من عيون المراثي تائية أبي الحسن الأنباري

د. عبد القدوس أبو صالح

لعلك تعلم أن للقصائد حظوظاً كحظوظ الناس، ولربما نظم الشاعر قصيدة كتبت لها الشهرة أكثر من صاحبها.. ومن هذه القصائد تلك القصيدة التي قالها شاعر مقل مغمور في رثاء الوزير ابن بقيّــة الـذي كـان يحسن إلى الشــاعر، وكـان مـن المشهــوريـن بالجـود حتى إنه خلع في عشرين يوماً عشرين ألف خلعــة، وكان هذا الوزير يعرّض بعضــد الدولــة بـن بويــه، فلما ظفر به أمر بطرحــه للفِيَلــة فقتلتــه، ثم أمر بصلبه عند داره بباب الطـاق في بغداد، فرثــاه أبو الحسن محمد بن عمر الأنباري بقصيدة رائعة قال في خبرها الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق:

"لما وضع أبو الحسن المرثية كتبها ورماها في شوارع بغداد، فتداولها الناس والأدباء، إلى أن وصل الخبر إلى عضد الدولة، فلما أنشدت بين يديه تمنى أن يكون هو المصلوب دونه، وقال: عليّ بهذا الرجل، فطلب الشاعر سنة كاملة، واتصل الخبر بالصاحب بن عباد وهو بالرّيّ، فكتب للشاعر الأمان، فقصد حضرته، فقال له: أنت القائل هذه الأبيات؟

فقال: نعـم، فقال: أنشدنيها من فيك. فلما أنشده قام إليه الصاحب وعانقه وقبل فاه، وأنفذه إلى عضد الدولة، فلما مثل بين يديه..

قال له: ما الذي حملك على مرثية عدوّي؟

فقال الشاعر: حقوق سلفت وأياد مضت، فجاش الحزن في قلبي فرثيت.. ولما استمع عضد الدولة منه إلى القصيدة أعطاه فرساً وبدرة من المال.

وفي هذه القصيدة يقول ابن خلكان:

"وقد اتفق العلماء على أنه لم يعمل في بابها مثلها"..، ومع أن أبا تمام وصف الأفشيـن وأصحـابه حين صلبهم المعتصم في أبيات يسيرة أحسن فيها علـى عادته إلا أن مرثية أبي الحسن الأنباري جاءت أكمل معنىً، وأصدق عاطفة، وأروع صوراً، وذلك حيث يقول:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) الندى: الكرم. الصِّلات، الأعطيات.

(2) السافيات: الريح التي تسفي الغبار.

(3) الجذع: ساق الشجرة.

(4) الترات: جمع ترة، وهي الثأر.

(5) الغليل: أراد به حرقة الحزن.

وسوم: العدد 878