صوت من وراء الغيب يوقظ أحفاده

د. عبد الرحمن الحطيبات

د. عبد الرحمن الحطيبات

مشرف اللغة العربية

مدارس الجامعة الملك فهد للبترول –  الظهران

[email protected]

ذلك الصوت الفرد الذي يتجاوز حدود المكان والزمان, وكأني به يهتف بنا صباح مساء  هو صوت شاعرنا لقيط بن يعمر الإيادي ، وكانت قبيلته إياد كثيرة العدد شديدة المنعة وقد نزلوا ارض العراق وكانوا قد أغاروا على أموال لكسرى الفرس ( أنو شروان) وأخذوها فوجه لقتالهم جيشاً ضخماً . وكان لقيط متخلفاً في الحيرة ويقال انه كان يتولى الكتابة في ديوان كسرى ، فكتب إلى قومه قصيدة يحذرهم فيها بما عزم عليه ملك الفرس ، وجعل عنوان الكتاب :

سلام في الصحيفة من لقيط      إلى من في الجزيرة من إياد

فان الليث كسرى قد أتاكم          فلا يحبسكم ســوق الـنقاد

وفيها يقول: 

يَا  دَارَ  عَمْرَةَ  مِنْ  مُحْتَلِّهَا  الْجَرَعَا        هَاجَتْ لِيَ الْهَمَّ  وَالْأَحْزَانَ  وَالْوَجَعَا

تَامَتْ فُؤَادِي بِذَاتِ  الْجِزْعِ  خَرْعَبَةٌ        مَرَّتْ   تُرِيدُ   بِذَاتِ   الْعَذْبَةِ    الْبِيَعَا

بِمُقْلَتَيْ   خَاذِلٍ   أَدْمَاءَ   طَاعَ    لَهَا        نَبْتُ  الرِّيَاضِ  تُزَجِّي  وَسْطَهُ   ذَرَعَا

وَوَاضِحٍ  أَشْنَبِ  الْأَنْيَابِ  ذِي   أُشُرٍ        كَالْأُقْحُوَانِ   إِذَا   مَا    نُورُهُ    لَمَعَا

جَرَّتْ لِمَا  بَيْنَنَا  حَبْلَ  الشُّمُوسِ  فَلاَ        يَأْسًا  مُبِينًا  أَرَى   مِنْهَا   وَلاَ   طَمَعَا

فَمَا   أَزَالُ   عَلَى   شَحْطٍ    يُؤَرِّقُنِي        طَيْفٌ  تَعَمَّدَ  رَحْلِي   حَيْثُمَا   وُضِعَا

إِنِّي   بِعَيْنَيَّ    إِذْ    أَمَّتْ    حُمُولُهُمُ        بَطْنَ  السَّلَوْطَحِ  لاَ  يَنْظُرْنَ  مَنْ  تَبِعَا

طَوْرًا   أَرَاهُمْ   وَطَوْرًا    لاَ    أُبِينُهُمُ        إِذَا   تَوَاضَعَ    خِدْرٌ    سَاعَةً    لَمَعَا

بَلْ أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي عَلَى عَجَلٍ        نَحْوَ    الْجَزِيرَةِ    مُرْتَادًا    وَمُنْتَجِعَا

أَبْلِغْ   إِيَادًا   وَخَلِّلْ    فِي    سَرَاتِهُمُ        إِنِّي أَرَى الرَّأْيَ إِنْ لَمْ أُعْصَ قَدْ نَصَعَا

يَا لَهْفَ  نَفْسِيَ  أَنْ  كَانَتْ  أُمُورُكُمُ        شَتَّى  وَأُحْكِمَ  أَمْرُ  النَّاسِ   فَاجْتَمَعَا

أَلاَ   تَخَافُونَ   قَوْمًا   لاَ   أَبَا    لَكُمُ        أَمْسَوْا  إِلَيْكُمْ  كَأَمْثَالِ  الدَّبَا   سُرُعَا

أَبْنَاءُ   قَوْمٍ   تَآوَوْكُمْ    عَلَى    حَنَقٍ        لاَ   يَشْعُرُونَ   أَضَرَّ   اللَّهُ   أَمْ   نَفَعَا

أَحْرَارُ   فَارِسَ   أَبْنَاءُ   الْمُلُوكِ   لَهُمْ        مِنَ الْجُمُوعِ  جُمُوعٌ  تَزْدَهِي  الْقَلَعَا

فَهُمْ   سِرَاعٌ   إِلَيْكُمْ    بَيْنَ    مُلْتَقِطٍ        شَوْكًا وَآخَرَ يَجْنِي الصَّابَ  وَالسَّلَعَا

لَوْ    أَنَّ    جَمْعَهُمُ    رَامُوا    بِهَدَّتِهِ        شُمَّ الشَّمَارِيخِ  مِنْ  ثَهْلاَنَ  لانْصَدَعَا

فِي  كُلِّ  يَوْمٍ  يَسُنُّونَ  الحِرَابَ  لَكُمْ        لاَ  يَهْجَعُونَ  إِذَا  مَا   غَافِلٌ   هَجَعَا

خُزْرٌ     عُيُونُهُمُ     كَأَنَّ     لَحْظَهُمُ        حَرِيقُ  نَارٍ  تَرَى   مِنْهُ   السَّنَا   قِطَعَا

لاَ الْحَرْثُ يَشْغَلُهُمْ بَلْ لاَ  يَرَوْنَ  لَهُمْ        مِنْ  دُونِ  بَيْضَتِكُمْ  رِيًّا   وَلاَ   شِبَعَا

وَأَنْتُمُ  تَحْرُثُونَ  الْأَرْضَ  عَنْ  عَرَضٍ        فِي   كُلِّ   مُعْتَمَلٍ   تَبْغُونَ   مُزْدَرَعَا

وَتُلْحِقُونَ    حِيَالَ    الشَّوْلِ     آوِنَةً        وَتُنْتِجُونَ    بِذَاتِ    الْقَلْعَةِ     الرُّبُعَا

وَتَلْبَسُونَ    ثِيَابَ    الْأَمْنِ     ضَاحِيَةً        لاَ تَفْزَعُونَ  وَهَذَا  اللَّيْثُ  قَدْ  جَمَعَا

أَنْتُمْ   فَرِيقَانِ   هَذَا   لاَ    يَقُومُ    لَهُ        هَصْرُ  اللُّيُوثِ  وَهَذَا  هَالِكٌ   صَقَعَا

وَقَدْ   أَظَلَّكُمُ   مِنْ   شَطْرِ    ثَغْرِكُمُ        هَوْلٌ   لَهُ    ظُلَمٌ    تَغْشَاكُمُ    قِطَعَا

مَا   لِي   أَرَاكُمْ   نِيَامًا   فِي   بُلَهْنِيَةٍ        وَقَدْ تَرَوْنَ شِهَابَ الْحَرْبِ قَدْ  سَطَعَا

فَاشْفُوا  غَلِيلِي  بِرَأْيٍ  مِنْكُمُ   حَسَنٍ        يُضْحِي  فُؤَادِي  لَهُ  رَيَّانَ   قَدْ   نَقَعَا

وَلاَ  تَكُونُوا  كَمَنْ  قَدْ  بَاتَ  مُكْتَنِعًا        إِذَا   يُقَالُ   لَهُ   افْرُجْ   غَمَّةً    كَنَعَا

قُومُوا  قِيَامًا  عَلَى  أَمْشَاطِ  أَرْجُلِكُمْ        ثُمَّ افْزَعُوا  قَدْ  يَنَالُ  الْأَمْرَ  مَنْ  فَزِعَا

صُونُوا  خُيُولَكُمُ   وَاجْلُوا   سُيُوفَكُمُ        وَجَدِّدُوا   لِلْقِسِيِّ   النَّبْلَ    وَالشِّرَعَا

وَاشْرَوْا تِلاَدَكُمُ  فِي  حِرْزِ  أَنْفُسِكُمْ        وَحِرْزِ  نِسْوَتِكُمْ   لاَ   تَهْلِكُوا   هَلَعَا

وَلاَ   يَدَعْ   بَعْضُكُمْ   بَعْضًا    لِنَائِبَةٍ        كَمَا  تَرَكْتُمْ   بِأَعْلَى   بِيشَةَ   النَّخَعَا

أَذْكُوا الْعُيُونَ وَرَاءَ السَّرْحِ وَاحْتَرِسُوا        حَتَّى تُرَى الْخَيْلُ  مِنْ  تَعْدَائِهَا  رُجُعَا

فَإِنْ   غُلِبْتُمْ   عَلَى   ضِنٍّ    بِدَارِكُمُ        فَقَدْ    لَقِيتُمْ    بِأَمْرٍ    حَازِمٍ    فَزَعَا

لاَ  تُلْهِكُمْ  إِبِلٌ   لَيْسَتْ   لَكُمْ   إِبِلٌ        إِنَّ    الْعَدُوَّ    بِعَظْمٍ    مِنْكُمُ    قَرَعَا

هَيْهَاتَ  لاَ  مَالَ  مِنْ  زَرْعٍ  وَلاَ  إِبِلٍ        يُرْجَى  لِغَابِرِكُمْ  إِنْ  أَنْفُكُمْ   جُدِعَا

لاَ   تُثْمِرُوا   الْمَالَ   لِلْأَعْدَاءِ    إنَّهُمُ        إِنْ  يَظْفَرُوا  يَحْتَوُوكُمْ  وَالتِّلاَدَ   مَعَا

وَاللَّهِ  مَا  انْفَكَّتِ  الْأَمْوَالُ  مُذْ   أَبَدٍ        لِأَهْلِهَا    إِنْ    أُصِيبُوا    مَرَّةً     تَبَعَا

ياَ  قَوْمِ  إِنَّ  لَكُمْ  مِنْ  إِرْثِ   أَوَّلِكُمْ        عِزًّا قَدْ  أَشْفَقْتُ  أَنْ  يُودَى  فَيَنْقَطِعَا

مَاذَا   يَرُدُّ    عَلَيْكُمْ    عِزُّ    أَوَّلِكُمْ        إِنْ  ضَاعَ  آخِرُهُ   أَوْ   ذَلَّ   واتَّضَعَا

وَلاَ    يَغُرَّنَّكُمْ    دُنْيَا    وَلَا     طَمَعٌ        لَنْ   تَنْعَشُوا   بِزِمَاعٍ   ذَلِكَ   الطَّمَعَا

يَا  قَوْمِ   بَيْضَتُكُمْ   لاَ   تُفْجَعُنَّ   بِهَا        إِنِّي  أَخَافُ  عَلَيْهَا  الْأَزْلَمَ   الْجَذِعَا

يَا  قَوْمِ  لاَ  تَأْمَنُوا   إِنْ   كُنْتُمُ   غُيُرًا        عَلَى  نِسَائِكُمُ  كِسْرَى  وَمَا   جَمَعَا

هُوَ   الْجَلاَءُ   الَّذِي    تَبْقَى    مَذَلَّتُهُ        إِنْ  طَارَ  طَائِرُكُمْ  يَوْمًا   وَإِنْ   وَقَعَا

هُوَ  الْفَنَاءُ   الَّذِي   يَجْتَثُّ   أَصْلَكُمُ        فَشَمِّرُوا  وَاسْتَعِدُّوا   لِلْحُرُوبِ   مَعَا

وَقَلِّدُوا     أَمْرَكُمْ      لِلَّهِ      دَرُّكُمُ        رَحْبَ الذِّرَاعِ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مُضْطَلِعَا

لاَ  مُتْرَفًا  إِنْ  رَخَاءُ  الْعَيْشِ  سَاعَدَهُ        وَلاَ  إِذَا  عَضَّ   مَكُرُوهٌ   بِهِ   خَشَعَا

لاَ   يَطْعَمُ   النَّومَ   إِلاَّ   رَيْثَ    يَبْعَثُهُ        هَمٌّ   يَكَادُ   أَذَاهُ    يَحْطِمُ    الضِّلَعَا

مُسَهَّدَ     النَّوْمِ     تَعْنِيهِ      أُمُورُكُمُ        يَؤُمُّ   مِنْهَا    إِلَى    الْأَعْدَاءِ    مُطَّلِعَا

مَا  زَالَ  يَحْلُبُ  دَرَّ  الدَّهْرِ  أَشْطُرَهُ        يَكُونُ      مُتَّبِعًا      يَوْمًا       وَمُتَّبَعَا

وَلَيْسَ      يَشْغَلُهُ      مَالٌ      يُثَمِّرُهُ        عَنْكُمْ  وَلاَ   وَلَدٌ   يَبْغِي   لَهُ   الرِّفَعَا

حَتَّى  اسْتَمَرَّتْ  عَلَى  شَزْرٍ   مَرِيرَتُهُ        مُسْتَحْكِمَ السِّنِّ لاَ قَمْحًا وَلاَ  ضِرَعَا

كَمَالِكِ   بْنِ   قَنَانٍ   أَوْ    كَصَاحِبِهِ        زَيْدِ  الْقَنَا  يَوْمَ  لاَقَى  الْحَارِثَيْنِ   مَعَا

إِذْ   عَابَهُ   عَائِبٌ   يَوْمًا   فَقَالَ    لَهُ        دَمِّثْ  لِنَفْسِكَ  قَبْلَ  الْيَوْمِ  مُضْطَجَعَا

فَسَاوَرُوهُ     فَأَلْفَوْهُ     أَخَا      عِلَلٍ        فِي الْحَرْبِ  يَحْتَبِلُ  الرِّئْبَالَ  وَالسَّبُعَا

مُسْتَنْجِدًا   يَتَحَدَّى    النَّاسَ    كُلَّهُمُ        لَوْ قَارَعَ النَّاسَ  عَنْ  أَحْسَابِهِمْ  قَرَعَا

هَذَا   كِتَابِي   إِلَيْكُمْ   وَالنَّذِيرُ   لَكُمْ        فَمَنْ رَأَى  مِثْلَ  ذَا  رَأْيًا  وَمَنْ  سَمِعَا

لَقَدْ بَذَلْتُ  لَكُمْ  نُصْحِي  بِلاَ  دَخَلٍ        فَاسْتَيْقِظُوا  إِنَّ  خَيْرَ  الْقَوْلِ  مَا  نَفَعَا

يتبين لنا من مطالعة الأبيات السابقة عمق انتماء الفرد العربي إلى قومه وشعوره الأصيل بارتباطه المصيري بمن ينتسب إليهم وتحذيره لقومه قبل أن يدهمهم الجيش الفارسي ، كان نابعاً من شعوره المخلص العميق بالصراع الحاد بين كسرى المتجبر والقبائل العربية ، ذلك الصراع الذي انتهى متأزماً في موقعه ذي قار التي تعد نصراً قومياً رائعاً انتصف فيه العرب لأنفسهم .

كان لقيط عربياً أصيلاً يملاْ جوانحه الحب والوفاء لأهله وأبناء قومه ، فبادر ينذرهم ويدعوهم للتوحد .

في القصيدة دعوة صريحة رائدة إلى وحدة الرأي ، الرأي الحكيم.الصائب ،ووحدة القوم بعيداً عن الخلافات الفردية التي لن يحصدوا من ورائها غير الضياع ، ضياع الأرض والمال والعرض والماضي بعزه ومجده .

وقد اعتمد الشاعر الأسلوب الخطابي المباشر في دعوته لقومه لذلك نجد أن أفعال الأمر تزدحم في الأبيات ( أبلغ ، خلل ، فأشفوا ……… ) بل الأمر المشفوع بالتوكيد ( قوموا قياما ) .

ولم يقف الشاعر عند الأمر ، بل تعداه إلى أسلوب النهي في صرخاته المتباينة ، يستنهض وينبه ويوقظ ويكشف عن حقيقة المستقبل المظلم . ولذا فهو يكرر صيغ النهي .

ويواصل الشاعر توظيف الأسلوب الطلبي في مباشرة الخطاب ، ولكنه يعتمد هذه المرة على أسلوب النداء ، وهو كثير في القصيدة أيضا . ثم يتحول عنه إلى الاستفهام المجازي متعجباً تارةً ، كما في قوله  ( ما لي أراكم ) ومستعظماً مرة أخرى كقوله (ماذا يرد عليكم ).

لقد استطاع الشاعر أن ينقل من خلال صدق عواطفه وأصالة أحاسيسه ما كان يضطرب في نفسه من شعور بالغيرة والخوف على قومه من الهزيمة وان يقدم لنا أنموذجاً حياً للإنسان الوفي لقومه .

إن قارىء هذه الأبيات لا يجد فيها عسراً في الفهم أو صعوبة في إدراك مرامي لقيط فقد كانت واضحة تمام الوضوح وكان الشاعر متمكناً من لغته تمام التمكن موظفاً صياغاته اللفظية ، وبناء جملة توظيفاً موفقاً لايصال أفكاره ومعانيه .

وتقف قصيدة لقيط بن يعمر الإيادي هذه  على رأس المجموعات الشعرية التي دونت ، من عصره ، والتي وقد كتب لتلك القصيدة مقدمة شعرية من أربعة أبيات ، وبعد هذه المقدمة ، وصف فيها حال قومه وضعفهم وتخاذلهم ، وبين لهم ما يجب أن يتحلى به من يسندون إليه قيادتهم ، ومطلعها:

        يا دار مية من محتلها الجرعا            هاجت لي الهمَّ والأحزان والوجعا

وختمها بقوله :

هذا كتابي إليكم والنـذير لكم             لـمن رأى رايه منكم ومن سمعا

وتذكِّر هذه القصيدة بوضع الأُمَّة في هذه الأيام، فأوجه التشابه كثيرة بين وضع قبيلة الشاعر( إياد) ، وقد انغمست في لهوها وملذَّاتِها، وتركت نفسها عُرضة لكسرى وجيشه، وبين وضع أمتنا، وقد ذلّت لأذلِّ الأذلين, وسلكت صراط الضالين,  ما أحوجنا إلى أن نقرأ هذه القصيدة بقلوبنا وعقولنا، فضلاً عن قراءتها بالألسن! والقيادات في هذه في هذه الأمة أشدُّ حاجةً لقراءتها، فضعف الأمة وتفرُّقها وتشرذمها كضعف وتفرُّق إيادٍ قبيلة الشاعر، وتنازع وتشاحنٌ بين دول الأمة كالبغضاء التي سادت فروعَ عشيرة الشاعر، وقياداتٌ لا تختلف في كثير ولا قليل عن قيادات وزعماء وأمراء عشيرة إياد، وقد أكلها الضَّعف وهَدَنَها الفُرقة، ولفَّها الهوان بثوبه وأصابتها المذلَّة،كتب الشاعر القصيدة ووضعها في كتاب، وعنونه بالعبارات التالية - وفي العنوان تنبيه وأيُّ تنبيه:

كتابٌ من لقيط إلى مَن بالجزيرة من إياد،

ثمَّ إنَّ العنوان يذكِّر بتشابُهٍ آخر، فقد حذَّر قومه من أن يشغلهم سوق المال عمَّا ينتظرهم من عدوِّهم، وكأنَّ لقيطًا يطلُّ علينا عبر القرون والزَّمن، ويُحذِّرنا من أن تشغلنا أسواقُ المال، بل كأنَّه اخترق حجبَ الزمان والمكان، فأطلَّ علينا ورأى اهتمامنا بالبورصة وأسعار العملات وتجارة الأسهم، إنَّه مؤشر مُهِم، وفي بداية القصيدة فيه من التنبيه ما يكفي لو تنبَّه الغافلون.

حمل همَّ عشيرته، فهل حملنا هَمَّنا كأمَّة؟! حريٌّ بكلِّ من له اهتمام بالشأن العام أن يقرأَ، ويقرأ هذه القصيدة مرارًا وتكرارًا، في المطلع عبارات تذكِّر بأوجه التشابه بين الحالتين: حالة إيادٍ، وحال الأمة، فوَضْعُ الأمة ليس أفضل من وضع إياد، فكلاهما في وضع يثير الهمَّ والحزن والألم، إنَّ ما يفعله اليهود في فلسطين وفي غزة وغيرها، وفي الأقصى يَمْلأ القلوب همًّا وحزنًا وألَمًا؛ "هَاجَتْ لِيَ الْهَمَّ وَالْأَحْزَانَ وَالْوَجَعَا"، وإليك القصيدةَ، والتي لنا عودٌ بقراءة سريعة لها، وإن كانت هذه القصيدة تستحقُّ الدِّراسة المستفيضة من المختصين؛ علَّها تحظى بما يَحظى به بعض الأدب الهابط هذه الأيام.

إنَّ قراءة قصيدة لقيط إضافةً لكونِها من التُّراث، فهي حاجة لنا في هذا الزَّمن، وقد تكالبت علينا الأُمم، وتداعت كما تتداعى الأَكَلة إلى قصعتها، فها هو لقيط يطلُّ علينا كما أطلَّ على قومه بنصيحة يعجب منها ذَوُو العقول الرَّاجحة؛ حيثُ يرفعُ لواء المقاطعة مع الأعداء ومَنْعِ التعاوُن معهم، وهي أسئلةٌ لمن يضعُ مال الأُمَّة في أيدي وبنوك الأعداء بحجج واهية، تفطَّن لها لقيط من آلاف السنين، ونبَّه لخطورتها؛ حيث يقول:

ثمَّ يحذرهم من أن يُجتثُّوا من أصلهم إنْ هم توانَوْا وخنعوا وخضعوا لعدوِّهم، ويثير فيهم النخوة والغَيْرة على نسائهم، فهو يُحذرهم من أنَّ كسرى وأتباعه سيقتلونَهم ويستحلون نساءَهم، وقد رأينا على شاشات التِّلفاز في العصر الحديث بَغْيَ أدعياءِ الحضارة الغربية، وتجاوُزهم لكلِّ موروث ديني أو ثقافي لأهل الأرض في "أبو غريب" وغيره؛ حيث يقول:

 

يَا قَوْمِ بَيْضَتُكُمْ  لاَ  تُفْجَعُنَّ  بِهَا        إِنِّي أَخَافُ عَلَيْهَا الْأَزْلَمَ الْجَذِعَا

يَا قَوْمِ لاَ تَأْمَنُوا  إِنْ  كُنْتُمُ  غُيُرًا        عَلَى نِسَائِكُمُ كِسْرَى وَمَا جَمَعَا

 

حريٌّ بنا أنْ نقرأَ القصيدة ونقرأَها ويقرأَها ويَحفظها أبناؤنا وبناتنا، وأنْ تكونَ في مناهجنا، وأن تدرَّس في جامعاتنا ومدارسنا، ففيها أكثرُ مما ذكرت، وتَحتاج لمزيد من الدِّراسة وإلقاء الأضواء.

ونلاحظ أن الشاعر قد حدد  صفات القائد لمرحلةِ الدِّفاع عن وجود العشيرة "الأمة"، فلا بُدَّ أن يكون خبيرًا بالحرب، جَسورًا لا يَخشى في الله لَوْمَةَ لائم، صبورًا على المكروه لا يجزع ولا يخاف، ذو رأيٍ سديد وقلب من حديد، ليس له مال يشغله عن مهامه في الدِّفاع عن العشيرة "الأمة"، واشترط ألا يكون له ولدٌ يريد له القيادة، كما يفعل كثير من حكام الأُمَّة، فيشغله عن أداء مهامه في الدِّفاع وتحمُّل تبعات مواجهة الأعداء؛ حيث يقول:

 

وَقَلِّدُوا     أَمْرَكُمْ     لِلَّهِ      دَرُّكُمُ        رَحْبَ الذِّرَاعِ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مُضْطَلِعَا

لاَ  مُتْرَفًا  إِنْ  رَخَاءُ  الْعَيْشِ  سَاعَدَهُ        وَلاَ  إِذَا  عَضَّ  مَكُرُوهٌ   بِهِ   خَشَعَا

لاَ   يَطْعَمُ   النَّومَ   إِلاَّ   رَيْثَ   يَبْعَثُهُ        هَمٌّ   يَكَادُ   أَذَاهُ   يَحْطِمُ    الضِّلَعَا

مُسَهَّدَ     النَّوْمِ     تَعْنِيهِ     أُمُورُكُمُ        يَؤُمُّ   مِنْهَا   إِلَى    الْأَعْدَاءِ    مُطَّلِعَا

مَا زَالَ  يَحْلُبُ  دَرَّ  الدَّهْرِ  أَشْطُرَهُ        يَكُونُ      مُتَّبِعًا      يَوْمًا      وَمُتَّبَعَا

وَلَيْسَ      يَشْغَلُهُ      مَالٌ      يُثَمِّرُهُ        عَنْكُمْ  وَلاَ  وَلَدٌ   يَبْغِي   لَهُ   الرِّفَعَا

حَتَّى  اسْتَمَرَّتْ  عَلَى  شَزْرٍ  مَرِيرَتُهُ        مُسْتَحْكِمَ السِّنِّ لاَ قَمْحًا وَلاَ  ضِرَعَا

 

ثمَّ يختم ببيتين من أجمل الشِّعر وأصدقه وأعذبه، فهو يراهم نيامًا، ولا بُدَّ من أن يستيقظوا،  فهذا لقيط يقول:

 

هَذَا كِتَابِي  إِلَيْكُمْ  وَالنَّذِيرُ  لَكُمْ        فَمَنْ رَأَى مِثْلَ ذَا رَأْيًا وَمَنْ سَمِعَا

لَقَدْ بَذَلْتُ لَكُمْ نُصْحِي بِلاَ دَخَلٍ        فَاسْتَيْقِظُوا إِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ مَا نَفَعَا

 

بَقِيَ أن نذكر أن  الذِّكْرُ الحسن بَقِيَ للقيط  وسجل في عداد الخالدين، رَغْم مرور آلاف السنين على الحادثة، ما أحوجَ الأمةَ إلى صدق العزيمة وإخلاص النية!  ما أحوجَ الأمةَ إلى  ألسنة كلسان لقيط! ما أحوجَ الأمةَ إلى شِعْرٍ كشِعْر لقيط! ما أحوجَ الأمةَ إلى نُفُوس أبيَّة كنفس لقيط! ما أحوجَ الأمةَ إلى قائد بالمواصفات التي ذكرها لقيط!