مأساة لمدارس الشرعية في ظل نظام الحكم في سورية

ناصر الديري

مأساة لمدارس الشرعية في ظل نظام الحكم في سورية

ناصر الديري

هناك خبر من سورية  أن الحكومة هناك قد ألغت إقامات الطلبة الأجانب الذين يدرسون في المدارس والمعاهد الشرعية، وأمرتـهم بمغادرة البلاد. وقد أكد قادم من دمشق هذا الخبر، فقد رأى جماعات من الطلبة الأجانب في المسجد الأموي على حال مأساوية، وقد أخبروا بإلغاء إقاماتـهم، وبالعودة فوراً إلى بلادهم[1].

ولنا أن نتصور حال هؤلاء الطلبة المساكين الذين جذبتهم بلاد الشام بالمعروف عنها من حسن الضيافة، وإكرام وفادة من يقدم عليها، وبخاصة من يفد عليها لطلب العلم. فبلاد الشام وطوال عصور التاريخ الإسلامي كانت نقطة جذب للعلماء وطلاب العلم من شتى بقاع العالم الإسلامي، وكان أغلب من يأتيها لهذا الغرض لا يحب أن يغادرها، لما يراه من طيب هوائها، ودماثة خلق أهلها ومحبتهم للغريب إذا كان هذا الغريب نبيل المقصد، كشأن الذين يقصدونـها للتزود بالعلم الشرعي.هكذا كانت بلاد الشام عبر العصور الماضية، إلى أن اعتكرت هذه الصورة المشرقة منذ أوائل الستينيات من القرن الماضي، وبالضبط منذ أن سطا العسكر من أبناء الطوائف على السلطة، وأوقعوا البلاد في شَرَك الطائفية الحاقدة، فتغير وجهها، وتحولت عن دورها التاريخي إلى أن أصبحت مباءة لكل مخرب وعدو للإسلام والمسلمين، وفتحت أبوابـها للشيوعيين والملاحدة من كل ملة، وطوردت العناصر الطيبة من أبنائها بالسجن والتقتيل والتشريد، وارتفع فيها صوت الباطل ودعاته، وصمت أو كاد صوت أهل الحق، إلا من نَأمةٍ هنا، وهمسة هناك تصدر خافتة وملتفة بأثواب التقية والحذر التي كانت جزءاً من عقائد أهل البدع؛ فأصبحت في ظل الوضع المقلوب الذي تعيش فيه بلاد الشام – سلوكاً لدعاة الحق، ولا حول ولا قوة إلا بالله. كانت المدارس الشرعية منتشرة في المدن الكبرى، وكانت هناك معاهد خاصة يديرها بعض العلماء وتمول من تبرعات المحسنين من التجار وغيرهم. وكانت هذه المدارس مقصودة من شتى بقاع العالم الإسلامي؛ من تركيا، ومن دول البلقان، ومن أواسط وجنوب شرقي آسيا، ومن المغرب العربي، ومن أفريقية ومن أوربا. وكانت هذه المدارس تتمتع بسمعة حسنة لجودة التدريس فيها. لكن حين اغتصب البعثيون السلطة – وهم من هم في كراهيتهم لكل ما يمت إلى الإسلام بصلة – ساءهم أن يجدوا هذه المدارس في
طريقهم، لاعتقادهم أنـها تقف حجر عثرة في طريق مخططاتـهم في تغريب البلاد وصبغها بالصبغة العلمانية كما يفهمونـها، وهي العلمانية المعادية للإسلام بشكل خاص. فكان التضييق على هذه المدارس والمعاهد من صلب مشروعهم المشؤوم هذا.وفي مؤتمراتـهم الحزبية المتعاقبة كانت قضية هذه المدارس ومسألة الإبقاء عليها أو إلغائها بنداً مهماً يدور حوله النقاش، بالإضافة إلى مصير كلية الشريعة في جامعة دمشق التي أنشئت في عهد الديكتاتور أديب الشيشكلي، وكان هناك رأيان يدور حولهما النقاش لاختيار واحد منهما:
1 – إلغاء هذه المدارس والمعاهد وكلية الشريعة، والاستراحة منها إلى الأبد، وبجرة قلم! لأنـها تتعارض مع «منطلقات الحزب!» ولأنـها «أدوات للرجعية والتخلف والإقطاع والإمبريالية ...» (إلى غير هذه الأسماء التي يحفل قاموس البعثيين بـها، والتي ما كان يذكر منها لفظ حتى يجر وراءه سيلاً من الأسماء والأوصاف الأخرى في «لازمة ممجوجة» تدل على الغباء والغوغائية المستحكمة(
2 – الإبقاء على هذه المدارس من الناحية الاسمية، وكذلك الإبقاء على كلية الشريعة، ولكن إخضاعها لسياسة الحزب، وتفريغها من الداخل، عن طريق إبعاد العناصر «غير الصالحة برأي البعثيين» وتسريب المؤيدين، أو على الأقل الذين ليس عندهم الإمكانية ولا الميل لمعارضة إملاءات الحزب.
وقد تغلب الرأي الثاني – كما هو معروف – لأنه الرأي الأسلم والأحكم الذي يتلاءم مع وجهة نظر دهاقنة الباطنية المسيطرين على هذا الحزب الهجين.
ولما حصلت المحنة الكبرى للشعب السوري أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وأصبح كل من ينتمي إلى الإسلام متهماً مشكوكاً بولائه؛ اشتدت وطأة النظام وأجهزته الأمنية على طلبة العلم الشرعي والعلماء من أبناء سورية وأصبح مجرد أن يكون شخص قد درس العلوم الشرعية تـهمة يحاسب ويعاقب عليها، فقل منتسبو هذه المدارس، وأصبح الاقتراب منها مغامرة غير مأمونة العواقب، ثم أدرك النظام أن خططه في الحرب السافرة على الإسلام – وإن حققت نجاحاً وقتياً – لن تؤدي إلى ما يريد على المدى الطويل، وذلك لأن سورية، ليست بلداً معزولاً، بل هي في القلب من العالم الإسلامي، تتأثر بما يموج به هذا العالم سلباً أو إيجاباً.
وأدرك النظام أن قضية الإسلام ليست قضية ثانوية يمكن القفز عنها وتجاهلها واستصغارها، ولعل انـهيار الاتحاد السوفييتي أعطاه فيما أعطى من دروس أن الإسلام يعصى على الاقتلاع والموت، صحيح قد تؤثر فيه القوة الغاشمة، فتجمده، وتغطيه بأغطية كثيفة، وتحجبه عن التأثير في الحياة؛ ولكنه لا يزول، ولا يعني كل ذلك أنه مات ولن يعود، كلا! بل بمجرد أن تنقطع الطاقة عن الجهاز الذي جمده وغطاه، تدب في أوصاله الحياة، وينتفض من سكونه ورقاده يهزأ بمن ظن أنه غاب إلى غير رجعة.
لو انتحى إنسان جانباً، وفكر في طبائع الشعوب ونظرتـها تجاه المشكلات التي تواجهها، ثم جاء دور الشعب السوري لمعرفة كيف يواجه هذا الشعب المحن والمصاعب التي تواجهه في تاريخه القريب، لاكتشف هذا الإنسان الباحث شيئاً طريفاً في طبيعة هذا الشعب، وأريد أن أسوق مثلاً تطبيقياً لما أدعيه، وهو كيف تعامل هذا الشعب مع هذا الواقع الغريب الذي وجد نفسه فيه، أعني الواقع الطائفي الذي يحترم ويتملق الديانات جميعاً ماعدا الإسلام السني الذي هو دين الأغلبية؟!.
لقد أصبحت هذه الكلمات: الوطن، الحزب، الدولة ومقدراتـها، ثم حافظ الأسد – ومنذ ما سمي بـ «الحركة التصحيحية» تعني شيئاً واحداً، وزالت الفوارق اللغوية والموضوعية من بينها. وفي ظل هذا الطغيان غير المسبوق أصبح المسلمون في بلاد الشام ولأول مرة يشعرون أنـهم غرباء في بلادهم، وأنه لابد من الصبر على هذه العاصفة حتى تمر، وازداد الأمر سوءاً منذ عام 1979 وما بعده، حيث طورد العلماء، وأسكتت أصواتـهم في كل مكان، ولم يبق تقريباً إلى كفتارو وأتباعه، الذين لا شيء عندهم يقدمونه إلا الكلام عن عبقرية «شيخهم» وجهوده و «تجديده!» وإذا خرجنا عن نطاق هؤلاء الذين لا شعبية لهم خارج نطاق حي الأكراد في دمشق، لا نجد إلا صوت «البوطي» - وهو كردي بالمناسبة أيضاً – الذي انفرد بالساحة، وكان حديثه أثلاثاً: ثلث لثلب التيار السلفي البعيد عن البدع، والتحريض عليه، وثلث للهجوم على الجماعات الإسلامية، بمن فيهم الإخوان، وثلث للإشادة بصلاح الدين العصر: حافظ الأسد وعهده الميمون. استمع إليه – غفر الله له – يقول في تأبين حافظ الأسد:
«... تمتع هذا الشعب من قائده الفذ بمعين لا ينضب، تضلَّع من هذا المعين الكثير الكثير(!) من الحكمة التي تعلمها، تضلع من هذا المعين الكثير الكثير من الشموخ في السهر على الحقوق، عرف وتعلم من هذا المعين الذي انتهله وتضلع منه كيف يجمع بين السلام الذي هو رسالتنا، وبين الشموخ وعدم التنازل عن الحقوق الذي هو واجبنا. هذا المعين لم ينضب، إنه مستمر؛ وقد تفرع عنه هذا النهر الدافق المعطاء، هذا الشعب وقد انتشى من هذا المعين‘، وقد تضلع كؤوساً إثر كؤوس من المعارف التي ورثها من هذا المعين’، لا يمكن، لا يمكن أن يغير مذاق فمه بعد ذلك، لا يمكن أن يتجه يميناً وشمالاً ليبتعد عن هذا المعين“ أبداً، سيبقى مع المعين” متمثلاً في هذا النهر الفياض المتفرع عنه، وأنا أعلم أن هذا النهر المعطاء لن ينضب.(طيب يا أخي! إذا كنت أنت متأكداً وتعلم أن هذا النهر المعطاء لن ينضب؛ ما لنا نحن؟! »[2].
نعود إلى كيفية تعامل هذا الشعب الصابر مع هذه الفترة، فالناس متعطشة إلى الإسلام تبحث عن وسيلة تبقي الجذوة مشتعلة في مهب العاصفة الطائفية العدائية الهوجاء، وهي من جهة أخرى تلحظ تعطش الرجل إلى التألُّهِ والجبروت والاسبتداد، وإرساءه تقاليد عبادة الفرد في تاريخنا الحديث، فكيف تخرج من بين هاتين المفارقتين بنتيجة؟ لسنا ندري من هو بالضبط صاحب فكرة «مدارس الأسد لتحفيظ القرآن» ولا كيف خطرت هذه الفكرة على باله، لكن لو أن هذه الفكرة طرحت على أي جماعة تعرف الوضع السوري من الداخل للنقاش لاستبعدت، واعتبر صاحبها مجنوناً. فما للأسد والقرآن؟! لكن المؤكد أن صاحب الفكرة سوري على كل حال، وأنه غالباً لم يخض نقاشاً بيزنطياً، حول نجاح الفكرة من عدمه، وإنما هو يريد عنباً، ولا يريد قتل الناطور[3] فضلاً عن أنه عاجز عن ذلك فليجرب لعلها تنجح، وقد نجحت!.
فمن يستطيع أن يصادر –  أو يمنع شيئاً وضع عليه اسم «أسد» في سورية؟ وقد أشرنا إلى أن حافظ الأسد قد حول الوطن والدولة والحزب إلى أن تصبح مفردات مرادفة لاسمه، وهو أولاً وأخيراً باحث عن ذاته، وقد رأى تحقيق هذه الذات لا يكون إلا بـ «الفرعنة والتألُّه!» عن أي طريق، وأي ضرر عليه أن يُرى، - بالإضافة إلى المهام التي ادخرتـها العناية الإلهية له وأوكلتها إليه – أنه حامي حمى الإسلام، أليست هذه هي صورته التي مازال البوطي يرسمها له حتى خطابه بمناسبة مرور أربعين يوماً على موته؟!.
وهكذا انتشرت هذه المدارس التي ينفق عليها المحسنون من التجار، وبالمقابل غض النظام نظره عن بعض المدارس والمعاهد الشرعية التي يديرها بعض المشايخ ممن يستطيعون أن يقنعوا النظام أنه لا خطر من أعمالهم، وتوصلوا معه إلى ما يشبه اتفاق الأمر الواقع وهو أن تغض الأجهزة الأمنية النظر عن مدارسهم وأنشطتهم لكن ضمن شروط معروفة، وهي الشروط العامة التي لابد أن يخضع لها كل من يريد أن يعمل عملاً ما في سورية، وتنحصر هذه الشروط في:
      الرشوة.
    تقديم التقارير والأخبار للأجهزة الأمنية.
    التملق والمداهنة.
    مدح الرئيس والدعاء له.
ولا يخفى على القارئ الحصيف أن كل واحد من هذه المطالب هي أمر مجمل تندرج تحت فروع وتفاصيل تشكل في مجموعها الحياة في ظل حكم كحكم حافظ الأسد الطويل.
لقد لجأ المسلمون في سورية إلى أساليب، وطوروا آليات طريفة من أجل الاحتيال على هذا الواقع الشاذ الذي وجدوا أنفسهم فيه، مما يستدعي أن يفصل القول فيه في غير هذه المناسبة، وكانوا أوفياء لتاريخ بلادهم في أن تبقى محافظة على دورها في نشر العلم وتقديم المعارف الشرعية لطالبيها على الرغم من المصاعب والعقبات، حتى أصبحت دمشق في السنوات العشر الأخيرة مقصداً لكثير من الطلبة المسلمين الذين أقبلوا على تعلم العربية والعلوم الشرعية من بقاع كثيرة من العالم.وعلى الرغم من كل هذه المحن التي تحيط بالتعليم الشرعي؛ إلا أن الذين يسوءهم أن يكون لسورية اسم في المجالات المحمودة عز عليهم أن يقصدها شباب من أنحاء العالم الإسلامي للتزود بالعلم الشرعي، فاستغلوا هذه الظروف التي اصطنعتها أمريكا للتضييق على المسلمين، وبدأوا بالنقيق والزعيق، فاهتبلها النظام فرصة لتواطئ نواياه الداخلية، النوايا الخارجية، لأن هذا النظام لا يسوءه ويقذي عيونه مثل انتشار المظاهر الإسلامية في المجتمع، كإقبال الناس على المساجد، ودراسة العلوم الشرعية، ورواج الكتاب الإسلامي في معارض الكتب التي يقيمها، وفشل المناهج العلمانية في الحيلولة بين الناس والإسلام ... بالإضافة إلى أن النظام، وهو في حاله البائسة وبحثه عما يرضي عنه أمريكا والقوى الحليفة لها يظن أنه بتضييقه على المدارس الشرعية وإلغاء إقامات قاصديها من غير السوريين يقدم خدمة يضيفها إلى الخدمات الكثيرة التي يقدمها لتبييض صفحته، والإبقاء على تسلطه وتحكمه في رقاب الشعب السوري.
وهكذا نرى كيف تلتقي نوايا هذا النظام، مع ماتريده الولايات المتحدة، فيكون المسلمون هم الضحايا والثمن لبقاء هذه النخب الحاكمة الفاسدة التي فقدت كل مسوِّغ لبقائها ...
 

         

الهوامش :

 [1]  - انظر جريدة الرأي العام الكويتية 24/2/2004 م.
-
خطابه في تأبين حافظ الأسد – مأخوذ من موقعه على شبكة الإنترنيت.الأرقام من
تعليقنا.[2]
[3]  -.
هذا مثل عند أهل بلاد الشام لمن لا يريد الفائدة الحقيقية بل إثارة
المشاكل