التّطبيع الخليجيّ في عيون نزار قبّاني

محمد خير موسى

نتنياهو في مسقط، وفي أبو ظبي ودبيّ وزيرة الثّقافة ووزير الاتصالات الإسرائيليّ، وفي الدّوحة وفد الجمباز من الكيان أيضًا؛ وكلّ هذا في غضون أيام أربعة وحسب؛ ما بالُها الصّحراء؟!

إنّ المشهدَ سينمائيٌّ حقًّا

فثمَّةَ دولةٌ من أقاصي الخليج

لمْ يسبقْ لهَا أن جرح إصبعَها

في أيَّةِ حربٍ مع إسرائيل

تتبرَّع بكتابةِ أوّل رسالةِ غزلٍ مكشوفٍ إليها

قبلَ عيد فالنتاين بوقتٍ طويل

نزار قبّاني الذي قال هذا وكأنّه يعاين ما نعاين ونعاني، والذي مات قبل أكثر من عشرين عامًا لم يكن يتخيّل أن يصل السّباق المحمومُ في مضمار التّطبيع الخليجيّ مع "إسرائيل" هذا الحدّ الذي بلغه هذه الأيّام.

نتنياهو في مسقط، وفي أبو ظبي ودبيّ وزيرة الثّقافة ووزير الاتصالات الإسرائيليّ، وفي الدّوحة وفد الجمباز من الكيان أيضًا؛ وكلّ هذا في غضون أيام أربعة وحسب؛ ما بالُها الصّحراء؛ ما الذي دهاها؟!!

قبلَ خمسينَ عامًا وقفَ نزارُ في بغداد يقدّمُ إفادته في محكمة الشّعر ليخبرنَا بنزقه المعتاد عن الصّحراء التي تجلدُنا بسياط التطبيع هذه الأيّام:

قرشيّونَ! لـو رأتهم قريـشٌ

لاستجارت من رملِها البيداءُ

يا فلسطينُ، لا تزالينَ عطـشى

وعلى الزيتِ نامتِ الصحـراءُ

قتلَ النفطُ ما بهم من سجايا

ولقد يقتـلُ الثـريَّ الثراءُ

يا فلسطينُ، لا تنادي قريشاً

فقريشٌ ماتـت بها الخيَـلاءُ

ذروةُ الذّلّ أن تموتَ المروءاتُ

ويمشـي إلى الـوراءِ الـوراءُ

قائمة التطبيع

وهنا يلتفتُ نزارُ إلى صديقته المندهشة من الصّور المتتابعة للتّطبيعِ القادمة من دول الخليج ليجيبها على سؤالها: ما الذي يجري يا نزار؟! قارئًا على مسامعها بعضًا من قصيدته التي أعلن فيها إدراج المتنبّي وأمَّ كلثوم على قائمة التّطبيع:

هذا زمن التّطبيع يا سيّدتي

يهجمُ علينا بكلّ سماسرته، وشيكاته

ومافياته

ليجرّدنا من آخر ورقة توت نسترُ بها

أجسادنا

 آخر قصيدةٍ ندافعُ بها عن أنفسنا

هذا زمن (التركيع) يا سيّدتي

يدخلُ علينا

مرًّة بشكلِ فيلسوفٍ

ومرًّة بشكل كاهنٍ

ومرًّة بشكل جنرال

ومرًّة بشكل كومسيونجي

إلى أن يصبحَ الوطن العربي

مركزًا للصرافة

وبيتًا للدعارة!!

بالنجمة السداسية

وعندما عاينَ نزار قبّاني العناقَ بين عباءات المسؤولين المحتَفين بالنّجمة السّداسيّة في مضمار السّياسة والثّقافة والرّياضة، انطلق لسانه صارخًا بأبياته التي ألقاها في تونس الخضراء قبل ستة وثلاثين عامًا من اليوم:

لولا العباءاتُ التي التفُّوا بها

ما كنت أحسبُ أنهم أعرابُ

قبلاتهم عربيّةٌ؛ من ذا رأى

فيما رأى قبلًا لها أنيابُ

والعالم العربي يرهن سيفه

فحكاية الشرف الرفيع سرابُ

ماتت خيول بني أميّة كلّها

خجلًا وظلّ الصرفُ والإعرابُ

وعندما رأى نزار قبّاني رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وافدًا مع زوجته على قصر البركة في مسقط، ورأى استقبال السّلطان قابوس لهم وسمع تبرير وزير الخارجيّة الذي سأل مستنكرًا؛ ولماذا لا نستقبل "إسرائيل"؟!! فهي دولةٌ من دول الشرق الأوسط!! وعاينَ اللّهاثَ والهرولة من الصّحراء لتخلع جلدها العربيّ وتلبسَ ثوبًا لم تعرفه من قبل؛ صرخَ نزار والدّمُ يملأ عروقه وقد انتفخت أوداجه واحمرّ وجهه بكلماتٍ قالَها قبل خمسة وعشرين عامًا:

سقطت آخرُ جدرانِ الحياءْ

وفرِحنا، ورقَصنا

وتبارَكنا بتوقيع سلامِ الجُبنَاءْ

لم يعُد يُرعبنا شيءٌ

ولا يُخْجِلُنا شيءٌ

فقد يَبسَتْ فينا عُرُوق الكبرياءْ

ودخَلنَا في زَمان الهروَلَةْ

ووقفنا بالطوابيرِ كأغنامٍ أمام المقصلةْ

وركَضنَا ولَهثنا

وتسابقنا لتقبيلِ حذاء القَتَلَةْ

نباح كلاب محمد

وعندما زارت ميري ريغيف وزيرة الثّقافة الصّهيونيّة التي وصفت الأذان بأنّه "نباح كلاب محمّد" الإمارات العربيّة المتّحدة وجلست في أبو ظبي غلى رئيس اتحاد الجودو وقد لفّت ساقيها العاريتين وأمسكت بكلتا يديها الملطّختينِ بالدّماء يد رئيس اتحاد الجودو الإماراتي في جلسةٍ بالغة الحميميّة تتجاوز معنى التطبيع الذي هو جعل غير الطبيعيّ طبيعيًّا؛ هنا سمع نزار صوت رئيس اتّحاد الجودو بل صوت كلّ من يمثّلهم من طبقةٍ رسميّة هناك يصفون اللقاء وطبيعة العلاقة مع ميري ريغيف وكيانها الذي تمثّله؛ يردّدون أبياته التي قالها قبل ثمانية وخمسين عامًا واصفةً هذا اللقاء الحميميّ:

ما عدتُ أذكرُ والحرائقُ في دمي

كيف التجأتُ أنا إلى زنديهِ

حتّى فساتيني التي أهملتُها

فرحت به؛ رقصت على قدميهِ

وبدون أن أدري تركت له يدي

لتنامَ كالعصفورِ بين يديهِ

ونسيتُ حقدي كلّه في لحظةٍ

من قال إنّي قد حقدتُ عليهِ؟!

بلا تطبيع

حقًّا مَن قال إنَّهم حقدوا أصلًا؟! ومن قال إنّهم يسعونَ إلى جعل غير الطّبيعيّ طبيعيًّا؟! ونحن نرى أنَّ المشهدَ يوحي بمبالغةٍ في الطبيعيّةِ بلا أدنى خجلٍ من الدّم المراق والأجساد المقطّعة والمقدّسات المغتصبة!!

وعلى عجلٍ يوجّه الشباب الحرّ الحيّ في دول الخليج؛ الذي أطلق حملةَ "بلا تطبيع" في قطر، ورفع شعار "عمانيون ضدّ التطبيع" وأطلق حملةَ "سعوديّون ضدّ التّطبيع" سؤالًا بكلّ حزنٍ وغضبٍ إلى نزار وهم يرون العلم الصّهيونيّ يرفرفُ في بلادهم؛ كيف دخل هؤلاء الصّهاينة علينا؟!! فيجيبهم ببعضٍ من هوامشه على جدار النّكسة التي كتبها قبل واحدٍ وخمسين عامًا:

ما دخلَ اليهودُ من حدودِنا

وإنَّما

تسرّبوا كالنملِ من عيوبنَا

كانَ بوسعِ نفطنا الدافقِ بالصحاري

أن يستحيلَ خنجرًا

من لهبٍ ونارِ

لكنًّهُ

واخجلةَ الأشرافِ من قريشٍ

وخجلةَ الأحرارِ من أوسٍ ومن نزارِ

يراقُ تحتَ أرجلِ الجواري

وأمَّا فلسطين التي ترقبُ المشهد بصمتٍ وغصّة؛ مشهد أبنائها وهم يتسابقون إلى احتضان مغتصبيها والاحتفاء بهم، فتخاطبهم على لسان نزار ببعضٍ من قصيدته التي قالها قبل ستّين عامًا من اليوم والدّمع يملأ مقلتيها:

تمرّغ يا أميرَ النفطِ فوقَ وحولِ لذّاتكْ

كممسحةٍ تمرّغ في ضلالاتكْ

لكَ البترولُ فاعصرهُ على قدَمي خليلاتكْ

كأنَّ حرابَ إسرائيلَ لم تُجهضْ شقيقاتكْ

ولم تهدمْ منازلنا ولم تحرقْ مصاحفنا

ولا راياتُها ارتفعت على أشلاءِ راياتكْ

كأنَّ جميعَ من صُلبوا

على الأشجارِ في يافا وفي حيفا

وبئرَ السبعِ ليسوا من سُلالاتكْ

تغوصُ القدسُ في دمها

وأنتَ صريعُ شهواتكْ

تنامُ كأنّما المأساةُ ليستْ بعضَ مأساتكْ

متى تفهمْ؟!

متى يستيقظُ الإنسانُ في ذاتكْ؟!

ثمّ تلتفتُ مشيحةً بوجهها عن مسؤولي تلكم الدّول وقد طعنوها في الظّهر مخاطبةً أبناءها من الشّعوب التي لم تنسَ ولن تنسى، وتطلبُ من نزار أن يخاطبَ أطفالها هناك فهي لا تريد أن يروها منكسرةً دامعة؛ فيقفُ نزارُ مستلًّا سيفَ الكلمةِ مستعيرًا كلمات قالها قبل إحدى وخمسين سنةً:

يا أيُّها الأطفالْ

من المحيطِ للخليجِ، أنتمُ سنابلُ الآمالْ

وأنتمُ الجيلُ الذي سيكسرُ الأغلالْ

ويقتلُ الأفيونَ في رؤوسنا

ويقتلُ الخيالْ

يا أيُها الأطفالُ أنتمْ ـ بعدُ ـ طيّبونْ

وطاهرونَ، كالنَّدى والثلجِ، طاهرونْ

لا تقرؤوا عن جيلنا المهزومِ يا أطفالْ

فنحنُ خائبونْ

ونحنُ، مثلَ قشرةِ البطيخِ، تافهونْ

ونحنُ منخورونَ منخورونَ كالنعالْ

لا تقرؤوا أخبارَنا

لا تقتفوا آثارنا

لا تقبلوا أفكارنا

فنحنُ جيلُ القيءِ، والزُّهريِّ، والسعالْ

ونحنُ جيلُ الدجلِ، والرقصِ على الحبالْ

يا أيها الأطفالْ:

يا مطرَ الربيعِ؛ يا سنابلَ الآمالْ

أنتمْ بذورُ الخصبِ في حياتنا العقيمهْ

وأنتمُ الجيلُ الذي سيهزمُ الهزيمهْ

ثمّ التفتَ نزارُ وقد سرت الحماسة في روحه وهو يتابعُ ما يجري على أرض فلسطين من استمرارٍ في مواجهة العدوّ الإسرائيليّ؛ فألقى على أبنائها بعض ما قاله قبل خمسين عامًا من اليوم ليقرِّر أيضًا حقيقةً لا تحتاج كثيرَ جدالٍ، وليسمعها كلّ المطبّعين الخائرين:

يا أيّها الثوّار

في القدسِ، في الخليلِ،

في بيسانَ، في الأغوار

في بيتِ لحمٍ، حيثُ كنتم أيّها الأحرار

تقدَّموا

تقدَّموا

فقصَّةُ السلام مسرحيّةْ

والعدلُ مسرحيّةْ

إلى فلسطينَ طريقٌ واحدٌ

يمرُّ من فوهةِ بندقيّةْ

وسوم: العدد 796