كيف نربي أبناءنا مجلة أسامة نموذجاً
كيف نربي
أبناءنا؟
(مجلة أسامة نموذجاً)
د. مية
الرحبي : النور 23/6/2004
أثارت حفيظتي فعلاً الاحتفالية التي قام بها
التلفزيون العربي السوري بمناسبة مرور
عام على إعادة إصدار مجلة (أسامة)، مجلة الطفل الأشهر في
سورية.
ولا أعترض على أهمية هذه المجلة فقد مرت بفترات
ازدهار حقيقية، شارك في تحريرها آنذاك
ألمع المثقفين التقدميين في سورية مثل زكريا تامر وسعد الله ونوس،
مقابل فترات انحسار وركود وصل إلى حد توقفها أحياناً.
ما أثار حفيظتي هو الأسلوب
الذي اتبع في رصد المجلة الآن، ومدى انتشارها وشعبيتها بين الأطفال في سورية.
أجريت مقابلة مع رئيس تحريرها ومع
عدد من الأطفال الذين تربوا في حضن منظمة الطلائع وتعلموا منذ نعومة أظفارهم اتقان
الرياء، وأن يمارسوا خطاباً أمام مسؤوليهم المباشرين ( المعلمين والمدربين )
مختلفاً عن ذلك في المنزل، وبين الأهل والأصدقاء، أي في المنطقة الآمنة، ففي المكان
الأول، لابد لهم أن يعلنوا بالفم الملآن، أن كل شيء على خير ما يرام، وعلى أكمل
وجه، وبارك الله بمن أعطانا وأكرم، وليس لنا إلا الشكر والامتنان، ومجلة (أسامة)
بشهادة محرريها والأطفال الذين يقرؤونها، خير مجلة للطفل على امتداد الوطن العربي،
وكل ما فيها جميل، ورائع ومفيد وممتع، ولا بد لنا من التعامي عن الواقع الذي يقول
غير ذلك تماماً.
سألت أحد الأطفال الذين أعرفهم،
وكان أحد الذين أجريت معهم هذه المقابلة، لماذا قلت ما قلت عن مجلة (أسامة)، وأنا
أعرف أنها لا تعجبك، وأنك تقرأ مجلة ماجد ( الإماراتية ) ؟ فأجابني ببراءة : لأنهم
يريدون ذلك.
ومن هم ؟ إنهم التلفزيون والمذيعة،
الذين يشكلون بالنسبة له، أشخاصاً خارج حدود المنطقة الآمنة، والذين لابد أن يقول
أمامهم عكس ما يضمر، بل ما يعتقد أنهم يريدون سماعه منه. وقد سألت الأم هل طلبت منه
المذيعة أن يقول غير قناعته، فأجابتني بالنفي، وهنا كانت المصيبة أعظم، فطفلنا بات
يعرف ما يجب أن يقال، حتى دون أن يملى عليه ذلك، بات يعرف متى وأين عليه أن يكذب
ليحصل على الأمان. لقد تراكمت في ذاكرة الأطفال الجمعية، أن الخروج عن هذا الخط،
سيودي به إلى التهلكة، فبات يعرف بكل ذكاء الطفولة الذي لا يقدره الكبار حق قدره،
كيف يروض عقله ولسانه كي يعيش هذه الازدواجية في القول والفعل.
هكذا نربي أطفالنا، بل يكرس الأهل
هذه القناعات، بأن يوصوا الطفل بأن ليس كل ما يقال في البيت، أو في المناطق الآمنة،
يمكن قوله خارجها، ويحذرون الطفل من ترداد بعض ما يسمعه في المنزل، إذا حدث ولا سمح
الله أن زل لسان أحد الكبار وتفوه بنقد ما للجهات المسؤولة.
وأعود إلى موضوع مجلة (أسامة)، فقد
دعيت مع مجموعة من المثقفين والمهتمين بشؤون الطفل، إلى هيئة تحريرها منذ نحو
السنة، وأعجبني ما طرح آنذاك من الرغبة في تطوير المجلة وتحديثها. ورغم ضيق الوقت
تحمست كثيراً للمشروع، وكان حلمي آنذاك كبيراً، بالمشاركة في دب النشاط ثانية في
مجلة أسامة، كي تعود لأخذ مكانتها مجلةً عربية سورية للطفل وفي الوقت نفسه تحمل
المتعة والفائدة، وجهدت في وضع تصورات ورؤى لخطاب جديد للأطفال، يمكن أن تتبناه
المجلة، ويحتوي النقاط الأساسية التالية:
1- إعادة النظر في الأساليب التي
تربى عليها أطفالنا، من حيث التقليد والتوحيد والعسكرة، التي تحمل داخلها القضاء
على الحرية الفردية والجرأة والإبداع، ونشر ثقافة بديلة تفجر إمكانات الطفل
وإبداعاته.
2- ترسيخ مبدأ الحوار الصريح
الصادق الحقيقي في التعامل مع الآخر، وقبوله.
3- أحقيتنا في الاستفادة من منجزات
الحضارة الإنسانية، التي ساهمنا نحن العرب في صنعها، في فترة ما من تاريخ البشرية،
مع الاحتفاظ بهويتنا وأصالتنا وتراثنا، والاعتزاز بها.
4- اعتماد مقاييس الصدق والإخلاص
والعمل الجاد المتقن والنزاهة مقاييس لتقييم الإنسان.
5- تعويد الطفل أن يكون جزءاً من
المجتمع، يحمل همه العام، ويشارك في تحسينه وتقدمه وتطويره.
6- إيضاح أهمية العلم الحديث في
رفع سوية مجتمعاتنا وإدخالها في ركب الحضارة.
7- شرح مبادئ مواثيق حقوق الإنسان
عموماً، وحقوق الطفل خصوصاً.
8- تأكيد المواطنة الكاملة بوصفها
حقاً مشروعاً لكل من يعيش على أرض الوطن، مع مساواة كاملة بين جميع المواطنين، دون
تمييز بينهم على أساس الجنس أو العرق أو الدين.
9- تأكيد مفهوم الجندر، وإلغاء
التمييز الثقافي والاجتماعي بين الجنسين.
10- البعد عن الخطابية والشعاراتية
في الخطاب الموجه للأطفال.
هذا عدا الاقتراحات التقنية التي
تضمنت التركيز على العلوم بأساليب ممتعة مشوقة، مثل تقديم قصص مصورة تحكي عن أشهر
الاختراعات والمخترعين في العصر الحديث، والتعريف بوسائل الاتصالات الحديثة، وكيفية
التعامل مع الكومبيوتر والإنترنيت، واستعمالهما استعمالاً مفيداً، عدا تغذية روح
الأطفال بالأدب الذي يحمل القيم الحضارية الإنسانية بكل أبعادها، ويعطي العبرة
والفائدة.
مع اقتراحات بتطبيق طرق الرسم
الحديثة على الكومبيوتر، لا الإبقاء على نفس الأشكال التقليدية، التي تصر المجلة
عليها منذ ثلاثين عاماً.
ويبدو أن ما طرحته من أفكار تجاوز
كثيراً قدرة المعنيين على تحمله، فاستبعدتُ من هيئة التحرير دون أي إيضاح أو حتى
اعتذار، ولم أنو فعلاً أن أفتح هذا الموضوع أبداً، وقد مر عليه أكثر من عام، حتى لا
يفسر موقفي من المجلة على أنه موقف شخصي.
وصدر العدد الأول من المجلة، وحمدت
الله على أن اسمي لم يكن موجوداً في هيئة التحرير، لأن العدد صدر يحمل نفس بصمات
المجلة في كل سنوات تعثرها، لم يضف جديداً سوى الورق الصقيل، ولا أعني أبداً أن
المجلة سيئة، ولكنها لم تحمل روح التجديد التي كان يمكن أن ترقى بها، ولم تحمل
ملامح التغيير التي حلمنا أن تكون جزءاً من ثقافة طفل بديلة.
ولست هنا في صدد تقويم المجلة، من
حيث كونها ربما أكثر جدية من غيرها من مجلات الأطفال العربية، ولكنني في صدد أخذها
مثالاً على أنها جزء من الخطاب الموجه للأطفال، والذي يرفض المعنيون تغييره، حتى
ولو أثبتت جميع معطيات العصر والتطور ضرورة ذلك، والإصرار على الخطاب الواحد الأوحد
الذي اتبع خلال العقود الماضية، والذي قاد إلى محو وطمس شخصية أغلب الأطفال لدينا
وقتل روح المبادرة والإبداع لديهم، وتحويلهم إلى مواطنين غير مبالين بالشأن العام،
قاعدتهم في الحياة (امش الحيط الحيط وقل ياربي السترة)، حتى إذا تجرأ أحدهم وقال
رأيه احتجاجاً أو اعتراضاً، لقي مصيراً لا تحمد عقباه، ما دام خرج عن الصوت الذي لا
يقبل الآخر أبداً، ولعل ذلك ما تجلى بوضوح سافر، بما تعرض له طلاب الجامعة الذين
اعتصموا احتجاجاً على إلغاء الدولة التزامها بتعيين المهندسين بعد تخرجهم.
هكذا نربي أبناءنا، صوت واحد، طاعة
عمياء، قيود تدمي الأيدي والأقدام والقلوب ، هكذا نربي أجيالاً نعول عليها أنها
ستحمل مسؤولية الوطن، نربي مواطنين عبيداً أذلاء لا مبالين خانعين، قُتل في نفوسهم
حس المبادرة والإبداع، ومن يجرؤ على الاعتراض فليس أمامه سوى عقاب المارقين