المرأة والعمل السياسي

دندل جبر

المرأة والعمل السياسي

        الحمد لله وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتّبعه ووالاه .

        عاشت المرأة قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم حياة شقية ، وعاملتها مجتمعاتها معاملة وضيعة ومهينة ، حيث لم ترْقَ في جُلِّ هذه المجتمعات عن مستوى المتاع والحيوان الذي يباع ويشترى .

   وكانت تعيش صراع الحياة والكرامة ، وتنشد أن ترقى إلى مستوى شقيقها الرجل ، وأن تلقى ما يلقاه من المكانة المرموقة والتكريم المناسب ، وأن يُنْظَر إليها مخلوقاً إنسانياً ، له كرامته وإنسانيته ، يملك المشاعر والأحاسيس التي يمتلكها الرجل .

        وجاء الإسلام - رسالة محمد صلى الله عليه وسلم - ليحقق لها إنسانيتها ويرقى بها إلى مستوى أخيها الرجل ، ويضعها في المكانة اللائقة بها ، ويرفعها إلى المستوى الذي يُنظر إليها فيه أنها دُرَّة مصونة معزّزة مكرّمة ، ويخلّصها من براثن الجاهلية التي كانت تعيشها شعوب العالم أجمع ، ويطهّرها من دنس النفوس وأهوائها ، ويؤهّلها لأمور جعلت منها عضواً فعّالاً في سياسة المجتمع وإدارته مع الرجل جنباً إلى جنب ، فقد قبل الرسول بيعتها مع الرجال ، وقبل إجارتها ، وقبل مشورتها .

        ونسمع في هذه الأيام صيحات جاهلة ومشبوهة ، تتهم الإسلام بأنه لم ينصف المرأة ولم يعطها حقوقها ، وخاصة منها الحقوق السياسية ، وجعلها رهينة البيت وحبيسة الحياة ، لذلك نقدم هذا البحث الموجز الذي يدحض هذه الفرية ، ويؤكد أن الإسلام أعطى المرأة حقوقها السياسية ، وهيأ لها مجال ممارستها لهذه الحقوق حين تقتضي المصلحة ذلك ، بأدلة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء .

        ومن هذه الأدلة :

أولاً : المساواة بين الرجل والمرأة :

‌أ-  قال تعالى : [ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ] [1].

الآية تفيد أن للمرأة حقوقاً مقابل الواجبات المفروضة عليها ، وهذا يعني المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات .

‌ب- قال تعالى : [ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ] [2].

‌ج- وقال تعالى : [ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ] [3].

‌د-  قال تعالى : [ من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ] [4] .

وبمقتضى هذه النصوص يثبت كمال إنسانية المرأة ويتقرر لها كل ما يتعلّق بهذه الإنسانية من حقوق ، وما تتحمل من تكاليف وتبعات ، وأن مناط هذا التكليف فيهما واحد وهو العقل[5].

‌ه-  وقال تعالى : [ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله ] [6].

فهذه الآية تعني أن الرجال والنساء شركاء في سياسة المجتمع ، وأن السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية ليست إلا أوامر بالمعروف ونواهي عن المنكر ، أحياناً بالتشريع والاجتهاد في معرفة الأحكام ، والأخرى بالفصل في الخصومات ، وثالثة بالتنفيذ والالتزام [7].

‌و- قال تعالى : [ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ] [8].

وقال عز وجل : [ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم ] [9].

وفي هاتين الآيتين دلالة على أن الحدود المنصوص عليها في الشريعة واحدة بالنسبة للرجل والمرأة ، وكذلك الأمر في أحكام الديات واحدة لا تفرق بين رجل وامرأة .

‌ز- يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إنما النساء شقائق الرجال " [10].

‌ح- يقول الإمام ابن رشد : " الأصل أن حكمهما واحد ( أي الرجل والمرأة ) إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي " [11].

ثانياً : المسؤولية الإيمانية :

‌أ.   إن مسؤولية المرأة الإيمانية في الحياة كمسؤولية الرجل سواءً بسواء ، فهي مأمورة كالرجل بالإيمان بالله وبملائكته واليوم الآخر والكتاب والنبيين …

وهي مسؤولة عن تصديقها وإيمانها بالله والرسول وإن خالفت أقرب الناس إليها . وقد ضرب الله مثلاً للذين كفروا بامرأتين كما ضرب مثلاً للذين آمنوا بامرأتين أخريين .

يقول تعالى : [ ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين * وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين * ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ] [12].

‌ب. وكذلك هي مأمورة كالرجل بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت الحرام إن استطاعت إليه سبيلا ، وعليها واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعليها واجب الولاية لجماعة المسلمين ، يقول الله عز وجل : [ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ] [13]، ويقول تعالى : [ ليعذّب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيماً ] [14].

ثالثاً : تكريم الإسلام للمرأة :

لقد كرم الإسلام المرأة تكريماً يليق بها وبمهمتها في الحياة ، وجاءت الآيات القرآنية وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا التكريم الذي كانت تفتقده قبل رسالة الإسلام الحنيف ، ومن ذلك :

‌أ-  قوله تعالى : [ ولقد كرّمنا بني آدم ] [15].

وكلمة " بني آدم " تشمل الجنسين الرجل والمرأة على قدم المساواة .

‌ب-   قوله تعالى : [ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إيّاه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً ] [16].

فهذا القضاء الربّاني لعباده المؤمنين يشمل الوالدين الأب والأم في حسن التعامل معهما وإكرامهما ووجوب رعايتهما الرعاية اللائقة بهما في الحياة الدنيا .

‌ج- وقد خصّ الإسلام المرأة سواء أكانت أمّاً أو أختاً أو بنتاً أو وليدة ، ببعض الخواص التي تستدعي الرجل زوجاً كان أو أباً أو أخاً أو ابناً أو سيداً أن يزيد في إكرامها وحسن صحبتها ، والوصاية فيها خيراً ، والإحسان إليها ، ورعايتها الرعاية التي تليق بها ، موفورةَ الكرامة والمقام .

ومما ورد في السنة النبوية الشريفة بهذا الشأن :

1-  عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك . قال : ثم من ؟ قال : أمك . قال : ثم من ؟ قال : أمك . قال : ثم من ؟ قال: ثم أبوك " [17] .

2-  عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس أحد من أمتي يعول ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن إلا كنّ له ستراً من النار " [18].

3-  عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استوصوا بالنساء خيراً " [19].

رابعاً : الأهلية للولاية العامة :

‌أ)   قول الله تعالى على لسان بلقيس ملكة سبأ :

[ يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون * قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين * قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ] [20].

من ذلك يتبين أن المرأة تستطيع أن تبدي الرأي السليم وتشارك في العمل السياسي وتمارس أعباءه [21]، وأن من النساء من تحملت أعباء الملك وإدارته على أساس الشورى ، فللمرأة من حصافة الرأي ، وسبر أغوار النفوس ، وعدم الاعتداد بما يبديه الأتباع والأشياع من إظهار الاعتداد بنفوسهم وقوتهم ، وعدم الاكتراث بغيرهم ، وإدراكها أن هذا الموقف عرف من المروجين للمتبوعين سيراً وراء ما يدركون من رغباتهم غير مقدّرين الحقائق ولا مخلصين النصح والإرشاد ، وإن هذا يدل على أن المرأة تستطيع أن تدبر الملك وتحسن السياسة [22].

‌ب) الرسول صلى الله عليه وسلم أقرّ للمرأة الحقوق السياسية بأن أجاز لها الأمان في السلم والحرب لأنه قبل أمان أم هانئ لأحد الكفار يوم فتح مكة ، وكان أخوها علي بن أبي طالب يريد قتله فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، زعم ابن أبي طالب أنه قاتل رجلاً أجرته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قد أَجَرْنَا من أَجَرْتِ يا أم هانئ " [23].

والأئمة كلهم على إجازة أمان المرأة للحربي ، عملاً بهذا الحديث ، وبالحديث الآخر الذي هو أعم دلالة منه : " المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمّتهم أدناهم ، ويجير أقصاهم ، وهم يد على من سواهم " [24].

‌ج)  بيعة النساء :

النبي صلى الله عليه وسلم بايع وفد الأنصار في العقبة الثانية وكان من بينهم امرأتان . " ففي هذه البيعة شاركت المرأة بالعهد السياسي ، على نفسها ومالها ، بالدفاع عن مبادئ الإسلام ورسوله ، وهذا يعني اشتراكها في الحقوق السياسية " [25].

‌د)  عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بإشارة زوجه أم سلمة يوم الحديبية [26].

خامساً : المرأة وبلوغ الكمال :

        عن أبي موسى رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كَمُل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران " [27].

        قال الحافظ ابن حجر : قوله : " لم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران " استدل بهذا الحصر على أنهما نبيّتان لأن أكمل النوع الإنساني الأنبياء ثم الأولياء ،
والصديقون والشهداء ، فلو كانتا غير نبيّتين لزم ألا يكون في النساء ولية ولا صديقة ولا شهيدة . والواقع أن هذه الصفات في كثير منهن موجودة فكأنه قال ولم ينبأ من النساء إلا فلانة وفلانة ، ولو قال لم تثبت صفة الصديقية أو الولاية أو الشهادة إلا لفلانة وفلانة لم يصح لوجود ذلك في غيرهن إلا أن يكون المراد في الحديث كمال غير الأنبياء فلا يتم الدليل على ذلك لأجل ذلك . والله أعلم [
28].

        وقد نقل عن الأشعري : أن من النساء من نبئ وهن ست : حواء ، وسارة ، وأم موسى ، وهاجر ، ومريم . والضابط عنده أن من جاءه الملك عن الله بحكم من أمر أو نهي أو بإعلام عما سيأتي فهو نبي ، وقد ثبت مجيء الملك لهؤلاء بأمور شتّى من ذلك من عند الله عز وجل ، ووقع التصريح بالإيحاء لبعضهن في القرآن [29].

        وهذا الحديث يلفتنا إلى توافر الاستعداد الفطري للكمال لدى الرجل ولدى المرأة ، أي أن الكمال غير ممتنع على المرأة وليس قاصراً على الرجل ، وإذا كان الكمال ممكناً فبلوغ درجات في طريق الكمال أكثر إمكاناً …

        وإذا كان قد اكتمل من النساء قليل في الأمم السابقة ، أفليس من حقنا ، بل من واجبنا ، رجالاً ونساء أن نأمل في أن يكثر الكُمّل من النساء في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فهو صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة … وهو صلى الله عليه وسلم سوف يباهي بنا الأمم … وهو إنما أُرسِل رحمة للعالمين … وهو صلى الله عليه وسلم قد بُعِث بأكمل رسالة [30].

سادساً : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

        قوله تعالى : [ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ] [31].

        يقول السيد محمد رشيد رضا - رحمه الله - في تعليقه على الآية :

        " في الآية فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على النساء والرجال . ويدخل فيه ما كان بالقول وما كان بالكتابة ، ويدخل فيه الانتقاد على الحكام والخلفاء والملوك والأمراء فمن دونهم ، وكان النساء يعلَمْن هذا ويعْمَلْن به " [32].

        وفيها دلالة على أن المرأة كالرجل ، كل منهما يشارك في سياسة المجتمع وإدارة شؤونه ، فالمرأة كالرجل لها حق الولاية العامة ( بعضهم من بعض ) ولها الحق كالرجل أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وما أعمال السلطات العامة إلا كذلك ، أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، وقد يتم ذلك بالتشريع والاجتهاد في معرفة الأحكام أو المشاركة في القضاء والفصل في المنازعات أو التنفيذ والإجبار[33].

        " إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة كبرى من أحكام الإسلام ، ووظيفة اجتماعية ، ولا يختص الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر صنفٌ من الناس دون الصنف الآخر ، بل يجب عند اجتماع شرائطه على العلماء وغيرهم ، والعدول والفساق ، والسلطان والرعية ، والأغنياء والفقراء ، والذكور والإناث ، لأنهما سواء في الخطاب بالأحكام الشرعية ، فخطاب الذكور موجّه إلى النساء إلا ما ورد بتخصيصه نص أو إجماع ، ومن ثم كان كل ما وجّه إلى المسلمين من وجوب إقامة الدين أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر يخاطب به الرجل والمرأة على السواء ، وقد تأكد حق النساء في هذه الآية … ويعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوام الدين والحياة السياسية وينبثق منهما كافة الحقوق الأخرى [34].

        وعن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الدين النصيحة ، قلنا : لمن ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " [35].

        وما أسمى درجة النصيحة في دين الله ، وقد عبَّر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك في قوله : " الدين النصيحة " أي أن الدين الحق لا يكون بغير النصيحة ، والدين هو دين كل مسلم رجلاً كان أو امرأة ، والله سبحانه وتعالى سوف يسألنا جميعاً رجالاً ونساء عن أداء واجب النصيحة لأئمة المسلمين وعامّتهم كلٌّ حسب موقعه ، وكل حسب قدرته .

        وللنصيحة جانبان : جانب شعوريّ ، وهو إرادة الخير للمسلمين كل المسلمين عامتهم وخاصتهم ، وجانب عملي سلوكي وهو إبداء الرأي وإعلان كلمة الحق ولو كلّفت الإنسان جهداً ومشقة [36].

سابعاً : المشاركة في رواية السنة وتعليمها للناس :

‌أ.   قال الحافظ الذهبي : " لم يُؤْثر عن امرأة أنها كَذَبت في حديث " [37].

‌ب. قال الشوكاني : " لم ينقل عن أحد من العلماء بأنه رد خبر امرأة لكونها امرأة ، فكم من سنة تلقتها الأمة بالقبول من امرأة واحدة من الصحابة وهذا لا ينكره من له أدنى نصيب من علم السنة " [38].

‌ج.  إذا نظرنا في كتب الصحاح التي تحتوي سنة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أن عدداً كثيراً من الأحاديث رويت عن أمهات المؤمنين وعن صحابيات كثيرات عاصرن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ثامناً : قيام النساء بما يعد من فروض الكفاية[39] :

‌أ.   النشاط السياسي يكون فرضاً أحياناً ، وعلى المرأة المسلمة أن تقوم يما يعد من فروض الكفاية على النساء في هذا المجال .

ومن هذه الفروض :

1.  كل عمل يجب أداؤه لتأمين رشد السلطة وعدلها واحتيج فيه إلى جهد النساء مع الرجال لكي يتم على وجه صحيح ، مثال ذلك مشاركة النساء في انتخاب العناصر الصالحة للمجالس التشريعية والمحلية والنقابية ، وكذلك المشاركة في التصويت على الاستفتاءات التي تعرض على الرأي العام فتُعِيْنُ بذلك على إقرار معروف أو إبطال منكر .

2.  الانضمام إلى الأحزاب والقوى السياسية المخلصة التي تريد الخير للأمة وتسعى إلى ترشيد السلطة وتعمل على الإصلاح الشامل القائم على مبادئ الإسلام من ناحية ، والمستوعب لتجارب البشرية وعلوم العصر من ناحية . وذلك لتدعيم نشاط تلك القوى والأحزاب في مواجهة القوى التي تعادي الإسلام ، والأحزاب النفعية الانتهازية التي يدعم نشاطها أعداد كبيرة من الرجال والنساء ويكسبونها السطوة والغلبة .

3.  نشر الوعي السياسي بين النساء وخاصة في بعض المواسم ، مثل موسم الانتخاب . وذلك إذا اقتضى الأمر ذهاب القائمين على نشر الوعي إلى البيوت ومخاطبة النساء عن قرب وإجراء حوار معهن .

4.  الإشراف على تنظيم وتنفيذ عملية الانتخاب لتحقيق صدقها ونزاهتها ، وذلك في أماكن خاصة بالنساء لتجنب مزاحمة الرجال .

‌ب. إقرار الشريعة حق المرأة في الانتخاب :

إن القاعدة الأصولية تقول : ( الأصل في الأمور الإباحة ) وبناء على عدم ورود تحريم من الشارع لحق المرأة في الانتخاب ، نعتبر هذا الحق مشروعاً من حيث الأصل . أما التطبيق العملي فنأخذ مما هو مشروع ما يناسب ظروفنا ويحقق مصالحنا .

                وننقل هنا رأياً للدكتور مصطفى السباعي - رحمه الله - وقد كان أستاذاً في الشريعة وعميداً لكلية الشريعة بجامعة دمشق ، وهذا الرأي الذي ننقله عنه إنما هو رأي مجموعة من المختصّين في الشريعة ، دار الحوار بينهم حول مدى إقرار الشريعة لحق المرأة في الانتخاب والترشيح . قال رحمه الله :

        " … رأينا بعد المناقشة وتقليب وجهات النظر أن الإسلام لا يمنع من إعطائها هذا الحق . فالانتخاب هو اختيار الأمة لوكلاء ينوبون عنها في التشريع ومراقبة الحكومة ، فعملية الانتخاب عملية توكيل يذهب الشخص إلى مركز الاقتراع فيدلي بصوته فيمن يختارهم وكلاء عنه في المجلس النيابي يتكلمون باسمه ويدافعون عن حقوقه ، والمرأة في الإسلام ليست ممنوعة من أن توكل إنساناً بالدفاع عن حقوقها ، والتعبير عن إرادتها كمواطنة في المجتمع … " [40].

        وبالإضافة إلى أن الانتخاب هو اختيار الأمة لوكلاء ينوبون عنها في مجلس الشورى أو ( مجلس الشعب ) ، كذلك يعتبر شهادة من الناخب بصلاحية من انتخبه للقيام بما سيعهد إليه من وظيفة الدولة ، والمرأة قَبِلَ القرآن الكريم شهادتها بالجملة في الآية الكريمة :[ فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ] [41]-[42]

‌ج.  إقرار الشريعة حق المرأة في الترشيح :

نعيد التذكير بأن القاعدة الأصولية تقول : ( الأصل في الأمور الإباحة ) .

وبناء على عدم ورود تحريم من الشارع لحق المرأة في الترشيح نعتبر هذا الحق مشروعاً من حيث الأصل ، أما التطبيق العملي فنأخذ مما هو مشروع ما يناسب ظروفنا ويحقق مصالحنا . وننقل هنا أيضاً رأياً للدكتور مصطفى السباعي ، قال رحمه الله : " … إذا كانت مبادئ الإسلام لا تمنع أن تكون المرأة ناخبة فهل تمنع أن تكون نائبة ؟ قبل أن نجيب على هذا السؤال يجب أن نعرف طبيعة النيابة عن الأمة .

إنها لا تخلو من عملين رئيسيين :

1- التشريع : تشريع القوانين والأنظمة .

2- المراقبة : مراقبة السلطة التنفيذية في تصرّفها وأعمالها .

أما التشريع فليس في الإسلام ما يمنع أن تكون المرأة مشرّعة ، لأن التشريع يحتاج قبل كل شيء إلى العلم مع معرفة حاجات المجتمع وضروراته التي لا بد منها ، والإسلام يعطي حق العلم للرجل والمرأة على السواء ، وفي تاريخنا كثير من العالمات في الحديث والفقه والأدب وغير ذلك .

  وأما مراقبة السلطة التنفيذية فإنه لا يخلو أن يكون أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ، والرجل والمرأة في ذلك سواء في نظر الإسلام . يقول الله تعالى : [ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ][43] ، وعلى هذا فليس في نصوص الإسلام الصريحة ما يسلب المرأة أهليتها للعمل النيابي كتشريع ومراقبة " [44].

  ونخلص من كلام الدكتور السباعي إلى أن المرأة مؤهَّلةٌ في نظر الشريعة للعمل النيابي ، وإذا كان الأستاذ الكريم قد رأى مع ذلك أنها لا تستعمل هذا الحق لأمور تتعلق بالمصلحة الاجتماعية فهذا اجتهاده في تقدير المصلحة في إطار عادات وتقاليد المجتمع السوري يوم قال هذا الرأي ، والمصلحة الاجتماعية قد تتغير من زمان إلى زمان ، ومن بلد إلى بلد ، كما تختلف الاجتهادات في تقديرها واعتبارها .

تاسعاً : المشاركة في النشاط السياسي والدعوي ورواية السنة النبوية[45] :

        فقد ورد في القرآن الكريم من مواقف نسائية طيبة تعتبر شاهداً على قوة الإيمان والفطنة والذكاء والقدرة على الحوار ، وامتلاك الحكمة والنباهة . ومن هؤلاء الخالدات :

        أم موسى عليه السلام وأخته ، وفتاة مدين ابنة نبي الله شعيب عليه السلام ، وامرأة فرعون مضرب المثل في الإيمان ، وامرأة عمران ، وخولة بنت ثعلبة .

        كما ورد ذكر شخصيات نسائية عظيمة في القرآن الكريم والسنة النبوية ، في حياتهن وسِيرَهِنّ البرهان والدليل على أن المرأة تمتلك من الصفات ما يجعلها قادرة على ممارسة حقوقها السياسية وأن تشارك الرجل في ذلك وتتولى الولايات العامة حين تتوفر فيها الشروط اللازمة لذلك . ومن هؤلاء النسوة :

1. ملكة سبأ بلقيس

2. مريم بنت عمران

3. سارة زوج إبراهيم عليه السلام

4. هاجر أم إسماعيل عليه السلام

5. خديجة بنت خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم

6. فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم

7. عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها

8. أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها

9. زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، ورضي الله عنها

10.   أم سُليْم ( الغميصاء بنت ملحان )

11.   أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما : ذات النطاقين .

12.   أسماء بنت عميس رضي الله عنها

13.   أم عطية الأنصارية رضي لله عنها

14.   فاطمة بنت قيس رضي الله عنها .

ويرد على حجج المعترضين في تولّي المرأة للولايات العامة وممارسة حقوقها السياسية بما يلي :

أولاً : في القوامة : وهي قوامة الرجل على النساء . وأدلتهم في هذا :

‌أ.  قول الله تعالى : [ الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ][46].

‌ب.قوله تعالى : [ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ] [47].

‌ج. قال الله تعالى : [ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما كسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ] [48].

فإذا نظرنا في سياق كل من الآيتين الأولى والثانية في موضعيهما في القرآن الكريم نجد أنهما يدوران في إطار الأسرة والحياة الزوجية ، ولا علاقة لهما بالحقوق السياسية للمرأة ، والقوامة التي شرعت للرجل في بيت الزوجية إنما كانت مقابل واجبات التزم بها لتستقرّ أمور الأسرة .

والعموم المأخوذ من النص ، والذي يقول به المعترضون على تولّي المرأة للولايات العامة وممارسة حقوقها السياسية ، إنما هو عموم في شؤون الأسرة ولا يتعداها إلى أمور أخرى خارج نطاقها .

وإذا سلمنا بالعموم هنا فهو عموم غير كامل بسبب صلاحية المرأة للولايات الخاصة التي اتفق الفقهاء عليها كالوصاية على اليتيم ونظارة مال الوقف وغيرهما [49].

وبالنظر أيضاً في سياق الآية الثالثة والآية اللاحقة لها التي يقول الله تعالى فيها : [ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا ] [50] نرى أنها خاصة بأفضلية الرجل في الميراث فقط وليس في الأمور السياسية .

يقول الإمام القرطبي : " كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان ، فلما ورثوا جعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، فتمنى النساء لو جعل أنصبائهن كأنصباء الرجال فنزلت الآية " [51].

ثانياً : القرار في البيوت وعدم الاختلاط بالرجال :

أ‌.  قوله تعالى :[ وقرْن في بيوتكنّ ولا تبرَّجن تبرّج الجاهلية الأولى ] [52].

ب‌. قوله تعالى :[ وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ] [53].

إن سياق الآية الأولى واضح الدلالة على خصوصية هذا الحكم بنساء النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث يقول تعالى : [ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتنّ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً * وقرْن في بيوتكن ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى ] [54].

  يقول الحافظ ابن حجر : " قوله تعالى : [ وقرن في بيوتكن ] فإنه أمر حقيقي خوطب به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، ولهذا كانت أم سلمة تقول : لا يحركني ظهر بعير حتى ألقى النبي صلى الله عليه وسلم " [55].

  وسياق الآية الثانية يدل أيضاً أنها تختص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول تعالى : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ] [56].

  يضاف إلى ذلك أن الحجاب الوارد في الآية يعني الستر الذي تجلس خلفه المرأة المتحجبة فلا يُرى شخصها ، وليس بمعنى ستر بدن المرأة بثياب سابغة كما هو شائع بين الناس ، فذاك حال وهذا حال آخر .

  وتدل أيضاً على خصوصية الآيتين بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم نصوص السنة التي توضح كيف لقي عامة نساء المؤمنين الرجال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجالات الحياة المختلفة دون حجاب - أي دون ستر يفصل بين الرجال والنساء - وذلك بعد نزول الآية .

  يقول الآلوسي : " إن المراد بالاستقرار الذي يحصل به وقارهن ، وامتيازهن على سائر النساء بأن يلازمن البيوت في أغلب أوقاتهن " [57].

       وهذا التخصيص لم يكن الوحيد بنساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد تعدّدت خصوصياتهن على غيرهن من نساء المؤمنين ، ومن ذلك :

1-  تحريم زواجهن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول تعالى : [ وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده ] [58].

2-  مضاعفة العذاب لهن إذا ارتكبن فاحشة ، يقول تعالى : [ يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً ] [59]-[60].

ومن المعلوم أن هناك مجالات يختلط فيها النساء بالرجال كما هو الحال أثناء خروجهن مع الجيوش لخدمة الجند وتمريضهم ورعايتهم ، وفي الحج والعمرة ، والبيع والشراء …

     والمرأة في حال لقائها الرجال ، مدعوة من الشارع الحكيم أن تكون محتشمة ساترة لعورتها غير متبرّجة ، وأن تراعي آداب الإسلام في الكلام والنظر والحركة ، والأخذ بكل الأسباب التي تدرأ بها ما يؤدي إلى مفسدة أو فاحشة بعيدة عن اللهو والعبث .

ثالثاً : النساء ناقصات عقل ودين :

        قال عليه الصلاة والسلام : " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن " [61].

        فإذا رجعنا إلى تمام نص الحديث كما ورد في الصحيحين [62] يتبيّن لنا أن :

1.  نقصان العقل مقصور على أمر واحد ، وهو أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ، والسبب هو ما أوضحه القرآن الكريم في قوله تعالى : [ أن تضلّ إحداهما فتذكّر إحداهما الأخرى ] [63].

2.  لو كان الأمر نقصان عقل لما قُبلت شهادتها مطلقاً في كل الميادين ، ومن المعلوم أن شهادة المرأة تقبل فيما يخصّها من الولادة والرضاع والنسب ، وفي الأمور التي لا يطّلع عليها الرجال ، لأن هذه الأمور قريبة من اهتماماتها فلا تنساها ، ويترتّب عليها أحكام خطيرة في حياة الناس وعلاقاتهم المالية والاجتماعية .

3.  نقص الدين ليس نقصاً في الإيمان ، ولا لأنها مخلوق متدنٍّ غير أهل للتزكّي وارتقاء أعلى الدرجات ، إنما المقصود أن الله تبارك وتعالى رفع عنها بعض العبادات في أوقات وحالات محددة ، فرفع عنها الصلاة والصيام أثناء الحيض والنفاس ، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بنص الحديث .

يقول ابن القيّم : " والمرأة العدل كالرجل في الصدق والأمانة والديانة ، إلا أنها لما خِيف عليها السهو والنسيان قُوِّيت بمثلها ، وذلك قد يجعلها أقوى من الرجل الواحد أو مثله " [64].

  " وإذا سايرنا الرأي محل المناقشة ، والذي يستند إلى هذا الحديث ، للزم الحَجْرُ على النساء في أموالهن ، وللزم منعهن من القيام بأي تصرّف قانوني ، وهذا غير مسلَّم به وغير موجود في الشريعة الإسلامية التي اعترفت للمرأة - خلافاً لما سبقها من الشرائع - بالشخصية القانونية وبالمساواة مع الرجل ، وكرّمت المرأة تكريماً لم يكن موجوداً من قبل " [65].

  فالمقصود من نقصان العقل : " نقصان الخبرة والثقافة والتجربة ، فإذا توفرت هذه جميعاً للمرأة عن طريق التربية والتثقيف فليس بين عقلها وعقل الرجل تفاوت ، كما نرى اليوم من تفوّق الطالبات على الطلبة في الجامعات والمعاهد وهذا حق ، ثم لماذا ننسى آخر الحديث ونذكر أوله فقط ؟ إن الحديث بطوله يقول : " ما رأيتُ أذهب للبِّ الرجل الحازم من إحداكن " ، فلو كان النقص هنا بمعنى البلاهة والعجز فكيف يغلبن أصحاب العقول والألباب " [66].

رابعاً : حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن يفلح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة " .

        فالحديث إنما يعني الولاية العامة على الأمة كلها أي رئاسة الدولة ( الإمامة الكبرى ) كما تدل عليه كلمة ( أمرهم ) فإنها تعني أمر قيادتهم ورياستهم العامة . أما بعض الأمر فلا مانع أن يكون للمرأة ولاية فيه ، مثل ولاية الفتوى أو الاجتهاد أو التعليم أو الرواية أو التحديث أو الإدارة ونحوها . فهذا مما لا ولاية فيه بالإجماع ، وقد مارسته على توالي العصور ، حتى القضاء أجازه أبو حنيفة فيما تشهد فيه . أي في غير الحدود والقصاص ، مع أن من فقهاء السلف من أجاز شهادتها في الحدود والقصاص ، كما ذكر ابن القيم في ( الطرق الحكمية ) . وأجازه الطبري بصفة عامة ، وأجازه ابن حزم ، مع ظاهريته ، وهذا يدل على عدم وجود دليل شرعي صريح يمنع من توليها القضاء وإلا لتمسّك به ابن حزم وجمد عليه وقاتل دونه كعادته " [67].

        فالحديث مخصوص بالإمامة الكبرى ( رئاسة الدولة ) لأنه إنما ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر له أن ابنة كسرى وليت أمرَ فارس .

        والنهي عن تولي المرأة للولاية الكبرى لا يعني - حتماً - النهي عن توليها باقي الولايات العامة لأنه ليس حتماً أن الشروط التي يجب توفّرها في ولاية أو مهمة أعلى يجب توفّرها في ولاية أو مهمة أدنى ، بل الغالب أن الشروط الواجب توفّرها في الأدنى أقل من شروط الواجب توفّرها في الأعلى والأهم .

        وبعد هذا الاستعراض الموجز يمكن القول بجواز ممارسة المرأة حقوقها السياسية وتولي الولايات العامة عدا الإمامة الكبرى أو ما يقوم مقامها من حيث الصلاحيات . كما هو معروف لدى بعض الأنظمة المعاصرة - كرئاسة الوزارة أو الحكومة ذات الصلاحيات الواسعة - ورئيس الدولة في هذه الأنظمة أشبه ما يكون بالرئيس الفخري ذي المكانة المعنوية وقليل الصلاحيات الدستورية . ويمكن مقابلة هذا المنصب بما يسميه فقهاء السياسة الشرعية بوزارة التفويض ، التي يشترط فيمن يتولاها أن تتوفر فيه إن لم يكن جميع شروط الخلافة فجلّها .

        فإذا استدعت المصلحة أن تتولى إحدى النساء إحدى الولايات العامة ، وخصوصاً ما لها علاقة في قضايا المرأة ، وما يتعلق بشؤون النساء الاجتماعية أو السياسية أو غيرهما من الشؤون الأخرى ، عندئذ لا بد من تحقق الأمور التالية :

توفّر شروط الأهلية المطلوبة لهذه الولاية حيث أن لكل وظيفة أو مهمة شروطاً يجب توفّرها فيمن يراد تكليفه بها … ولا يجوز تخصيص المرأة بالتخلّي عن شيء من هذه الشروط ، فالنساء والرجال في ذلك سواء .

2ـ عدم الإضرار بمهمتها الأولى والأصلية في الحياة ، وهي رعاية بيت الزوجية وشؤون الأولاد . فإذا تعارضت المصلحتان المنشودتان من المهمتين ، تقدّم المهمة الأولى لأن المرأة مُلْزمة بها بموجب النصوص الشرعية ، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام :" والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها " . أما الثانية فهي اختيارية إن رغبت في أدائها فذلك حق لها - في حال عدم إضرارها بالمهمة الأولى - وإن رغبت عنها فلا تثريب عليها .

3ـ التقيد بالضوابط والآداب الشرعية والاحتشام في اللباس والكلام والسلوك مما يستدعيه تحقيق قاعدة : درء المفاسد التي يمكن أن تنشأ عن لقائها الرجال أثناء أداء مهمتها المكلفة بها .

26 - جمادى الأولى - 1424 هـ

26 - تموز - 2003 م                                                                        دندل جبر


[1] سورة البقرة - الآية : 288 .

[2] سورة الحجرات - الآية : 13 .

[3] سورة آل عمران - الآية : 195 .

[4] سورة النحل - الآية : 97 .

[5] الدكتورة عائشة عبد الرحمن : محاضرة بالموسم الثقافي العام الجامعي ( 1966-1967 م ) بجامعة أم درمان . نقلاً عن كتاب الشورى وأثرها في الديمقراطية للدكتور عبد الحميد إسماعيل الأنصاري - ط3 - ص 310 .

[6] سورة التوبة - الآية : 71 .

[7] الأستاذ محمد رشيد رضا : نداء الجنس اللطيف - القاهرة - ( 1967 م ) ص7 . نقلاً عن الشورى وأثرها في الديمقراطية للدكتور عبد الحميد الأنصاري ، ص310 .

[8] سورة النور - الآية : 2 .

[9] سورة المائدة - الآية : 38 .

[10] رواه أبو داود . أنظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم 2329 . مسند الإمام أحمد بن حنبل - ج6 ص 191 . سنن البيهقي - ج1 ص 168 . العجلوني : كشف الخفا - ج1 ص 248 .

[11] بداية المجتهد - ج1 ص 172 .

[12] سورة التحريم - الآية : 10-12 .

[13] سورة التوبة - الآية : 71 .

[14] سورة الأحزاب - الآية : 73 .

[15] سورة الإسراء - الآية : 70 .

[16] سورة الإسراء - الآية : 23 .

[17] رواه البخاري ومسلم .

[18] رواه البيهقي في شعب الإيمان ، انظر صحيح الجامع الصغير - رقم 5248 .

[19] رواه البخاري ومسلم .

[20] سورة النمل - الآية : (32-34) .

[21] الحقوق السياسية للمرأة في الإسلام - ص61 .

[22] الدكتور فؤاد أحمد : مبدأ المساواة - ص ( 198-199 ) .

[23] رواه البخاري ومسلم .

[24] سنن أبي داود - ج3 ص ( 80-81 ) . سنن البيهقي - ج8 ص 29 . قال الحاكم في المستدرك على الصحيحين ، ج2 ص 141 : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه .

[25] الدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد : مبدأ المساواة في الإسلام - ص 223 .

[26] البخاري : كتاب الشروط .

[27] رواه البخاري ومسلم .

[28] فتح الباري شرح صحيح البخاري - ج7 ص 258 .

[29] المصدر السابق - ج7 ص 259.

[30] عبد الحليم أبو شقة : كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة - ج1 ص 312-315 .

[31] سورة التوبة- الآية :71 .

[32] السيد محمد رشيد رضا : نداء إلى الجنس اللطيف - ص 13 - طبعة المكتب الإسلامي - بيروت .

[33] د.محمد جعفر : الحقوق السياسية للمرأة في الإسلام - ص 59-60 .

[34] الدكتور عبد الحميد الشواربي : الحقوق السياسية للمرأة - ص 147 .

[35] رواه مسلم : كتاب الإيمان - باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون - ج1 ص53 .

[36] عبد الحليم أبو شقة : كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة - ج2 - ص 441-442 .

[37] انظر مقدمة الميزان للذهبي بتحقيق أبي الفضل إبراهيم .

[38] نيل الأوطار للشوكاني - ج8 ص 122 .

[39] انظر كتاب : تحرير المرأة في عصر الرسالة للسيد عبد الحليم أبو شقة - ج2 ص ( 442-451 ) .

[40] المرأة بين الفقه والقانون - ص 155 .

[41] الدولة القانونية للدكتور منير حميد البياتي - ط1 - ص 475-476 .

[42] سورة البقرة - الآية : 282 .

[43] سورة التوبة - الآية : 71 .

[44] المرأة بين الفقه والقانون للدكتور مصطفى السباعي - ص 156 .

[45] انظر تفصيل ذلك في كتاب المرأة والولايات العامة للسيد دندل جبر - ص 169-170 و 179-191 / ط1 .

[46] سورة النساء - الآية : 34 .

[47] سورة البقرة - الآية : 228 .

[48] سورة النساء - الآية : 32 .

[49] انظر تفصيل ذلك في كتاب المرأة والولايات العامة للسيد دندل جبر / ط1 - ص 15-25 .

[50] سورة النساء - الآية : 33 .

[51] انظر تفصيل ذلك في كتاب المرأة والولايات العامة للسيد دندل جبر - ط1 - ص 25-28 .

[52] سورة الأحزاب - الآية : 33 .

[53] سورة الأحزاب - الآية : 53 .

[54] سورة الأحزاب - الآية : 32-33 .

[55] فتح الباري شرح صحيح البخاري - ج8 ص 108 .

[56] سورة الأحزاب - الآية : 53 .

[57] تفسير روح المعاني للآلوسي - ج22 - ص9 .

[58] سورة الأحزاب - الآية :53 .

[59] سورة الأحزاب - الآية : 30 .

[60] انظر تفصيل ذلك في كتاب المرأة والولايات العامة للسيد دندل جبر - ص28-35 .

[61] رواه البخاري ومسلم .

[62]) عن أبي سعيد الخدري t قال : خرج رسول الله e في ضحى أو فطر إلى المصلى ، فمرّ على النساء فقال : " يا معشر النساء … ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن " قلن : وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله ؟ قال : " أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ؟ " قلن : بلى . قال : " فذلك نقصان عقلها . أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم ؟ " قلن : بلى . قال : " فذلك من نقصان دينها " .

[63] سورة البقرة - الآية : 282 .

[64] الطرق الحكمية - ص210 . تحقيق عصام الحرستاني - طبعة دار الجبل - بيروت .

[65] الحقوق السياسية للدكتور محمد جعفر - ص 53 ، نقلاً عن كتاب المرأة والحقوق السياسية في الإسلام - ص 212-215 .

[66] الأستاذ خالد محمد خالد : الديمقراطية أبداً - دار الكتاب اللبناني - ط4 ص 240-243 .

[67] الدكتور يوسف القرضاوي : فتاوى معاصرة - الحلقة الثانية .