شوقي لبابنَّا

مصطفى عكرمة

عيشي ببابنَّا دواءُ شكاتي

فلطيبِ تُربتِها تحنُّ رفاتي

فترابُ بابنَّا جداولُ نعمةٍ

دفَّاقةٍ بأطايبِ النّفحاتِ

تروي ظماءَ الرَّوحِ منها نسمةٌ

يا طيبَ ما تُهدِيهِ من نسماتِ!

فيها ترى ما اللهُ كرَّمها به

من سابغِ الإنعامِ والبركاتِ

آياتُ قدرتِهِ بها منشورةٌ

تدعوكَ للتّصديقِ بالآياتِ

فيها وُلِدْتُ، وشاءَ ربِّي منبتي

منها، فمن ذرَّاتِها ذرَّاتي

منها بدايةُ رحلتي في عالمي

وبها أودُّ لو انتهت رحلاتي

ما فارقتْ عينايَ روعةُ حُسنِها

رغمَ اغترابي، فهي أُنسُ حياتي

هي كنزُ ذاكرتي، فدونَ بهائها

شعري، ودونَ فضائها كلماتي

عزَّ الجهادُ بأهلها، فرجالُها

ونساؤها للدِّينِ خيرُ حُماةِ

مستمسكونَ حميَّةً بعقيدةٍ

شُغِلوا بعزَّتها عن اللذَّاتِ

عاشوا المروءةَ والإباءَ فدأبُهمْ

حرصٌ على إنباتِ خيرِ نباتِ

تستنبتُ الصخرَ الأصمَّ أكفُّهمْ

فيفيضُ جدبُ الأرضِ بالثمراتِ

فإذا المدى أنَّى اتّجهتَ مباهِجٌ

تُغري النُّفوسَ بأسعدِ السَّاعاتِ

للحبِّ والإيثارِ يحيا أهلُها

ولمنْ أتاهُمْ عيشةُ الجنَّاتِ

هيهاتَ أن تُحصى مزايا أهلِها

ولـهُـمْ أُصَعِّدُ خاشِعاً دعواتي

فيها أبو جدِّي سميِّي راقدٌ

يا طيبَ ما أبقى من الخيراتِ!

أدَّى فريضةَ حجِّهِ سيراً، ولمْ

يأبهْ بذاكَ العصرِ من ويلاتِ

واختارَهُ المولى إليهِ ساجِداً

لتكونَ ميتَتُهُ أحبَّ مماتِ

وعلى خُطاهُ رجوتُ ربِّي عيشتي

وختامَها بالذِّكرِ والصَّلواتِ

وأبي ومن ضحّوا لعزَّتِها بها

وبها أحبَّةُ مهجتي، ولِداتي

من جاهدوا، ويجاهدونَ لعِزِّها

وتراهُمو صفَّاً لدى الأزماتِ

كمْ جرَّ حُسَّاداً، وأغرى حاقِداً

ما عمَّ فيها من جليلِ هِباتِ!

ولكمْ ببأسٍ، واتِّقادِ عزيمةٍ

ردٌّوا العدوَّ بأوجَعِ الحَسَرَات!ِ

كم بالتُّقى صاغوا المصائبَ نعمةً

فلهُمْ بربِّ العرشِ خيرُ صِلاةِ!

هذي الملامِحُ صُغتُها متعجِّلاً

عن مجدِ بابنَّا لجيلٍ آتِ

أسطورةً كانت، ويبقى مجدُها

أسطورةً تسمو عن الشُّبهاتِ

***

هل كانَ بِدعاً أن أحنَّ لتُربِها

من بعدِ تغريبٍ، وطولِ شتاتِ!

وبها ثوَتْ أُمِّي، وطابتْ تُربةً 

فيها ثوَتْ فاستمطرتْ عَبَراتي

رحَلَتْ، وما سمِعَتْ نداءاتي لها

يوماً، ولمْ تَعِ وجهَها نظراتي

لو أنَّ طرْفي حازَ نضرةَ وجهِها

لأقامَ في نومي، وفي صحواتي

ويُقالُ لي: وجهي يُشابِهُ وجهها

لكأنّنا وجهانِ في المرآةِ

إنْ صحَّ ما قد قيلَ فهي كرامةٌ

فيها أرى فخري، وخيرَ صِفاتي

لو قبَّلتْ شفتايَ تُربتَها لما

وفَّتْ طيوبَ تُرابها قُبُلاتي

***

عيشي ببابنَّا كفايةُ مُهجتي

من عالمٍ متناقِضِ الغاياتِ

شرقٌ وغربٌ واصطناعُ مظالِمٍ

وتصارعٌ أودى بكلِّ أناةِ

الكونُ في كفِّ الدَّمارِ، وأرهقت

كفَّاً، فصارَ الخسفُ أقربَ آتِ

لمْ تبقَ نفسٌ تطمئنُّ هنيهةً

من هولِ ما تلقاهُ من نكباتِ

فالقتلُ والتدميرُ ميزةُ عصرنا

لمَّا تسلَّطَ فيه شرُّ طُغاةِ

سلبُ العفاةِ وقتلُ كلِّ كرامةٍ

عمداً تعدَّى حُرمةَ الأمواتِ

لا يُسألُ الطَّاغوتُ عن إجرامِهِ

مهما استُبيحتْ حُرمةُ الحُرماتِ

لم يبقَ عدلٌ في الأنامِ، ورحمةٌ

والمتَّقونَ غَدَوْا أشرَّ جُناةِ

والأبرياءُ الـمُصلِحـونَ ومن هُدُوا

صاروا إلى الإرهابِ شرَّ دُعاةِ

هذا الذي صنعوا السِّلاح لأجلِهِ

فعليهِ منَّا ألفُ ألفِ عُفاةِ

***

عذراً لتُربةِ منبتي، ومُقامِها

فلها على عُمرِ المدى صبواتي

فاعذرْ فديتُكَ لائمي في حُبِّها

واعذرْ شكاتي إنْ شَجَتْكَ شكاتي

فأحبُّ ما أبقى الحنينُ من المُنى

أن قُرْبَ أمِّ تستقرُّ رُفاتي

وإلى جنانِ اللهِ يمضي ركبُنا

بجناحِ رحمةِ واسِعِ الرَّحَماتِ

وسوم: العدد 793