قصة جلايات مطار دمشق، التي طردت بسببها من العمل

طريف يوسف آغا

من الحياة اليومية لمواطن سوري

الجزء الثاني والأخير

هذا هو الجزء الثاني والأخير من قصتي الجديدة في سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي قصة حدثت معي شخصياً وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان. لمزيد من التفاصيل، يرجى قراءة الجزء الأول على صفحتي.

 كانت تفصلني عن التخرج من كلية الهندسة الميكانيكية مادتان فقط حين عملت لعدة أشهر في فرع دمشق لمؤسسة الاسكان العسكرية في ساحة الأمويين، على أمل أن أمضي فيه خدمة الدولة الاجبارية بعد تخرجي، وذلك للامتيازات التي كانت تمنح للمهندسين العاملين من حيث الرواتب وإعارة سيارة، إلا أن الأمور سارت على نحو لم أكن حتى لأتخيله. ذكرت في الجزء الأول كيف توظفت في قسم الميكانيك للفرع المذكور، ورافقت في أحد الأيام المهندس معاون رئيس القسم إلى صالة ركاب مطار دمشق الدولي لاجراء عملية إستلام فني لجلايات البلاط المستوردة عن طريق أحد تجار القطاع الخاص ووجدناها لاتطابق المواصفات الواردة في دفتر الشروط، بل أدنى بكثير.

 عدنا إلى مقر الفرع في ساحة الأمويين، واجتمعنا مع المهندس مديرنا ووضعناه في الصورة، فكان أن نظر إلى معاونه وسأله ماذا يقترح، فما كان من الأخير إلا أن نظر باتجاهي فعرفت أنه يريد نقل الكرة إلى ملعبي لتجنب المسؤولية. من جهتي فلم أر في الأمر إلا الناحية المهنية، وبالتالي فقلت لهما وبلا تردد: ياجماعة، إذا اتفقنا أن واحد زائد واحد يساوي اثنين، فهذه الجلايات مخالفة للمواصفات ولايمكن استلامها حسب دفتر الشروط المعطى لنا والسلام. وحين عاد المدير وسأل معاونه عن رأيه ووافق معي، قال بأنه بناء على ذلك سيرفض عملية الاستلام لحين تقديم التاجر للجلايات المتفق عليها، ولكنه لفت انتباهنا بأننا قد نجد أنفسنا في مواجهة مدير الفرع والذي سيتعرض لضغوط من التاجر أو المدير العام لتسديد ثمن الجلايات التي وضعت حيز الاستعمال قبل استلامها وماعاد يمكن إعادتها. وفعلاً فقد بدأت بوادر الأزمة تظهر في صباح اليوم التالي، حين قام (ضابط الآليات) بزيارتنا في مكتب الميكانيك وسأل المهندس معاون المدير عن سبب رفضه استلام الجلايات، علماً بأنه، أي ضابط الآليات، لاعلاقة له بهذا الأمر لا من قريب ولا من بعيد، والجدير بالذكر أن شخصية هذا الرجل كانت أقرب إلى (الشبيحة) من أي شئ آخر. كان مساعداً متقاعداً من الجيش في العقد السادس من العمر، اعتاد أن يتنقل من مكتب إلى مكتب ليروي مفاخراً قصص المشاجرات بالأمواس والمسدسات التي شارك فيها حين كان شاباً، ومازلت أذكر (بطحة العرق) التي كان يحملها دائماً في جيب معطفه الداخلي ويأخذ منها (قرفة) كلما (خرم) أو كلما أراد أن يأخذ استراحة وهو يروي إحدى قصصه إياها. كما واعتاد أن يستقوي ويهدد الموظفين برئيسه المباشر (ضابط آليات المؤسسة) ذي السمعة السيئة، والذي كان مقره الدائم في مركز المؤسسة في (عدرا)، وكان مرهوب الجانب ليس فقط لكونه ضابطاً من (الطائفة الكريمة) ولكن أيضاً لجسمه (البغالي) ولسانه (الزفر) ويده (الطويلة). حضر (ضابط آليات) فرعنا يومها إلى مكتبنا وراح يوجه لمعاون المدير كلاماً مبطناً جوهره التهديد والترهيب وغلافه المزح وادعاء (الخوف) على المصلحة العامة. وقد كنت جالساً أستمع لهذا الحديث، ولكني لاحظت أن الرجل كان يسترق النظرات بطرف عينه باتجاهي، وهي نظرات لم أرتح لها وفهمتها وكأنها كانت تقول بأن الأمور في الفرع كانت تسير بخير وسلام إلى أن أتى هذا الشخص (الذي هو أنا)، وبالتالي ساورني الشعور بأن أيامي في الفرع والمؤسسة لن تطول.

 لم يحرك مديرنا ساكناً في هذا الأمر، ظاناً أنه إذا استمر بموقفه الرافض لاستلام الجلايات فسيتم تبديلها حسب طلبه، إلى أن أتاه هاتفاً من مدير الفرع بعد أيام وطلبه إلى مكتبه فوراً. ولما عاد الرجل بعد أقل من عشرة دقائق، كان وجهه بلون (الشوندر) وكأنه عاد للتو من (الطنجرة)، وطلبني أنا ومعاونه إلى غرفته على الفور أيضاً. مضت دقائق على جلوسنا والمدير لاينطق بحرف، بل يسند كوعيه على طاولة مكتبه ويخفي وجهه بكفي يديه كمن حصلت له مصيبة. كشف الرجل عن وجهه أخيراً وحاول بصعوبة أن يرسم ابتسامة على وجهه ولكنه فشل فقال بعدها: لقد حاولنا ياشباب أن نقوم بواجبنا ونفعل ماهو مطلوب منا ومايرضي ضميرنا، ولكن يبدو أن القرار النهائي ليس لنا حتى في الأمور التي يفترض أنها كذلك. طبعاً كانت الأمور قد بدأت تتوضح، وما عدنا نشك أن موضوع (الجلايات) هو وراء الاجتماع، وتابع المدير قائلاً: لقد كان مدير الفرع غاضباً ولكنه كان أيضاً صريحاً ومباشراً ولم يضيع الوقت، حيث خيرني بين الموافقة على التوقيع على محضر استلام الجلايات اليوم قبل الغد وبين أن أقدم استقالتي وأسلم سيارتي وأذهب إلى بيتي. وأنتما تعلمان بأني متزوج وعندي أولاد والله أعلم كم من الوقت سيستغرق إيجاد وظيفة جديدة وبنفس الامتيازات، هذا إن وجدت وظيفة ولم تلاحقني سمعة بأني (أعرقل المصلحة العامة) كما وصفني المدير قبل دقائق. كان الاجتماع مؤثراً، وكاد الرجل يبكي وهو يروي لنا ماحدث، وشعرت بالصراع الذي كان محتدماً في داخله مابين مبادئه وضميره ومابين لقمة عيشه ومستقبله. كما أن معاونه كان أيضاً غارقاً في الصمت ولاينبس بحرف كمن تلقى هو الآخر صفعة على وجهه، فهو من ذهب إلى المطار ورفض الاستلام، وبالتالي فان فقد رئيسه المباشر لوظيفته، وكونه محسوب عليه دينياً وسياسياً ووظيفياً، فهو لاشك سيفقد عمله وسيارته وراتبه المغري، علماً بأنه أيضاً كان متزوجاً وعنده أولاد، وهذا كان ومازال مما يميز (سورية الأسد)، وهو ابتزاز الناس وتهديدهم بعائلاتهم ولقمة عيشهم.

 كنت أظن أن الاجتماع سينتهي هنا، وأن المدير دعانا إلى الاجتماع ليقول لنا بأنه سوف يوافق على استلام الجلايات و(يادار مادخلك شر)، إلا أنه وبدلاً من أن يعلن انتهاء الاجتماع، فقد التفت إلي هذه المرة وقال وهو لايتجرأ أن ينظر في عيني: أما أنت يا(مواطن) فقد أخبرني مدير الفرع أيضاً أنه يعرف بأنك أنت صاحب مقولة (واحد زائد واحد يساوي اثنين) وأنك من اقترحت رفض الاستلام وتسببت بهذه المشكلة، وبالتالي أخبرني بأنه لايوافق على تعيينك وطالبني بإنهاء عملك في نهاية الشهر الحالي، أي بعد حوالي العشرة أيام. ثم عاد وأردف: أنا آسف لأنك في النهاية من سيدفع ثمن هذه الحادثة، ولكنك على الأقل (عزابي) ولست مسؤولاً على أسرة مثلنا، وبالتالي يمكنك تحمل عبء البحث عن وظيفة جديدة، ولكني أعدك في نفس الوقت أن اعود وافتح الموضوع مع المدير بعد عدة أيام عل غضبه يكون قد هدأ ويوافق على إبقائك. من جهتي فقد عرفت بأن فترة عملي في هذا الفرع قد انتهت، وأن لاشئ سيجعل مدير الفرع يغير رأيه، فهكذا نماذج من البشر، وحين تكون في موقع القرار، لاتريد معها من يغرد خارج السرب.

 وفعلاً فقد صدق ظني، وأخبرني مديري بأن رئيس الفرع حين كان يتكلم معه يومياً، كما هو معتاد، كان هو من يذكره بموضوعي ويؤكد عليه أنه مازال على موقفه ويريدني خارج المكتب في نهاية الشهر. لصوص وراشون ومرتشون، ولكنهم أيضاً مدراء ومسؤولون في موقع القرار، ويفبركون لكل من يعارضهم ويعرقل مصالحهم تهماً مختلفة كعرقلة المصلحة العامة أو الاضرار بانجازات الشعب أو معارضة المسيرة الاشتراكية وغير ذلك من (الكليشات) التي حفظناها عن ظهر قلب على مدى نصف القرن الماضي، ومع ذلك يبقى هناك من يقول لك إلى اليوم (كنا عايشين وماشي حالنا).

وسوم: العدد 625