التّقِيّة والدفاع في تحليل عقدة الاقتناع !
التّقِيّة والدفاع في تحليل عقدة الاقتناع !
مصباح الغفري
حدثنا أبو يسار الدمشقي قال :
همت على وجهي في باريس ، أبحث عن وجه أنيس . أكلم نفسي في الشارع ، وكأنني عقبة بن نافع . والعربي الذي لا يتحدث مع نفسه ، إلى أن يُوارى في رَمْسه . مغموز النسَب ، ومشكوك في انتسابه إلى العرب !
وبينا
أنا على هذه الحال ، بين باربيس والبيغال . إذ بصوت يصيح ، بلسان عربي فصيح :
ـ أين أنت يا أبا يسار ، وما الذي جاء بك إلى وكر الشُطّار ، أيها الكلوشار ؟
كان ذلك صوت الرفاعي غسان ، أخذته بالأحضان . قلت هلم بنا إلى الريستوران !
قال ، والدمع من عينبه ينهال : رؤيتكَ دائماً نتيجتها الإفلاس ، ووجع الجيب والراس . ألا يمكن تخفيف المُصيبة ، بفنجان قهوة بَدَل العصيدة ؟
قلت : لا وحق الله ذي الجلال ، فأموالكَ لأمثالنا حلال ، وإنفاقك علينا تطهير للمال !
قال : أنا دائماً كالباحث عن حتفه ، بقدميه وظِلْفِه . تحرّشْتُ بك يا وجه النحس ، ولن أعود إلى البيت وفي جيبي دانق أو فلس . لكني رأيتُكَ تُكلّمُ نفسَكَ كالمهبول ، فأدركت أنك في وضع مهول ، أبشر فكلّ مُشكلة لها حلول .
قلت أنا والله في ورطة ، لكأنني في قبو تحقيق أو مخفر شرطة . تبَلّغت أمراً بمغادرة فرنسا خلال شهر ، فأين المَفرّ ؟ ليس لدي جواز للسفر ، ولا بَلَدَ يقبلني حتى موريتانيا أو قطر .
صاح الرفاعي يا جدي يا رفاعي ، يا مُخْرِج الحيات والأفاعي . ما هذا العلاك ؟ مشكلتك بسيطة بساطة الأسماك . قبل ردح من الزمان ، حدثني عنك مروان . وهو في السفارة مسؤول الأمن والمخابرات ، وسيعطيك جواز السفر في لحظات !
قلت هذا ليس وقت المزاح والكوميديا ، فنحن في مأساة وتراجيديا . قال ، لقد أوصاه بك الدوتشي[1] العظيم ، وهو صديق لمروان قديم . والتقيت بمسؤول الأمن الموما إليه ، في مقهى لو باري في الشانزيليزيه . قال بعد الترحيب والمجاملات ، إنك يا أبا يسار لا تكتب إلا عن السلبيات ! قلت : وهل هناك في أنظمة القمع من إيجابيات ؟ قال إن ما تحقق في عهد سيادة الرئيس القائد ، لا يُنكرُه إلا كل جاحد أو حاقد . قلت هلا جئتني بمثال ، يا ابن الحلال .؟
لم يأتني الرجل بمثال عن التقدم والإزدهار ، فقلت له باختصار : هل إن وضع المعتقلين في السجون عدداً من السنين ، وإثراء الأقارب بالملايين . يدخل في باب التقدم والإشتراكية ، أم يقع تحت بند الوحدة والحرية ؟
فغر الرجل فاه ، واتسعت عيناه . قال إذا كان هذا رأيك في النظام في البلاد ، فدون حصولك على جواز السفر خرط القتاد . قلت : هذا رأيي وأنا أتمتع بالحرية ، وأعيش في ظل أنظمة ديموقراطية . أما إذا وقعت في أيدي المخابرات ، فسأغير رأيي قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات ! ذلك أنني أمام أقبية التحقيق أصابُ بعقدة الإقتناع ، من باب التقيّة والدفاع , هناك سوف تراني أهتف : بالروح والدم .. فإن كنت لبيباً فافهم .
قال أبو يسار ، وهو يكثر من الإستغفار :
عقدة الإقتناع إرث تاريخي منذ بويع يزيد ، فمن بايع فله المجد التليد ، ومن عصى فهو شيطان مريد. ألم يكن شاعر سورية الأكبر بدوي الجبل على حق حين قال :
كافورُ قَدْ جُنّ الزمانُ وإليكَ آلَ الصّولجانُ
كافورُ طاغيَة ، وفي بعض المشاهد بهلوانُ
هتفوا ، فبين شِفاههم وقلوبِهم ،حربٌ عوانُ
والظلْمُ من طبعِ الجبان ، فكلّ طاغية جبانُ
[1] الدوتشي هو لقب المحامي الصديق فيصل حقي