سُـلَيمانيَّات

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

السُّلَيمانيَّة الأُولى

1

مَخَافَةُ الرَّحمنِ رَأْسُ المَعْرِفَةْ!

والجَاهِلُوْنَ يَرْتَعُوْنَ حَاسِرِيْ رُؤُوْسِهِمْ،

في بَيْضَةٍ أُدْحِيَّةٍ مِنَ السَّفَهْ!

2

إِذَا تَـمَلَّقَتْكَ مَذْلَةٌ:

«هَلُمَّ، طِفْلَ صَبْوَتِـيْ أَنَا،

نَـكْمُنْ بِجُبِّ يُوْسُفٍ،

نَمْلَأْ كُؤُوْسَنَا أَغَانِيًا،

تَعَالَ، قَلْبَ قَلْبِيْ..

لَا تَـخَفْ ولَا تُـرَعْ...

نَبِـعْ خُيُوْلَـنَا غَدًا لِلطَّاعِنِيْنَ في الحِمَى،

نَبِـعْ عُقُوْلَـنَا بِعَقْلِنَا هُنَا..

مَا هَمَّنَا..

ولَا نَدَعْ!...»

...

إِذَا...

إِذَا...

لَا تَلْتَفِتْ لِوَجْهِهَا،

لَا تَرْتَشِفْ مِنْ صَوْتِهَا!

فَطَالَـمَا، في عَيْنِ كُلِّ ذِيْ جَنَاحٍ،

تُنْصَبُ الشِّرَاكُ،

تُوْقَدُ النُّجُوْمُ لِلشُّعُوْبِ في مَدَاخِلِ البِيَعْ!

3

مِنْ حِكْمَتِـيْ شَوَارِعٌ تَسِيْلُ،

تَسْقِيْ صَوْتَهَا

في كُلِّ سُوْقٍ قَسَّهَا،

أو صَلْتَهَا

مُنَادِيًا:

«إِلَى مَتَى؟!..

إِلَى مَتَى؟!»

...

«مُغَنِّـيًا وأَصْنَجًا بِثَغْرِهِ»(1):

«إِلَى مَتَى؟!..

إِلَى مَتَى؟!»

...

يَظَلُّ فَاغِرًا سُؤَالَـهُ كَالزَّوْبَعَةْ!

كَذلِكُمْ مَنْ يَأْكُلُوْنَ مِنْ ثِـمَارِ قَحْطِهِمْ،

ويَشْبَعُوْنَ مِنْ رَحِيْقِ جُوْعِهِمْ،

ثُـبًى.. ثُـبًى،

مِنْ كُلِّ مُنْحَلِّ الوِكَاءِ إمَّعَةْ!

هُوَ المِجَنُّ،

ظَاهِرًا وبَاطِنًا، لِلسَّالِكِيْنَ بِالكَمَالِ،

جُنَّةٌ مِنَ الغَرِيْبَةِ الَّتي أَنْفَاسُهَا الحَيَّاتُ في النَّايَاتِ،

مَنْ هَفَا،

هَفَا..

لَهُ تَصُبُّ رَأْسَهَا،

وتَسْكُبُ الرَّبِيْعَ في الخَرِيْفِ؛

بَيْتُهَا: يَسُوْخُ في المَوَاتِ،

سُبْلُهَا: مَشَتْ في دَاجِيَاتِ الأَخْيِلَةْ!

فَكُلُّ دَاخِلٍ عَلَيْهَا لَا يَؤُوْبُ،

كُلُّ عَابِرٍ إِلَيْهَا غَيْرُ عَابِرٍ مَدَى الحَيَاةِ لِلْحَيَاةِ،

كَيْفَ؟

وهْوَ عَاشَ عَاشِقًا لِلَبْوَةٍ ضِرْغَامَةٍ،

لِدِفْءِ نَهْدَيْهَا يَشُفُّهُ الوَلَهْ!

1

تَقَلَّدِ الجَمَالَ مِنْ جِيْدِ الغَزَالْ

قُمْ، يَا غَزَالُ، واكْتُبِ الحَقَّ الزُّلَالْ

بِلَوْحِ قَلْبِكَ الحَرِيْرِ،

تَمْتَلِئْ خَزَائِنُ السَّحَابِ بِالثِّـمَارِ والغِلَالْ

تَفِضْ مَعَاصِرُ الكُرُوْمِ بِالجَمِيْلَاتِ

اللَّوَاتِـيْ مِنْ عُيُوْنِهِنَّ

لَاحَ مَا اشْتَهَيْنَ مِنْ مَعَادِنِ الرِّجَالْ!

2

طُوْبَى لِـمَنْ تَقَطَّرُ السَّحَابُ مِنْ نَدَى مَحَّبَتِهْ!

لَا تَبْرَحُ النُّجُوْمُ في سَمَاوَاتِ النَّعِيْمِ

تَقْتَفِيْ مَا تَقْتَفِيْ مِنْ وَارِفَاتِ جَنَّتِهْ

إِذَا اضْطَجَعْتَ،

لَا تَخـَافُ طَارِقًا،

ولَا تُرَاعُ مِنْ فَحِيْحِ بَغْتَتِهْ

يَصُوْنُ رِجْلَكَ الأَمَانُ

في حَفِيْفِ مُوْرِقَاتِ دَوْحَتِهْ

مِنْ سَارِقٍ أو مَارِقٍ بَيْنَ الرُّؤَى بِشِكَّتِهْ

إِنَّ الحَكِيْمَ وَارِثٌ مَجْدًا،

ومَوْرُوْثُ السَّفِيْهِ مِنْ رَمَادِ مَا احْتَـبَى مِنْ رِمَّتِهْ!

الحِكْمَةُ الرَّأْسُ،

الَّذِيْ..

«كَأَنَّهُ رَأْسُ حَضَنْ 

في يَوْمِ غَيْمٍ ودَجَنْ»

...

لِأَنَّهُمْ مِنْ خُبْزِ شَرٍّ يَطْعَمُوْنَ،

خَمْرِ ظُلْمٍ يَشْرَبُوْنْ

لِأَنَّهُمْ مِثْلُ الظَّلَامِ لِلظَّلَامِ يُوْفِضُوْنَ،

لَا يَعُوْنَ مَا بِهِ سَيَعْثُرُوْنَ

في طَرِيْقِهِمْ إِلَى سَيْفِ الـمَنُوْنْ

مَهْمَا يَكُوْنُوْا،

أو تَكُنْ،

فَفَوْقَ كُلٍّ احْفَظِ الفُؤَادَ،

وابْعَثْ فِيْهِ كُلَّ سَاعَةٍ

تَارِيْخَهُ مُجَدَّدَا

لِأَنَّ مِنْهُ فِيْكَ تَخْرُجُ الحَيَاةُ لِلْحَيَاةِ،

لَا تَدَعْ سَمَاءَهُ،

بِعَيْنِ أَنْجُمِ الغَرَامِ،

صَخْرَةً،

أو كَالفَضَاءِ فَدْفَدَا!

1

ومَرْأَةٍ،

لَهـَا شِفَاهٌ نَاطِفَاتٌ بِالعَسَلْ

حَدِيْثُـهَا مِنْ عِطْرِهَا،

وعِطْرُهَا أُسْطُوْرَةٌ حَدِيْثَةٌ مُنْذُ الأَزَلْ

لكِنَّهَا كَالسَّيْفِ ذِيْ الحَدَّيْنِ،

يَمْضِيْ بَيْنَ قُبْلَتَيْكُمَا بِلَا خَجَلْ

ورِجْلُهَا تَخُوْضُ في دِمَاءِ قَلْبِكَ الذَّبِيْحِ،

يَا لَرِجْلٍ مِنْ قُبَلْ!

2

اِشْرَبْ عُلَاكَ،

بَيْرَقًا مِنَ الشُّمُوْخِ،

هكَذَا هَامُ الجِبَالِ،

مُذْ أَبـَتْ عَلَى الدُّنَى ولَمْ تَزَلْ!

يَنْبُوْعُكَ السَّمَاءُ

لَا جُبُّ المِيَاهِ/

ظَبْيَةٌ بِزَمْزَمَ ارْتَوَتْ،

وأَرْوَى في شَمَارِيْخِ الزَّمَانِ والقُلَلْ

لَا صَدْرَ تُغْوِيْ حَلْمَتَاهُ

طِفْلَ ثَغْرِكَ العَتِيْقِ في المَسَاءِ،

لَا قَوَامَ نَخْلَةٍ-

تَعَثْكَلَ البَرْحِيُّ مِنْ شُمُوْسِهَا-

تُرْضِيْ هَوَاكَ، يَا فَتَى،

ولَا الكَفَلْ!

اُنْجُ كَظَبْيٍ مِنْ فَمٍ فَرَّاسَةٍ،

أو مِثْلَ عُصْفُوْرٍ نَجَا مِنْ عَصْرِ أَمْعَاءِ القَدَرْ!

اِذْهَبْ إِلَى مَدَارِسِ النَّمْلِ الحَكِيْمِ،

ادْرُسْ بِهَا مَنَاهِجًا في عِلْمِ تَدْبِيْرِ الحَيَاةِ،

عِلْمِ صَبْرٍ صَابِرٍ،

ولَاتَ حِيْنَ مُصْطَبَرْ!

إِلَى مَتَى؟!..

إِلَى مَتَى تَنَامُ، يَا كَسْلَانُ، هكَذَا؟!

وحَوْلَكَ الضَّجِيْجُ،

مِلْءَ مَسْمَعِ الأَصَمَّيْنِ،

الحَدِيْدِ والحَجَرْ؟!

بِمَرْأَةٍ، لَيْسَتْ بِأُنْثَى حُرَّةٍ،

يُسْتَعْبَدُ المَرْءُ الكَرِيْمُ،

يَجْتَدِيْ رَغِيْفَ عِزٍّ يَابِسٍ!

أَ يَحْضُنُ الإِنْسَانُ نَارًا بَيْنَ جَنْبَيْهِ،

فَلَا يَصْلَى بِمَسٍّ مِنْ سَقَرْ؟!

أَمْ هَلْ تُرَاهُ:

إِنْ مَشَى عَلَى الجَحِيْمِ،

فَوْقَ قَرْنِهِ تَـمَشَّى (مَالِكٌ)،

رِجْلَاهُ تَرْجُوْ بَارِدًا،

بِهِ تُسَرُّ،

أو تُغَرْ؟!

حَدَّقْتُ في أَحْدَاقِ لَيْلـِيْ مَرَّةً،

إِذَا غُلَامٌ صَاعِدٌ في شَارِعِ الظَّلَامِ صَوْبَ فَجْرِهِ،

بِلَا حِذَاءٍ أو حَذَرْ

كَالثَّوْرِ يَعْدُوْ نَحْوَ مَنْحَرِ الحَجِيْجِ في (مِنًى)،

حَتَّى إِذَا أَتَاهُ،

خَارَ، لَاعِنًا تَارِيْخَهُ،

وأُمَّةً خَانَتْهُ في (بَحْرِ البَقَرْ)!

أو مِثْلَ طَيْرٍ هَاوِيًا لِفَخِّهِ،

تَتْلُوْهُ في أَهْوَائِهِ طَيْرٌ أُخَرْ

فَقَبَّلَتْهُ غَادَةٌ في آخِرِ الضِّيَاءِ

قُبْلَةَ الوَدَاعِ،

ثُمَّ وَارَتِ السَّمَاءَ مِنْ وَرَائِهَا عَلَيْهِ

في غَيَابَةِ النَّهَرْ

وعَطَّرَتْ سَرِيْرَهَا بِعُوْدِهَا ومُرِّهِ،

بِمَا فُنُوْنُهَا هَمَتْ،

ومَلْثِ مَا رَوَتْ مِنَ الرُّؤَى...

أَغْوَتْهُ،

طَوَّحَتْ بِنَجْمِهِ ضُحًى،

فَهَلْ تُرَى مِنْ نَاهِدَيْهَا لِلْغَزَالِ مِنْ مَفَرْ؟!

ذَبَائِحُ السَّلَامَةِ

ارْتَوَتْ مِنَ النِّصَالِ كُلُّهَا،

حَتَّى ثُـمَالَةِ المِيَاهِ في صَفَا العُمُرْ

وهكَذَا أَدْرَكْتُ، آخِرَ السُّؤَالِ:

أَيْنَ يَذْهَبُ الذَّبِيْحُ مِنْ أَحْفَادِ (قَيْسٍ)،

كُلَّمَا انْبَرَتْ لَهُ سِكِّيْنَةٌ لَيْلِيَّةٌ صَقِيْلَةٌ

مِنَ الحِوَارِ والحَوَرْ؟!

الحِكْمَةُ الَّتي بَنَتْ قَصْرًا لَنَا،

الحِكْمَةُ الَّتي سَمَتْ مَنْحُوْتَةً

عَلَى شِفَاهِ المُرْسَلَاتِ والرُّسُلْ

الحِكْمَةُ الَّتي أَتَتْ بِعِيْدِنَا،

ورَاحِنَا،

يَفُجُّ فِيْنَا صُبْحُهَا،

شَعْشَاعَةً وصَافِيَةْ

ورَتَّبَتْ مَوَائِدَ الأَعْرَاسِ في أَعْصَابِنَا،

مِنْ كُلِّ بَحْرٍ لِلرُّؤَى،

مِنْ بَرِّ كُلِّ قَافِيَةْ

هَا أَرْسَلَتْ بِهَامِهَا،

أَعْلَى شُمُوْخِ شِعْرِهَا،

أَعْلَى قُصُوْرِهِ الأُوَلْ

نَادَاكَ مِنْ أُمِّ الذُّرَى نَئِيْمُهَا:

أَيُّهَا الإِنْسَانُ،

لَا تَقْطَعْ يَدَكْ!

كَيْ يُحِبَّ في الرَّبِيْعِ ثَوْرَتَكْ!

كَيْ يُخِبَّ في الصَّهِيْلِ مُهْرَتَكْ!

لَا تَحْزَنْ ولَا تُحْرِقْ دَمَكْ!

فَلَوْ نَخَلْتَ جَاهِلًا،

بَيْنَ السَّمِيْدِ والحَسَكْ

لَظَلَّ صَامِدًا عَلَى آبـَائِهِ،

مِنَ النِّفَاقِ والأَفَكْ!

لَذِيْذَةٌ حُرُوْفُهُ،

وبَعْدُ،

يَمْلَأُ الكِتَابَ بِالكُرَبْ!

أو كَمُضْجَعٍ بِرَأْسِ سَارِيَةْ

يَنْدَاحُ مَضْجَعُ الهَوَى،

في نَبْضِ شِعْرٍ عَاشِقٍ،

بِمُهْجَةٍ مِنَ الضِّيَاءِ عَارِيَةْ!

في كَوْكَبٍ مِنْ فِضَّةٍ،

لَا آدَمٌ لَهـَا،

ولَا حَوَّاءُ..

مَا لَهـَا نَسَبْ

قَصِيْدَةٌ لِفَيْلَسُوْفٍ مِنْ طَرَبْ!

أَطْعِمْهُ قُرْصًا مِنْ دِمَائِكَ الَّتي لَيْلًا سَفَكْ

ولْتَسْقِهِ مَاءً،

إِذَا مَا المـَاءُ جَفَّ في العُرُوْقِ،

والبُرُوْقِ،

أو هَلَكْ

تُغْرِيْ بِقَلْبِهِ الجَحِيْمَ،

تَبْتَنِـيْ قَلْبَ النَّعِيْمِ مَهْجَعَكْ!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) من أغاني (اليَمَن)، للشَّاعر (مهدي علي حمدون)، مقطعٌ بليغ: «أَصْنَجْ بِجَنْبِهْ مُغَنِّي». وأَصْنَج- أو أَسْتْنَج، بلهجات (فَيْفاء)- تعني: أَصَم. وقد وردت هذه الكلمة- المستعملة في محكيَّات جَنوب الجزيرة العَرَبيَّة- على أنها: «أَصْلَج»، في تراثنا المكتوب. ومعلوم أنَّ العَرَبيَّة تَرَحَّلت إلينا عبر المشافهة إلى الكتابة، فوقع خلطٌ كبير، وتصحيفٌ واسع، ساعدت عليه إشكالات الخطِّ العَرَبي؛ فرُبَّ مسموعٍ أصحُّ من مكتوب.

وسوم: العدد 1127