاجة الجنود الذين كانوا يزدادون كل يوم هياجا، فاعتزم "البرديسي" أن يفرض ضريبة جديدة على جميع الأهالي بلا استثناء، وكانت قيمة الضريبة الجديدة أجرة سنة كاملة موزعة على الملاك والمستأجرين، وكلف عمال الحكومة بأن يحصلوها من كل فرد من أفراد القاهرة من ملاك ومستأجرين..
أخذ عمال الحكومة يعاونهم جنود المماليك يجوبون أحياء القاهرة وشوارعها وحاراتها يكتبون أسماء الملاك والمستأجرين والتجار، ويلزمون كل شخص بدفع الضريبة، فبدأ الناس يتذمرون، وامتنع كثير من الناس عن دفع المطلوب منهم ، وخرج الناس من بيوتهم محتشدين في الشوارع حاملين الرايات والدفوف وأخذوا يلعنون حكام المماليك وهم يهتفون: "إيش تاخد من تفليسي يا برديسي!!"
**********
(3) أنا مش خِرع زي إيدن
في سنة 1967 أعلن عبد الناصر عن طريق الإعلام المسموع والمرئي أنه سيلقي بدولة العدوان إسرائيل في البحر ، فارتفعت أصوات إذاعاتنا بهذا المعنى التهديدي .
وفي الوقت نفسه خاطب الإعلام الإسرائيلي دول العالم بالنص التالي " إلى كل ذي قلب رحيم في أي بلد من بلدان العالم ، نأمل أن تعملوا جميعا على إيواء أطفال إسرائيل ، هربا من تهديدات عبد الناصر وإصراره على أن يلقي بإسرائيل في البحر " .
وكانت الإذاعة المصرية تكرر ليل نهار هذا التهديد الصاعق في الوقت الذي تكرر فيه الإذاعة الاسرائيلية ليل نهار رسالتها الباكية الموجهة لكل بلاد العالم .
فنجح عبد الناصر في خسارة أصوات العالم ، ونجحت اسرائيل في كسب قلوب الدول وتعاطفها . وهي براعة تسجل لها في مجال الإعلام .
ومعروف أن عبد الناصر في الأيام الأخيرة من مايو سنة 1967 عقد مؤتمرا إعلاميا عالميا … وما دار فيه معروف ، ولكن يهمني في هذا المقام ، أن صحفية ، أو صحفي انجليزي وجه إليه سؤالا مؤداه : وهل سيادتك تستطيع في هذه السن أن تتحمل الأعباءالحربية و النفسية ؟ فكان جوابه الفوري : " أنا مش خِرع زي إيدن " . وإيدن كان رئيس الوزراء البريطاني آنذاك. وهللت إذاعاتنا لهذه الحكمة الناصرية ، بل صنعوا منها الأغاني التى تذاع مئات المرات على الجماهير ، وأذكر منها ما غناه محمد طه بفرقته ومزاميره ، وطربوشه المعروف :
أنا مش خرع زي إيدن قالها ريسنا
أنا مش خرع زي إيدن قالها ريسنا
وتحول الإعلام المصري إلى أبواق رنانة … لا تصور واقعا ، ولكن كما قلت كانت أصواتها أكبر وأعلى من قاماتنا ، وواقعنا . ولا ننسى أحمد سعيد بحنجرته المجلجلة : " اضرب يا أخي ... دمر يا أخي ... ارفع رأسك فالعدو إلى اندحار حتمي ، ودارت الأغاني : مثل ابنك بيقولك يابطل هات لي انتصار ... الخ وكأن الانتصار مصاصة أو حبة بونبوني .
**********
(4) ارمي ..... ورا ضهرك يا حسني
وهناك كلمة مباركية يمكن أن نقول إنها بدأت تدخل التاريخ ، وهي كلمة رئيس الجمهورية محمد حسني مبارك للوزير الساقط " فاروق حسني " ، بعد أن خسر معركة اليونسكو :
"ارمي ورا ضهرك " ، والكلمة تعني : ولا يهمك .
( تنبيه : الصحيح أن تكتب العبارة هكذا : ارم وراء ظهرك . فمعذرة إذ أقدم العبارة كما كتبتها وتكتبها الصحف المصرية ) .
وتوالى حملة المباخر من أعضاء مدرسة المستنقع يعزون فاروق حسني ، ويصورون هذه الهزيمة بأنها في حقيقتها لها طعم الانتصار . ومن هؤلاء ملك تكية الأهرام " أسامة سرايا " الذي كتب تحت عنوان :
فاروق حسني خسارة بطعم الفوز
ومن ضمن ما جاء في كلمته : " ... كان يسعدنا بالقطع نحن المصريين والعرب أن يواصل فاروق حسني وزير ثقافة مصر تقدمه في الجولة الأخيرة( الخامسة), ويفوز برئاسة اليونسكو, وهي منظمة التربية والعلوم والثقافة في الأمم المتحدة وعالمنا المعاصر, ولكنه خسر في الجولة الأخيرة بعد ماراثون انتخابي مثير, ظل متقدما فيه برغم المنافسة الحادة, قطع علينا إجازات الأعياد بالمتابعة الدقيقة بكل تفصيلاتها, فقد كانت منافسة انتخابية صعبة وقوية بكل المقاييس, أبلي فيها الوزير المصري بلاء حسنا, وأعطي ما كنا ننتظره منه, وما نعرفه من شخصيته الناجحة ، بل والمتفوقة والمثيرة للجدل والحيوية في مصر, حيث قدم برنامجا لليونسكو في المرحلة المقبلة, سعى من خلاله للتعارف المتسع بين الشمال والجنوب, وبين الجنوب والجنوب, والدفاع عن السلام, في محاولة لبعث جديد للروح الإنسانية في مواجهة الصراعات والحروب, وركز في نقاط برنامجه علي إسهام العلوم في التنمية ومكافحة الفقر, ولم ينس البيئة والتنوع البيولوجي والاحتباس الحراري. كما أفرد للتنوع الثقافي بندا خاصا, باعتباره بعدا أساسيا في دعم السلام " .
هذا على الرغم من الجهود الرياسية الرسمية وغير الرياسية التى أهرقها نظامنا الحاكم ، ويقال أن هناك عشرات الملايين من أموال الدولة أنفقت لضمان نجاح " الأمور الجميل " فاروق حسني .
وغدا سنجد الفنانين يغنون هذه الجملة "ارمي ورا ضهرك " على طريقة محمد طه رحمه الله . هذا ، واحتفاء بهذه المناسبة أرسل إلي المواطن أيمن سميرالحديدي ببريدي الضوئي قصيدة طويلة باعامية . ومما جاء فيها :
ارمي ورا ضهرك وحياتي ما يهمك
أوعي تشيل الهم دحنا نشيل همك
احنا فداك يا مِتعْ انت وخالك وعمك
أليس من حقنا أن نقول : إن نظامنا الحاكم نظام عبثي ، ينطلق متقدما إلى الخلف ، ويعلو دائما إلى أسفل . ولاعزاء للعقلاء .